أدب الرعب والعام

مقبرة الشيطان

بقلم : أحمد محمود شرقاوي – مصر
للتواصل : [email protected]@yahoo.com

أنه انوبيس اله الموتى عند المصريين ، كان ضخماً ، أنيابه كبيرة و وجهه مخيف
أنه انوبيس اله الموتى عند المصريين ، كان ضخماً ، أنيابه كبيرة و وجهه مخيف

 
” في ظروف أقل ما يُقال عنها أنها غامضة ، مخيفة ، مرعبة ، لقي كل أهالي قرية الغمراوي مصرعهم في أقل من أسبوع واحد ، و لا زالت الحقيقة هناك بين عوالم الشياطين”.
 
قرأت الخبر في أرشيف الجرائد السنوية ، و بالأخص جريدة الأسبوع العشرون لسنة 2005م.
 
كان الخبر مريباً لأقصى درجة ، بل قل أنه من أغرب الأخبار التي قرأتها في هذا الباب “باب الخوارق”.

ربما تتسأل نحن في عام 2020 م فما الذي قد يدفعني للبحث في أرشيف الجرائد القديمة ؟ ببساطة أيها القارئ السبب هو أنت ، نعم أنت الذي لا تكل أو تمل من طلب المزيد من الأخبار المخيفة في هذا القسم ، و بما أنني مُطالب بنشر حكاية غريبة كل أسبوع ، و بما أن عقلي قد أصابه العقم منذ شهور و لم يعد ينجب أي أفكار فقد تحايلت على الجميع ، قررت أن اقتبس من الحوادث القديمة لأكتب من جديد ، لا ، لا تنظر إلي هكذا ، فمعنى أنني لن أكتب يوحي بأنني لا أصلح للجريدة ، مما يترتب عليه الطرد ، الطرد الذي سيجعل حياتي جحيماً.
 
سامحني في النهاية لأنني أخدعك ، في الحقيقة كلنا نخدعك ، تسعون بالمائة من الحكايات في هذا القسم مؤلفة ، و الباقية مستوحاة فقط من أحداث حقيقية.

انتهيت من قراءة المقال الذي كان بعنوان “مقبرة الشيطان” ثم قررت أن أكتب عن نفس الفكرة ، و لكن لنخفي أسم القرية و نجعل أسم القصة ” القرية المنكوبة ” هذا أفضل كثيراً من أن يبحث أحد الشباب التافه عن محتوى القصة فيجدها قديمة و يُفتضح أمري.
فتحت محرك البحث جوجل و كتبت “قرية الغمراوي “
 
و لكن ما جعل جسدي يرتجف هو كم الأخبار الذي وجدته عن تلك القرية !.
 
“قرية الأموات”.
“حقيقة مقبرة الشيطان في قرية الغمراوي”.
“القرية التي هاجمها الشيطان”.
“شهود عيان على حادثة قرية الغمراوي”.
 
يا الله ! أذن لم تكن الحكاية من وحي خيال المؤلف الذى توفى منذ سنوات ، للحكاية جذور حقيقية.
بحثت أكثر وأكثر و لكني لم أجد شيئاً قد يفيدني ، كلها مجرد اجتهادات لا تُسمن ولا تغني من جوع ، أصابني إحباط مفاجئ بعدما وجدت كل المقالات مجرد أراء و اجتهادات من الكثيرين ، و بما أنني صحفي فيمكنني أخبارك أنني أكثر من يميز التأليف من الحقيقة، و إذ بي أجد تلك المقالة.
 
” إنها علا محمد عبد الدايم ، شقيقة صاحب المقبرة التي تقطن في قرية مجاورة و التي أخبرت الشرطة عن كم الأهوال التي لاقتها في البيت قبل الزواج ، كما طالبت السلطات من الحفاظ على حياة أخيها و الذي قد يُهاجم من الشياطين في أي وقت ، و قد قامت السلطات بحجز شقيقها في مصحة الأمراض العقلية بالعباسية “.
 
و هنا لمعت عيناي من قوة الفكرة ، ما الضرر لو ذهبت إلى المصحة والسؤال عن هذا الرجل ؟ نعم ، نعم أعرف أيها القارئ المزعج أن الأمر قد مضى عليه خمسة عشر عاماً ، و لكن ربما كان هناك ، و ربما أجده فيلهمني كي أكتب ، خاصةً أن مديري لم تعد حكاياتي المقتبسة تروق له و قد رأيت في عينيه الغضب المكتوم ، لا يهم ، فوظيفتي تستحق الاجتهاد و لو قليلاً.
 
اتصلت بمديري و أخبرته أنني سأتغيب في الغد عن الجريدة للبحث عن أمر جديد لأكتب عنه ، ما كان منه إلا أن أغلق الهاتف في وجهي ، و هذا يعني الموافقة بالطبع ، فلا فائدة أصلاً من وجودي كل يوم في الجريدة سوى السخرية من الفتيات و مكياجهن و التسبب في مشاكل لا حصر لها تجعل مديري يستشيط غضباً.
 
وانطلقت إلى مستشفى العباسية للأمراض النفسية ، و بواسطة هويتي الخاصة كصحفي اجتزت بوابة الأمن ، نعم فلنا الكثير من الصلاحيات هنا ، لا تقلق ، دخلت على عاملة الاستعلامات لأسأل عن الرجل.

– مساء الخير ، هل هناك مريض عندكم يُسمى أمممم ، محمد عبدالدايم.
نظرت إلي في حدة و قالت :
– ماذا ؟.
–  أقول لك هل هناك مريضاً عندكم أسم أبيه محمد عبد الدايم ؟ أما أسمه فلا أعرفه.
زفرت في غضب و هي تضرب بأصابعها على الحاسوب فقلت أنا هامساً :
– ما أجملك وأنت غاضبة !.
ابتسمت في خجل و لكن لم يتورد خديها من كثرة مساحيق التجميل ثم قالت :
– هناك مريض يُسمى إبراهيم محمد عبد الدايم
، تحدثت في لهفة قائلاً :
– تاريخ الوصول ؟.
– سنة 2005.

ابتسمت في سعادة بالغة ونظرت إلى عينيها و خاصةً إلى عدساتها اللاصقة و قلت :
– ما أجمل تلك القرنية التي تشبه قرنية القطة !.
فتحت فمها في بلاهة ولكني كنت قد تجاوزتها مسروراً إلى داخل المستشفى.
وصلت إلى موظف البوابة الداخلية و سألته عن أسم المريض ، فبحث قليلاً ثم قال متعجباً :
– و ما الذي يجعلك تسأل عن مريض م م..
– وماذا تعني م م ؟.
– تعني مستوى مرتفع و تُطلق على المرضى الخطرون في قسم ثمانية غرب.
لا أدري لما شعرت بالخوف و قتها ؟ ولكني تماسكت و قلت :
– صلني به عاجلاً .

لم يعقب و إنما أتصل بشخص ما ، فحضر سريعاً حارس الأمن من الداخل و طلب منه أن يصطحبني إلى غرفة  707، كدت أن أرحل ، و لكنه قال بلهجة صارمة :
– انتظر.
– ما الأمر ؟.
– وقع على تلك الورقة.
أمسكتها بتعجب و قلت :
– و ماذا تكون ؟.
– إنها تعهد و إقرار منك أن كل ما سيحدث لك بالداخل أو حتى تعرضك للموت على يد هذا المريض على مسئوليتك الشخصية.
– ماذا ؟.

– وقع أو أرحل.
ترددت كثيراً ، ولكني ما كان يجب أن أتراجع ، وقعت على الورقة وذهبنا ، ذهبنا حيث عالم الأحياء الذين ماتوا قبل أن تتوقف أنفاسهم ، حيث عالم أقسى من الموت ، و أغلظ من الحياة ، حيث اللاعودة ، حيث مقبرة الشيطان.
………

 
حينما يقودك الفضول ناحية الشيطان نفسه، سيتخلى عنك الموت لتحيا في قلب الجحيم لقرون كثيرة..
وجدت تلك العبارة منقوشة على الحائط المقابل لي ، نظرت إلى حارس الأمن في تعجب و قلت:
– من كتب هذا ؟.
ابتسم بخبث و أجابني ساخراً :
– ستراه بعد لحظات.
– هل تقصد ؟.
– نعم يا سيدي ، أنه إبراهيم “م م”.
 
زفرت من التوتر الذي هاجمني بلا مقدمات ، الطرقات هنا بيضاء بلون الثلج ، الحوائط تنبض بالبرودة و الرؤية باهتة ، قلبي يدق بتوتر و صدري قد أصابه انقباض عجيب !.
أريد أن ارحل من هنا ، صدقاً أريد هذا ، وصلنا إلى باب الغرفة الحديدي ، نظر الحارس مباشرةً إلى عيني و قال :
– هل أنت واثقاً من هذا ؟.
أخذت شهيقاً كبيراً ليخرج صوتي هادئاً :
– نعم ، أفتح الباب.

و وضع المفتاح في الباب على الفور و فتحه ، و شعرت بقشعريرة باردة تضرب بدني بقوة ، وانكشفت الغرفة ، مجرد فراش صغير في ركن غرفة بيضاء تماماً ، الحوائط مبطنة بالمطاط الأبيض ، اعتقد أن هذا لحماية المريض ، أو بالأخص رأس المريض.
كان يجلس على الفراش مولياً ظهره لي ، و لكن مهلاً.

إنها مجرد جثة متحللة ، هذا جسد لا يكسوه لحماً ، إنها مجرد عظام تنقبض و تنبسط.
تقدمت بخطى هادئة و همست قائلاً :
– إبراهيم.
و لكنه لم يحرك ساكناً ، و كأنه في عالم من التيه والضياع ، همست ثانية و لكن لم يجيب.
 
وقفت أمامه وقتها و وضعت يدي على كتفه ، كان ينظر إلى الأسفل ، رفع رأسه و نظر مباشرة إلى عيني ، وانتصب شعري كله.
إنها عينان ميتتان ، بيضاء ، براقة كأعين الذئاب ، يغطيها شعر طويل ، طويل إلى درجة مخيفة ، و لكن ما كان أكثر غرابة هو جحوظ العينان بتلك الطريقة ! ناهيك عن هذا الجسد الهزيل الذي يكاد يختفي أسفل تلك الملابس الواسعة.
 
ابتسمت بتوتر و قلت له :
– الشياطين تهاجمني في الخارج ، هل يمكنك حمايتي ؟.
 
كانت تلك طريقة بسيطة قرأت عنها في كتب الطب النفسي ، وهي أن تُوهم المريض أنك تصدقه أو أنك تمر بما يمر به.
 
تحدث وقتها بصوت حاد ، صوت أصاب أذني بالألم :
– لن تنجح في الهرب ، ستموت في النهاية.
ابتسمت في نفسي ، لقد استطعت أن أجعله يتحدث  وهذا شيء مبشر.
– أنهم يطاردوني لأنني فتحت المقبرة.
شعرت وقتها بهزة عنيفة أصابت جسده في لحظة ، و لكني تابعت قائلاً :
– كنت أريد الحصول على الذهب ، ولكنهم لم يسمحوا لي بذلك أبداً.
اهتز جسده كله و بدأ يتأرجح يمنة ويسرة و راح يردد..
“لقد آن الأوان”.
“لقد آن الأوان”.
“لقد آن الأوان”.
 
قلت له متعجباً :
– آن الأوان على ماذا ؟.
– أنت تريد المعرفة و أنا سأخبرك فقط لأنك المنشود.
– ماذا تقصد ؟.
– سأخبرك بعد أن انتهي.
– حسناً ، لك ذلك.
……………………………………

 
أنا أبراهيم محمد عبد الدايم ، أنا الذي نشأ في بيت تمرح فيه الشياطين و كأنه الجحيم نفسه ، لم أعرف معنى السلام يوماً ، و لم أعرف معنى الأمان ، فقد كان أبي يردد على مسمعي كل ليلة :

” لا تغضب السكان”.
هل يقصد تلك الكائنات البشعة التي تظهر في بيتنا كل ليلة ، أم يقصد هذا الفتى المحروق الذي يسكن حمام بيتنا ، أم يقصد هذا الأشعث المخيف الذي يقطن في الدولاب ؟ ربما تراه شيئاً مفزعاً ، و لكنه أصبح أمراً مقبولاً مع مرور الأيام.

و لكن من كان يحميني سقط بين براثن الموت ، مات أبي في قبو المنزل بطريقة مخيفة ، كان جسده متصلباً كلوح من الثلج ، على وجهه تصول علامات الفزع المطلق ، لا أذكر الكثير لأنه تم دفنه و أنا صغير.

و بعد سنوات لحقت به أمي ، ثم تزوجت أختي ، و بقيت أنا في المنزل وحيداً ، اقضي طوال الليل عند صديق لي و لا ادخل المنزل إلا في النهار، خاصةً مع كثرة ظهورهم.
 
و تمر الأيام ليتصل بي الكثيرين من السحرة والمشعوذين، يتوسلون إلي للحفر في المنزل ، يقسمون لي أن أسفل هذا المنزل كنزاً عظيماً لم يتواجد مثله يوماً.

رفضت مراراً و تجاهلتهم مراراً ، و لكن مع ظروف الحياة التي ضاقت بشدة خاصةً بعد أن تزوج صديقي و عودتي للمنزل قررت أن أحفر واستخرج هذا الكنز ، ثم سأهدم البيت على من فيه و أخرج من تلك البلدة للأبد ، يكفيني خوفاً و تكفيني تلك الحياة.
 
واستجاب المشعوذ على الفور، و حضر هو وثلاثة من الحفارين.
وصلنا يومها إلى القبو ، أشعلنا المصابيح و بدأنا الحفر، لا أذكر يوماً أنني قد شعرت بتلك الانقباضة في حياتي و لا بمثل هذا الخوف ، وسط الغرفة الضيقة كان الحفارين يضربون بهمة ، كانت الحفرة تتسع و يتعاظم معها شعور كارثي لدي ، هناك كارثة ستحدث بعد قليل.
سرعان ما تناهى إلى مسامعنا صوت بكاء أطفال من تحت الأرض ، أصابنا ذهول عجيب ، و لكن المشعوذ تحدث بسرور قائلاً :

– أنه الرصد فلا تقلقوا منه ، سوف أتعامل معه.
 
و اشتد الحفر واتسعت الحفرة أكثر وأكثر حتى وصلنا إلى صخرة صلبة كالماس ، حاول الحفارون تحطيمها و لكنها كانت قوية بحق ، وهنا هبط المشعوذ إلى الحفرة ، و وقفت أنا فوق الحفرة أراقب ما يحدث.
بدأ الشيخ يتلو عزائمه ، دقائق و طلب من الحفارين ضرب الصخرة ، والعجيب أنها تحطمت بسهولة ! تحطمت لتكشف عن ممر طويل.
هنا صاح الرجال فرحين ، و…..

لقد انقض عليهم من الداخل كائنا بشعاً ، لمحته من الأعلى ، كان مزيجاً من الأنسان والذئب ، أنه انوبيس اله الموتى عند المصريين ، كان ضخماً ، أنيابه كبيرة و وجهه مخيف ، رأيته يمزق المشعوذ إلى مائة قطعة ، صرخات الرجل كانت مخيفة ، و في لحظات انقض على الحفارين الثلاثة ليجعل الحفرة عبارة عن أشلاء ممزقة و شلال من الدماء.

كنت أقف مصدوماً فوق الحفرة أراقب ما يحدث ، حتى رفع رأسه ناحيتي ، و سقطت أنا إلى الخلف ، لحظات فقط لأرى الألاف العقارب تخرج من الحفرة ، بل قل الملايين منها ، و كان هو يزمجر ، يزمجر بصوت بشع و مخيف.

ركضت إلى الخارج ، ركضت و أنا اصرخ بكل ما أوتيت من قوة ، هربت من البلدة بأكملها ، و لم يمر أسبوع واحد لتقبض علي الشرطة و يصلني خبر مقتل كل أهالي القرية ، و وضعوني هنا ، و لكن هذا لم يمنعه ، لم يمنعه مطلقاً.
 
………
 
انتهى من حديثه لأتسأل أنا :
– من تقصد ؟.
– أقصد الشيطان ، شيطان المقبرة !.
– هل تقصد أنه يهاجمك هنا ؟.
ابتسم في سخرية و قال :
– بل قل أنه يسكن هنا.
شعرت بخوف كبير يغزوني ، و لكني تماسكت و قلت:
–  أذن اخبرني لما قصصت عليّ أنا تلك الحكاية و لم تخبر بها أحد من قبل ؟.
– لأنك الوحيد الذي صدقني ، و أن شرطه الوحيد للخلاص أن يصدقني أخر فيتركني و يقتله هو.

– ماذا تقصد ؟.
– لا يراه أحد إلا و يُقتل ، و قد قتل الجميع إلا أنا ، أنا من رأيته واستطعت الهرب ، و هو لا يمكنه قتلي إلا هناك فوق أرض المقبرة ، لذا هو معي هنا كل ليلة ينتظرني حتى أخرج أو يصدقني أحدهم  و يراه فيكون هو ضحيته و يتركني أنا.
– و هل سأراه حقاً ؟.
– نعم ، ستراه.

و هنا سمعت زمجرة تأتي من أسفل الفراش ، انتفض جسدي كله و تراجعت ناحية الباب ، و برز برأسه من أسفل الفراش ، لقد كان بشعاً ، مخيفاً ، رأسه ضخمة تشبه رؤوس الذئاب ، و أعينه سوداء مخيفة ، أنيابه كانت كبيرة و مخيفة ، أصابني الفزع وقتها و صرخت بكل ما أملك و ضربت على باب الغرفة ليفتح الحارس على الفور، ركضت إلى الخارج لأسمع صياح المريض من الداخل.
 
“لقد نجوت ، لقد نجوت ، أنصحك أن تذهب إلى المقبرة و إلا فلن تهنأ بلحظة واحدة في حياتك ، اذهب إلى المقبرة “.
خرجت راكضاً إلى الخارج و جسدي كله ينتفض من هول ما رأيت !.
و لكن ما كان أكثر فزعاً هو “هل حقاً من يراه يجب أن يموت ، و هل حقاً سيجبرني على الذهاب إلى المقبرة ؟ “.
……………
 
” ليتني أملك من القوة ما يجعلني انتصر على الشيطان”.
 
كتبت تلك الكلمات على صفحتي على موقع فيس بوك و أنا في حالة من الذهول الذي لم يفارقني بعد ، أنه الشيطان نفسه ، الشيطان الذي يمتلك أنياباً و أظافر قادرة على تمزيقك أرباً ، استلقيت على فراشي و أنا اصرخ بداخلي.
” لقد كان وهماً ، كل هذا مجرد وهم”.
 
و لا أعرف كيف و لا متى نمت بهذا العمق ، و لكن الأمور لا تسير على النهج الذي نخطط له أبداً ، شعرت بحركة غريبة في الغرفة مما جعلني استيقظ ، من هذا الذي يتحرك في قلب الظلام ؟ والأكثر فزعاً هو أنني تذكرت ما حدث معي منذ ساعات في تلك المصحة.
 
كتمت أنفاسي و إن انطلق قلبي يعدو في رحلة اللانهاية ، دققت النظر في الظلام ولكن لا شيء ، انتظرت لثواني مرت كقرون من الزمان ، و لكن لا شيء.
تنفست الصعداء و…

إنه باب الغرفة ، المقبض يتحرك في هدوء جم ، ولكني و رغم الظلام أسمع صوت تحركه ، و أصابني التيبس التام ، فتصلب جسدي بأكمله و هو يشاهد هذا المشهد الذي قد يكون خاتمة حياتي كلها ، و سمعت تكة فتح الباب و تهاوى معها قلبي في عوالم الرعب كلها.
 
و في هدوء تام تحرك الباب ناحية الداخل ، تحرك ليكشف عن ضيفنا ، ضيفنا الذي يشبه إله الموتى في تكوينه ، وهل تتوقع أن يكون ضيفاً أخر ؟.

رأيته ، نعم رأيته ، كان ضخماً  تكاد رأسه تصل إلى سقف الباب ، عينيه أضاءت الموجودات من حولي ، وما أن فتح الباب عن أخره حتى شعرت أن باباً من أبواب جهنم قد فُتح على مصراعيه ،  حرارة عاتية غزت الغرفة كلها ، حرارة امتزجت مع فزعي ، فخلقت شعوراً مريراً ، شعوراً جعل جسدي يئن وشعري ينتصب و قلبي يضرب أضلعي و يكاد أن يحطمها.
 
و ليت الأمور تتوقف عند هذا ، لقد تقدم ناحيتي ، عيناه جعلت الرؤية متاحة ، رؤية النهاية ، رؤية الموت المتمثل في أبشع كائن قد تراه في حياتك.

تمنيت الهلاك ، الفناء ، الموت ، تمنيت حتى الهرب ، و لكن جسدي قد رفض أن يستجيب لأي شيء ، و تقدم أكثر ، واتضحت معالم جسده كلها.
رأس ذئب بأنياب حادة كبيرة وأعين دموية ، و جسد ضخم تكوينه بشري و إن كانت قدماه تشبه أقدام الطيور بثلاثة أصابع فقط.

و وقف أمام فراشي يتطلع إلي بعينيه الدموية طوال الليل ، لا أعرف كيف ولا متى انتهت تلك الليلة ؟ و لكنه اختفى مع آذان الفجر.
و رأيت مع أول شعاع للشمس ما هالني ، لقد كانت تلك الكلمات منقوشة على الحائط.
“اذهب إلى المقبرة نرضى عنك “.
في الليلة التالية كان أيضاً حاضراً يقف فوق رأسي طوال الليل ، يتطلع إلي بأعين بلون الدم ، و أنا أظل انتفض وانتفض حتى الصباح.
 
و توالت الليالي و لم يتغيب عني ، كل ليلة و مع حلول الليل كان يفتح باب الغرفة و يقف عند رأسي كملك الموت نفسه ، هزل جسدي و زاغت عيناي و أبيض شعري في تلك الأيام ، فقدت تركيزي وأصبحت أهيم على وجهي في الطرقات لا أعرف طريقاً للهروب.
و كل ليلة كنت أجد نقشاً جديداً.
“اذهب إلى المقبرة نرضى عنك”.
حتى حينما نمت في بيت صديق لي كان هو حاضراً عند رأسي ، يصاحبه تخشب تام في كل أنحاء الجسد ، الجسد الذي يهرم بسرعة الصاروخ في حضور هذا الجبار.
 
و عدت إلى المصحة ، و ما هالني هو رؤية المريض مُعافى ، يتحدث و يضحك ، أزداد وزنه و زاد وجهه إشراقاً ، توسلت اليه أن يساعدني فلم يتفوه سوى بتلك الكلمات.
“يجب أن يصدقك أحدهم و يراه ، وقتها تنجو أو أن تذهب إلى المقبرة و تقدم أحدهم قرباناً”.

تركته و ذهبت ليناديني موظف الاستقبال :
– هل لك أن تترك لنا رقم هاتفك حتى نتصل بك قريباً لإخبارك بأن إبراهيم قد تماثل للشفاء بصفتك قريباً له.
تركت لهم رقمي و رحلت إلى الجريدة.
 
كنت في واد أخر ، زائغ العينان و عقلي هناك بين أضرحة الجنون ، طلبني المدير وقتها فذهبت اليه ، وما إن رآني حتى صرخ في غضب:
– هل تظن نفسك تعمل في شركتك الخاصة لتتغيب كل تلك الأيام ؟ أنت فاشل وما كان عليّ أن أتركك معنا كل تلك الفترة ، أنت مطرود أيها الفاشل.

وقتها نظرت في عينيه بغضب صارخ ، و اشتعل عقلي بألف ألف فكرة.
نعم ، أنت السبب ، أنت من جعلني أبحث في مثل تلك الأمور، أنت من يجب أن يموت و لست أنا.
 
تحدثت في هدوء جم و أنا أبحث عن كلمات مناسبة لأتحدث :
– كنت أبحث في قضية سوف تزيد من نسبة مبيعات جريدتنا أضعافاً مضاعفة.
على الفور تحولت علامات وجهه من الغضب إلى التعجب ، وهذا أمر مقبول ، فهو قد يبيع الدنيا من أجل المال.
– ماذا تقصد ؟.
– أقصد أنني بحثت في أمر غامض جعلني أصل إلى مقبرة فرعونية قديمة بها من الكنوز ، ما يجعلنا من ملوك هذا العالم.
 
اهتز جسده البدين و هو يقول :
– هل تتلاعب بي أيها المخبول ؟.
– أقسم لك أن الأمر حقيقي تماماً ، فقط تنقصني زيارة المكان والحصول على الكنز ثم الكتابة عن المكان ، مما سيجعلنا حديث الميديا كلها.
– وما الذي يعطلك ؟ هيا أذهب.
نظرت في عينيه مباشرة وقلت :
 
– فقط ابحث عن شخص أثق به ليكون شريكاً لي في الأمر.
تحدث بجشع تام :
– هل أنت واثقاً من هذا ؟.
– تمام الثقة ، و إن أخفقت في هذا فيمكنك طردي وقتها.
– حسناً ، سأذهب معك.
أجبته مدعياً التعجب والدهشة :
– أنت ، ولكن أنت…
قاطعني قائلاً:

– أنا من سيكون معك ، لأني لن أثق بأي أحد في الجريدة ، و إن صدقت القول فسوف أرفع من شأنك كثيراً.
– حسناً ، سنرحل الليلة.
– إلى أين ؟.
– لا تسأل مطلقا ً طالما أنت معي ، سوف أذهب إلى شقتي و أتصل بك بعد ساعة للرحيل.
…………
 
في اليوم التالي توقف القطار في محافظة من محافظات صعيد مصر ، هبطنا من القطار و ركبنا سيارة حتى وصلنا إلى قرية قريبة من قرية الغمراوي ” قرية الأموات “.
 
بالطبع لم أخبرك بأنني ذهبت إلى المصحة و عرفت العنوان بالتفصيلا من إبراهيم ، بل وكيفية الوصول إلى بيته.
وصلنا إلى أول قرية الغمراوي ، كانت قرية خربة ، عبارة عن الكثير من الأطلال ، و كأنها ثمود بعد أن هلكت ، مجرد مباني قديمة تشبه المقابر من شدة جور الزمان عليها.
 
خمسة عشر عاماً و لم يقرب أحداً القرية أبداً ، ما علمته أن القرية صغيرة جداً ، هي مجرد شارع و على جانبيه البيوت الصغيرة ، و من حولها الأراضي الزراعية التي أصبحت جرداء تعبث بها الأفاعي و العقارب.
كانت الشمس تقترب من المغيب وقتها ، و ما علمته من إبراهيم أن بيته هو أخر بيت في القرية ، فبعد بيته لن تجد سوى أرض جرداء واسعة.
 
و بالفعل وصلت إلى أخر بيت في القرية ، قرية الأموات ، كان مبنى صغير ، تيقنت منه بعد أن وصفه لي إبراهيم.
دفعت الباب الخشبي بقوة فانفتح على مصراعيه ، وقتها أمسك المدير بيدي و هو يرتجف ، و لكني دفعته بلطف ودلفت إلى الداخل ليتبعني هو ، هبطنا الدرج في قلب الظلام حتى وصلنا إلى قبو المنزل.

وكما قال لي : ” ستجد الحفرة كما هي ، و في نهايتها هذا النفق الذي لم يجد رجال الشرطة وقتها فيه شيئاً ، ولكن لا تقلق ستجده هناك لأنه ينتظرك”.
 
وقفت فوق الحفرة المظلمة أنظر بداخلها بأعين زائغة ، و من خلفي كان المدير ينتفض من الخوف ، تحدثت فتردد صدى صوتي قائلاً :
– هنا سنجد الكنز، أنظر أيها المدير.

مد المدير رأسه لينظر إلى ظلام الغرفة ، و لكنه صرخ فزعاً حينما دفعته ليسقط في قلب الحفرة ، سقط في قلب الظلام و راح يصرخ مستغيثاً متوسلاً.
اشعل هاتفه و هو يحدثني من قلب الحفرة قائلاً:
– أخرجني أرجوك فأنا لم أفعل لك شيئاً.
و قبل أن أجيبه سمعت زمجرة مخيفة قادمة من الأسفل ، من النفق نفسه ، صرخ المدير فزعاً بينما تحدثت أنا قائلاً :
 
– وداعاً أيها الفاشل.
و رأيته يخرج من النفق و ينقض على المدير فيمزقه أرباً أرباً ، صرخات الرجل بلغت وقتها عنان السماء ، وقتها صحت قائلاً :
– هذا هو قرباني أيها الشيطان ، وداعاً.
و انطلقت هارباً من المكان بأكمله ، ثم من القرية كلها.
 
عدت في اليوم التالي إلى بيتي سعيداً ، بل قل أكثر أهل الأرض سعادة ، و مع غروب الشمس سمعت رنين الهاتف ، أجبت قائلاً :
– الو.
– إدارة مستشفى العباسية معك.
– ما الأمر ؟.
– لقد قُتل إبراهيم اليوم بطريقة بشعة.
– ماذا ؟

– لقد سمعنا صرخاته في غرفته منذ ساعة و هو يقول ” لقد عاهدتني أيها الخائن أنك لن تقتلني اذا ما جعلت أحدهم يراك ، أنت خائن أيها الشيطان” وحينما دخلنا عليه كان ممزقاً بطريقة بشعة ، هل ستحضر لاستلام الجثة ؟.

سقط الهاتف مني أرضاً و قد توقفت الدماء عن السريان في جسدي ، هل هذا يعني أن….
و توقفت الكلمات تماماً حينما فتح باب الغرفة لأجده ، كان واقفاً بنفس هيئته المريعة ، ولكن هيهات أن يقترب و لا يفعل شيئاً تلك المرة.

و هجم بكل عنف و صرخت أنا صرخة محتضر.
……….

تمت بحمد الله
……….

أعمالي في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021
 
إن الله سيبطله “رواية”
 
سلسلة مائدة الفزع:
حتى زرتم المقابر “عدد أول”
الميتة والدم “عدد ثاني”.
 

تاريخ النشر : 2020-12-17

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى