أدب الرعب والعام

يقطين من قَتام الّليل

أوراقٌ بِجمال البُرتقال وأشجار ارتدت فُستانٌ بِلون العَسل والرُمان، أريج نَدِيّ يُداعب الوَجنتان ذو برودةٍ كثلجٍ يَقرُص الأذُنان. أسيرُ في دُجى ليلٍ مُظلم كَقتام كهوف تلكَ الجِبال، أسرت عيوني بِكل تلك الفراقد والقمر المُنيرة فَهي نِيران تَوهجت في تِلك الأعالي البعيدة. مُزركشة ببعض الشُهب المستديرة الساقطة كَخيوط ثياب طويلة ثيابٌ حيكَت بأنامل بديعة.. أتجول كملك في تلك الأزقة المُتعرجة، العازفة لأغنية الحياة الأبدية، وَهي تَجذِبُك بِرائحتها العذبة من تلك المَخبوزات من فَطائر وحلويات.

نُحِتت تلكَ الابتسامات على أوجه كَثيرة الضحكات، أطفال كَبراعم تَتَفتح بجميع الاتجاهات، يَركضون ويملؤون الشوارع بِثياب غَريبة الأشكال.. تنكروا اليوم بهيئة وحوش ذَوي أنياب أرق من الفراشات. تارةً يلعبون وتارةً يصرخون ،فالليلة ليسَت كَباقي الليالي فقد حُفرت على اليقطين أشكال الشَياطين ونُثرت العِظام في كُل مكان، وَ زُينت تلك الطرقات بِساحرات على مكنسات وتماثيل لقَتلةٍ مُتسلسلين لا تسمع منهم حتى الأنين ، يَسيل ألون القِرمزي كمياه لتزيدَ الحماسة في تلك القلوب السعيدة .

خُدعةٌ أم حلوى؟ يالغرابة هذه الجملة، أفُكر بها في كل مرة أصدر صوت الصدى بعد طرق تلك الأبواب الموصدة، ولكن ما أن أحاول الوصول إلى إجابة يفتح لي أصحاب تلكَ المَنازل المقفلة وَيهدوني القليل من السعادة. فَكم مرة عَصرتُ دماغي بسؤال جعل كياني يَهدُج ببحر الغرابة.. من اخترع هذه الفكرة؟ من جعل هذا اليوم للرعب. أهي خرافة؟ أم أسطورة حَدثت بعد زمن عاش به البشر يوماً ؟

ظَللتُ أتجول وحدي مطولاً في تلك الأزقة وأنا أحاول الحصول على إجابة تشفي غليل عقلي. طرقت خمس منازل منذ خروج قمر هذه الليلة.. ووصلت لسادسها فأبصرت صَديقاي المتنكران بأزياء ظريفة شبح ومصاص دماء، لا يخيفان حتى الأبرياء عند عتبة بابها فَتسلل الفرحُ لكياني الوحيد وصارت السعادة تُلقي على وَجهي التحية فصرخت وكأني لقيت خلاصاً من قيود العزلة :

“جين…بال ….أنا هنا “

إقرأ أيضا: العقل الخائن (1)

وسرعان ما التفتا إلي، فانتقلت لهما ابتساماتي، كمن أصابته العدوى.. فركضا نحوي بتلك الأزياء الغريبة وهما يحملان يقطينتين يخزنان بهما الحلوى، وما أن أصبح دخان أنفاسنا يختلط كمياه عذبة قال جين :

“لقد كنا نبحث عنك ، سبق وذهبنا إلى منزلك ولكن أمك قالت بأنك سبقتنا “

ثم أكمل بال معاتباً :

“لماذا لم تنتظرنا ؟”

فأجبتهما ساخراً :

“لأنكما بطيئان”

فأردف بال محاولاً مهاجمتي بتلك اليقطينة :

“من هو البطيء ؟ تعال إلى هنا “

فركضت سعيداً بأقصى سرعة وهما يلحقاني محاولان ضربي عبثاً، منزل بعد آخر زرناه اليوم ملقين التحية ورددنا ببضع قطع تجلب السعادة. مرت أربع ساعات من الوقت كأنها قنينة مياه بلعت رشفة واحدة، فلم نشعر بها إلا في البداية وسرعان ما تعبنا. لم ندرك المسافة التي مشيناها فأصبحنا بأطلال منازل بعيدة عن أهلنا.

نظرت إلى ساعتي كانت قد قاربت العاشرة، فالتفت لصديقاي وصرخت عالياً كمن نسي الموقد مشتعلاً :

“تباً أمي ستقتلني إن لم أعد في العاشرة، وهذا مستحيل فالمنزل يبعد قرابة النص ساعة “

فقال بال مهوناً :

“لا عليك، أعرف طريقاً مختصراً”

فأردفت ساخراً من كلامه :

“هذا مستحيل أنا لا أثق بالطرق المختصرة وخاصة طرقك، آخر مرة أدخلتنا لغابة مهجورة “

فتعجب جين من أمري وسأل :

“لماذا ؟ كان الأمر ممتعاً، حتى أنك دخلت في اليوم التالي بمفردك “

وبعد تفكير بسيط أقنعني هذا الوغد بكلامه فقلت:

“حسناً ما هو الطريق هذه المرة ؟”

“مقبرة”

فصرخت :

“أنت تمزح صحيح ؟”

“لماذا؟”

” ألم تشاهد أفلام الرعب من قبل المقابر مليئة بالمخلوقات المخيفة”

فقال بال ساخراً:

“يجب أن تتوقف عن مشاهدة أفلام الرعب “

اقترب جين مني وأمسك كتفي ممازحاً :

“يستحسن أن ننطلق الآن إن أردنا الوصول في الموعد، على كل حال لا داعي للخوف، فالكثير من الناس مستيقظون الآن ، لن يحدث لنا أمر سيء “

أقنعني كلامه مرة أخرى، وسرنا عبر طريق المقبرة كما خططنا، وبالفعل رأينا بضع أشخاص في نفس الطريق وهم يتجولون، وبضع مراهقين يلعبون حول القبور ويحاولون إخافة بعضهم، كان المكان غير مخيف البتة وخاصة أنه مضاء ببضع مصابيح سهلت لنا دروبنا. مرت ربع ساعة وخرجنا من تلك الطرق غير الممهدة وصارت إطلالة منزلي تلوح لي من بعيد، ضحكت وابتسمت والتفت لهم :

“كان معك حق ، لقد وصلت “

فضحك رين وهو يربت على كتف جين :

“ألم أخبرك ألا تشك بمهارته بالطرق “

فأكمل كرو متسائلا :

“ولكن كيف تحفظ هذه الطرقات؟ “

فأجابه جين وهو يفرد ريشه بغرور :

“هذه سر المهنة “

وقبل أن أقول عبارات الوداع لهذه الليلة قاطع بال كلامي وهو يشير لمكان :

“انظروا هناك لم أر منزلاً كهذا من قبل “

التفتنا لنبصر ما يعجر العقل عن تقبله، كان هناك منزل كبير على شكل يقطينة برتقالية ذات نوافذ بشكل عيون شيطانية وباب من فم ذو ابتسامة خبيثة مفتوح على مصراعيه ذو حديقة صغيرة زينت ببعض جماجم مضيئة باللون الأحمر، يدخل له الأطفال ويخرجون بأكياس من حلوى كثيرة. فقلت موافقاً بال على كلامه :

“أنت محق لم يسبق لي رؤيته “

ثم زفرت بخيبة أمل :

“ولكن للأسف لم يتبق لدي وقت “

فقال جين :

“حسنا كما تشاء سيفوتك الكثير”

إقرأ أيضا: اعترافات أنثى – الجزء الأول

ثم أشار للبقية بأن يتبعوه.. أكملت طريقي حتى وصلت لأعتاب منزلي بينما ذهب البقية لذاك المنزل ، وعندما بدأت أغوص ببحر أفكاري وأنا أحاول فتح باب منزلي ، شعرت بصاعقة ضربتني وصار جسدي يرتجف وكأنني فقدت كل دمي، و فتحت عيناي بدهشة كادت تمزقهما تلك الرعشة، شعرت بأن رئتاي خانتهما القوة فبدأتا تسحبان الهواء بصعوبة، وتسارعت دقات قلبي وصارت أسرع من قطرات تتسرب من كؤوس مثقبة . فقلت متسائلاً وأنا أتمتم مع نفسي فزعاً :

“رين؟ ..كرو ؟من هذان؟ لم ألتق بهما من قبل ..ماذا يجري بحق الجحيم ؟”

تركت عتبة منزلي وَهَرعتُ مسرعاً كمن أصيبت عائلته بِطعنات مُميتة، وما أن شارفتُ على الوصول لأطلال ذاك المنزل أبصرت الشخصان المدعوان رين و كرو برفقة طفل صغير فَوقفت خائفاً متعجباً من أمري مرتعباً وأنا أتمتم :

“لم يسبق لي رؤية هذين الشخصين من قبل، إذاً كيف تعرفت عليهما تلك المرة؟”

استجمعت القليل من شجاعتي وذهبت نحوهما متوتراً وصرخت :

“أين هما صديقاي؟”

أمال المدعو رين رأسه جانباً وبنظرات من صقيع زجاجي رد مُتسائلا:

“صديقاك ؟ أولسنا أصدقائك أيضاً؟”

ابتلعت ريقي و أخذت نفساً وبتوتر أجبت :

“لا ، لم أركما من قبل “

سرعان ما نظر الإثنان لبعضهما ثم مسح رين بيديه على وجه الطفل فتجمد في مكانه بدون حركة ثم التفت إلي و بابتسامة خبيثة طويلة مزقت فمه الصغير، وسالت منه الدماء.. فتح عينيه التي توهجت بلون أسود صارخ وقال بصوت أجش كأنه رجل في الأربعين :

“يبدو أن أحدهم لم يقع بكميننا”

شعرت بأن قلبي طعن بسيف ملتهب وبدأت أتنفس وكأنني خرجت من ماراثون للركض ، التفت رين لكرو وأشار له برأسه علي، ففهمت أنهما يحاولان مهاجمتي، فتحركت تلك الغريزة الفطرية البشرية بداخلي وهمست لي :

“اهرب “

وما أن حركت تلك الساقين المرتجفتين حتى سقطت أرضاً بعد أن أمسك كل منهما بساق وهما يبتسمان بخبث، وبدآ يصدران أصواتا مزعجة وكأنه صوت التلفاز عند ضغط زر الإشارة المزعج.

فجأة بدآ يجراني فصرخت بكل قوتي كأنني أسحب من قبل الشياطين للجحيم، وظللت أطلب المساعدة:

“النجدة، ساعدوني “

وجنتاي غرقتا من تلك المياه الحارة المنبعثة من عيناي، كنت خائفاً لدرجة الموت وأنا أنظر لباقي الناس وهم يتجولون ويضحكون مع بعضهم وكأنهم لا يروني أصلاً، فبدأت أتشبث بالعشب الرطب عبثاً، وسرعان ما بدأت أظافر يداي بالتمزق بكل هذا التعلق بالأرض وهما يسحباني.

التفت لثواني للخلف، فعرفت أنهما يأخذاني لذاك المنزل حاولت بكل ما أوتيت من القوة المقاومة ولكن من دون جدوى هما أقوى بكثير.. أو لعل الخوف الشديد هو ما جعلني بهذا الضعف. وأخيراً وصلنا لأعتاب ذاك المنزل، فزاد صوت صرخاتي المستغيثة ولكن عبثاً ما كنت أفعل، فلا أحد يستطيع رؤيتي، وكأن هذين الوحشين جعلاني شبحاً لحظة إمساكي، وبعد مدة قصيرة صرت داخل ذاك المنزل، وسرعان ما أغلقت الأبواب أمامي على مصراعيها.

إقرأ أيضا: مرآة الإنتقام

هز صوت انطباقها المكان و شاع سلطان صداها جبروتاً و كأنها قاضٍ حكم علي بالإعدام، فجأة ما عدت أشعر بحرارة يديهما تلامس ساقاي فالتفت بسرعة فهي مسألة حياة أو موت، و لكن يا ليتني بقيت مكاني ولم أحرك ساكنا، نعم لقد تركاني لكن ظلا يحدقان في وكأنهما يحاولان نهش لحمي بدون لمسي، بنظرات قطعتني.. فبدأت التفت بكافة الاتجاهات لأستفسر عن موقعي، فأبصرت ما سمم روحي و انتصبت له شعيرات جسدي و خشعت له روحي، فقد أبصرت وحوشاً صغيرة، بأذرع بشرية ذات عضلات عريضة، ذوي رؤوس ماموثية، و جسد مكسو بقطع زجاجية أزوردية وسيقان من عنزة جبلية. ذوو قرون غزلان روسية، أنوفهم كانت مليئة بالشعر كأنها قش صف في تلك الكهوف المظلمة تسيل من عيونهم البنية سائل بلون أسود متفحم وهم يجلسون يتناولون وليمتهم الشهية من لحوم طازجة، وخلفهم جدران مزينة بجماجم و جثث أطفال.

كان الجو بارداً تقشعر له الأبدان، و تسجد لوقاره القلوب و تضعف و تضيق النفسات لرائحته القذرة.. المتكونة من عبق الدماء و بعض الفضلات المنتشرة. زين المكان بالكثير من اليقطين بلون من قَتام اللّيل، وفوقه وضعت الشموع المتوهجة بألوان قرمزية، ظل كامل جسدي يرتجف كأني دخلت لمياه بحيرة متجمدة، ففقدت وعيي من هول هذه الصدمة .

و بعد فترة سرعان ما انتصبت روحي من مرقدها على صوت صرخات قادمة من خارج عقلي نهضت من مرقدي ببضع صفعات على خدي أهداني إياها صديقي جين و هو يهزني و يبكي و يصرخ كرضيع ولد قبل ثوان:

“كاي ….كاي …استيقظ أرجوك “

بضباب في الرؤية فتحت عيناي المقفلة و حضنته بكل قوة، و كأنه ما بقي من عالمي، و ظللت أصرخ و أبكي :

“الحمد الله ظننتك ميتاً .. المكان مخيف، بل مرعب حتى النخاع “

و بعد ساعة من الوقت هدأنا و جلسنا جنباً إلى جنب في تلك الزنزانة المقفلة، فسألت بعد أن بلعت ما تبقى من ريقي و أنا لا أريد سماع الإجابة :

“أين بال ؟”

سرعان ما دمعت عينا جين و قال كأن الدنيا أثقلته بالمصائب :

“لقد أكلوه “

صمت هز المكان كزوبعة صغيرة، طافت كأشباح عالقة، و أنا أحاول كتم دموعي و صوت صراخي الداخلي.. وبعد فترة بدأت أطالع المكان حولي، والذي كان عبارة عن غرفة صغيرة بدون نوافذ في جدرانها الثلاثة كان الجدار الرابع عبارة عن قضبان حديدية عريضة صفت بطريقة غريبة فلا هي مثلثة ولا هي مربعة، كنت سأصف المكان بالفارغ، إن لم يكن به تلك اليقطينة المسودة المعلقة كمصباح تتوهج بالأخضر الفاتح تجعلنا نعرف وجوه بعضنا.

التفت لجين و الذي كان غارقاً بالظلام و هو يحاول تقييد تلك الدموع عبثاً فصوت أنين أعماقه يصل لداخلي، لم أتحمل الوضع الذي نحن به، فنهضت من مسكني و بدأت أفتش جيوبي لأجد ما يساعدني، فلم أعثر إلّا على بضع قطع من الحلوى، فبدأت أطالعها و أنا أبحث عن حل بها. فجأة بدأت اسمع صوت أنفاس، وكأنها صوت إنسان مصاب بالزكام، أو بالأصح كانت أقرب لصوت خرير القطة.

إقرأ أيضا: جثة حية

رفعت رأسي فرأيت أحد تلك الوحوش يمسك القضبان بكلتا يديه المشعرتين و يحدق بي، اهتز جسدي من الصدمة و لكن سرعان ما لاحظت بأنه يحدق بالحلوى ، فبدأت أحرك يدي يميناً و شمالاً لأتأكد من هذه المعلومة. ظل الوحش يتابع حركات يدي حتى أبصرت المفاتيح معلقة برقبته، فخطرت في داخل كياني فكرة، اقتربت ببطء منه محاولاً جذبه بالحلوى ، فرأيت تلك الحماسة قد ازدادت في مقلتيه القرمزية، رفعت أحد القطع عالياً وقريباً من القضبان، أعطيته إياها، فأكلها بكل وحشية، انتشلت الثانية، و رفعتها عالياً وأعطيته إياها مجدداً لأزيد ثقته بي، و ما أن بدأت أرفع الثالثة ، انتشلت ذاك المفتاح المعلق برقبته، كلص صغير عاش بشوارع المجرمين لسنين عديدة، لم يشعر بي، وسرعان أعطيته القطعة و جلست بعيداً..

ظل الوحش يراقبني قرابة الساعتين، منتظراً المزيد، وأخيراً قرر الاستسلام وذهب بعيداً، اقتربت من جين و شرحت له ما حدث خاف في بادئ الأمر و لكن سرعان ما استجمع شجاعته عندما أخبرته بما ينتظرنا إن بقينا. وبالفعل، فتحت تلك القضبان وبدأنا بالجري دون النظر للوراء .

**

سرنا أول ممرين بسلام و لكن ما إن انعطفنا جانباً حتى أبصرنا مجموعة منهم و الذين بدأوا يجرون نحونا كسيول مياه عاصفة ما إن التقت عيوننا، فأخذنا نزيد من سرعتنا و كأن ملك الموت يطاردنا، تظهر أمامنا آلاف من الجدران وأبواب الغرف، والتي كانت مغطاة بورق ممزق كلياً أو جزئياً وفي زواياها بنت تلك العناكب العملاقة مساكنها الرقيقة، و أضيئت دروبنا الموحشة ببضع يقطينات سوداء معلقة. تلهث أرواحنا المعذبة ، والتي جف بحر أملها كلما سمعنا وقعات أقدامهم تقترب من آذاننا، يلامس جوفنا الهواء البارد المختلط بتلك الرائحة العفنة، و بعد مدة قصيرة صرنا نسمع أصواتهم تقترب شيئا فشيئا بعد أن خارت قوانا.

التفت جانباً فأبصرت باباً بدت عليه الحداثة بالنسبة لباقي تلك الأبواب، فهرعت إليه و فتحته ملهوفاً طالباً من حضرته الحماية كمسكين توسل عند عتبة أحدهم وسرعان ما رحب به. و دخلت مع جين ذاك الباب الخشبي الأصفر المزغرف بخطوط بنية عريضة، وأقفلناه بسرعة. الهواء كان يعذب رئتاي المتقطعة ، و العرق يتصبب من جبيني كينابيع ساخنة، ظللت أحدق بجين، بدا التعب جلياً عليه و خاصة على شفتيه التي صارتا أرضاً متشققة، ثم أخذت أتفقد محيطي والذي كان عبارة عن غرفة ضخمة بدون نوافذ ولم يكن يزينها إلا مدخنة بداخلها النيران تتصارع مع الفحم و ذو طاولة و مقعد خشبيين بنيي اللون. أبصرت على تلك الطاولة خنجراً ألماسيا بلون سماوي ذو مقبض حديدي ملفوف بضماد بني يتوهج بلون عاجي.. صرخ جين محذراً :

“لا تقترب منه ربما يكون شيئا خطيراً “

إقرأ أيضا:

فالتفت إليه ببرود كمن فقد السبيل ليظل حياً:

“لا يعقل إن يكون أخطر من وضعنا”

فامتشطته و من مكانه فزال التوهج منه، و التفت إلى جين :

“اسمع إن كنا نريد الخروج علينا أن نقاتل”

بدأت أبحث عن شيء آخر ينفعنا بتلك الغرفة فلم أجد سوى الحديدة التي يحركون بها الفحم فأعطيتها لجين، لم تمر إلا ثوان حتى بدأت الوحوش تخدش تلك الأبواب الموصدة .

بدا أنهم عرفوا مكاننا، وضع جين أكتافه على تلك الأبواب محاولاً منعهم من الدخول، فسحبته من ياقة قميصه شبه الممزقة و صرخت :

“ماذا تفعل ؟ لن ينفعنا البقاء هنا “

وقبل إن افتح الباب امسك بكتفي مرتجفاً:

“ماذا لو أكلونا “

فأمسكت يده مهوناً :

“هذا أفضل من الموت خوفاً ونحن نجلس ننتظرهم يقتحمون الباب”

أبعد يده بعد أن فقد الأمل، وفتحت ذاك الباب، فدخلت إلينا خمسة وحوش دفعة واحدة. هجم علي أحدها وسرعان ما طعنت قلبه بالخنجر وسقط ميتاً، ثم هجم علي الآخر وظللت أتصارع معه حتى أصاب يدي ولكني رددت له الصاع صاعين وقطعت ذراعه ثم قتلته. أما عن جين فقد بدأ يضربهم بكل عزيمة وقوة على رؤوسهم حتى يسقطوا أرضاً وبعد فترة قضينا عليهم وخرجنا نبحث عن المخرج في تلك الممرات مجدداً.

طريق بعد آخر، ممر بعد ممر ظلت عيوننا تبصرها وكأنها مصباح معطل. أخيرا، وصلنا لسلم يقود للأعلى، ابتسم لجين و كأنه الخلاص، فركضناً كطفل حصل على هدية العيد، ولكن ما إن مست أقدامنا النهاية حتى تذكرت بداية دخولي لهنا، كان كل شيء كما رأيته أول مرة، غير أنني أبصرت ذاك الباب المغلق على مصرعيه والذي تعيش خارجة أيامي المتبقية.

ولكن السعادة لا تدوم كعادتها، فقد أبصرتنا تلك الوحوش وسرعان ما أحاطتنا. وقفت مع جين كتفا على كتف و دماء الوحوش تغطي ثيابنا والتي جعلتني أظن بأنني تنكرت بهيئة كرة دم حمراء هذا العام. وقفنا منتظرين حتى تباشر الوحوش بالهجوم، وقبل أن تخطو خطوتها الأولى سمعنا صوت تصفيق من خلفهم ، شيئا فشيئا زاد علو ذاك الصوت حتى خرج من بينهم.

شخص عادي يرتدي بذلة مخططة بالأحمر و الأبيض ، و تغطي رأسه يقطينة حالكة الظلمة تتوهج من تلك العيون الشيطانية وهج أحمر غامق فتكلم ذاك الشخص وهو يسحب خوذته اليقطينية من رأسه ليعترف على وجهه، كان فتى عادياً بالكامل ذو عينين جاحظتين قرمزية و بشرة بيضاء صافية وشامتين أسفل كل عين :

“لا أصدق أن أحدهم خرج من الزنزانة هذه المرة الأولى التي يحدث بها هذا “

إقرأ أيضا: جروح لم تلتئم

نظر إلي بتلك العيون الخبيثة وسأل :

“كيف فعلت هذا؟”

وقبل أن أحرك شفتي مجيباً لاحظت بأن عيناه تلاحق الخنجر الذي يتوسط راحة يدي، و كعادتي بدأت أحركه يمينا و شمالا فلاحظت عيناه تتابع تحركاتي ، فقلت ساخراً:

“ما الأمر ؟تبدوا مهتماً بهذا الخنجر؟! “

فأبتسم بحقارة وغيظ تجلى على وجهه :

“أنت ذكي ، حسنا لنعقد اتفاقاً أعطيني الخنجر وسأسمح لك بالخروج “

أخذني الغرور فقلت :

“إذاً اخرج الجميع من هنا و سأسلمك الخنجر “

خرجت ضحكات قوية من فكيه والتي أفصحت عن أنيابها الحادة وظل يضحك وكأنني ألقيت نكتة. سرعان ما التفت إلي بجدية وبدأ يشير بيدية نحو الخنجر الذي بدأ يفر منها حتى أفلته بالكامل وبدأ يحلق حتى وصل إلى ذاك الشخص ، كنت مصدوماً فصرخت بقوة:

“لماذا تفعل هذا ؟ لماذا تقتل الأطفال ؟”

فابتسم وكأنه تجاهل سؤالي وقال متسائلاً:

“خدعة أم حلوى ؟”

بقينا أنا وجين نحدق به ونحن نطلب تفسيراً ، ففهم الأمر وبدأ يشرح:

“سأسمح لك بالخروج ، لأن شجاعتك أعجبتني، بشرط أن تختار أحد الخيارين ،إذا اخترت الحلوى فيجب عليك أن تختار إحدى هذه القطع “

خرج من بين الصفوف خمسة وحوش يحملون أواني توسطها حبة حلقوم واحدة ثم أكمل :

“أربعة منها مسمومة واحدة منها هي سليمة، اختر أحدها أو اختر الخدعة، حيث سأسألك سؤالاً وعليك ألّا تقع في الفخ، ما رأيك ؟”

التهب فتيل غضبي وأنا أحاول أن أتماسك فقلت معبراً عن انزعاجي :

“إذاً أنت تحكم علينا بالموت بطريقة غير مباشرة ؟”
فأجاب :

“افهم الأمر كما تشاء ، والأن سأعيد السؤال لآخر مرة، خدعة أم حلوى ؟”

“أختار الخدعة “

أجبته بسرعة بدون تفكير، ففرصة نجاتي ضئيلة أن اعتمدت على الحظ، لو كان حظي جيداً لما كنت هنا أصلاً. هذا ما ظننته حتى شقت ابتسامة عريضة فكييه وقال بكل سخرية :

“هذا جيد “

ثم أكمل سارداً السؤال:

“لطالما شاهدت أو سمعت أن الوحوش أغبياء، ولكن هل تعرف كيف هو شكل الوحوش الذكية ؟”

فصرخ جين منفعلاً من سؤاله :

“أنا لا أفهم هل تختبرنا أم تريد أن تتباهى بنفسك “

فنظر إليه نظرة أخرسته وكأنه أم تعاقب ابنها، فسكت جين والفت جانبا محاولاً عدم النظر لعينيه ، وأكمل ذاك الشخص :

“كيف يبدو شكل الوحوش الذكية، هل هي كائنات خفية تحيك خطتها؟ أم أنها تعيش بعالمها الخاص ، ولا تهتم لأمر البشر أصلاً. أم أنها تجلس وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على فريستها ؟ اختر أحد هذه الإجابات “

فهمت من كلامه أن جميع هذه الإجابات متشابهة، فعضضت شفتاي وأنا متأكد بأن هناك خدعة بالأمر، فإذا اخترت أحدها ربما تكون نهايتي. ظللت أفكر حتى نظر إلى ساعته وقال بسخرية :

“نعم يا صغير لديك كل الوقت، ولكن لدينا مشكلة صغيرة، الشمس ستشرق عما قريب، وسنغادر هذا العالم ولن تكون لك فرصة الخروج حتى العام القادم، من يدري ربما تكون ميتاً حينها “

إقرأ أيضا: سرداب الموت

زاد كلامه التوتر في قلبي وظللت أحدق وأغمض عيني محاولا العثور على ضالتي فأمسك جين بكتفي وقال مطمئنا:

“لا داعي للتوتر أنت تستطيع “

وبعد ثوان أدركت ما كنت أبحث عنه فنظر إلي وقال :

“إذاً هل عثرت على إجابتك؟”

أجبته:

“نعم”

“إذاً ما هي ؟”

فقلت وكلي أمل برؤية أهلي وهم ينتظروني خلف تلك الأبواب :

“الجواب الصحيح ليس أحد خياراتك، بل هو مشتق منها تقريباً، الوحوش الحقيقية هي التي لا تظهر لك بأنها وحوش أصلاً، إنها مثلكم تتنكرون بهيئة لطيفة ، لتأكلوا ضحاياكم بعد الغدر والخيانة”

ابتسم ذاك الشخص بهدوء وقال :

“أحسنت تستطيع الخروج”

التفتت إليه باقي الوحوش وكأنها تريد الاعتراض ولكن بدون جدوى فقد اتخذ سيدها قراره ففتحوا لنا الطريق وظللنا نسير بتوتر نحو الباب حتى عبرنا من جنب ذاك الشخص و الذي بدا عليه الهدوء التام، كنت في كل خطوة أخاف بأن يقوم بالهجوم، ولكن بدأ ذاك الشعور بالزوال ما آن فتحت الأبواب. ولكن ما إن كادت ساقاي تلامس تربة الخارج حتى صاح ذاك الشخص وكأنه نسي شيئا:

“اه صحيح كدت أنسى، صحيح بأني قلت لك تستطيع الخروج، ولكني لم أقل قط تستطيعان الخروج “

التفت لجين وحاولت إمساك ذراعه وسحبه للخارج ولكن ما أن أدرت رأسي حتى أبصرت رأسه يحلق بعيداً عن جسده وكأنه امتلك جناحين، والدماء تتطاير من تلك الحنجرة الممزقة فصرخت عالياً وكأن العالم انتهى ، فحرك ذاك الشخص ذراعه وسرعان ما دفعني خارج تلك اليقطينة العملاقة و أغلقت الأبواب أمامي ، فظللت أنادي والدموع تغرق وجهي بمياه مالحة :

“جين!! “

وأنا أسمع صوت قلبي وكأنه صار كصوت دقات ساعة، فغبت عن الوعي دون أن أشعر. وبعد فترة بدأت أفتح عيوني المتورمة وبرؤية ضبابية استطعت أن أبصر عائلتي وهي تصرخ وتبكي، فاستيقظت على مهلي وأدركت أنني بالمشفى، لكن سرعان ما تذكرت كل شيء بكيت بدوري وأنا أقول بحزن شديد :

“لقد قتلوهما ، لقد قتلوا صديقاي ، بال وجين “

وضعت يدي على عيوني محاولاً مسحها، فصرخت أمي ودموعها تسيل وكأن ابنها قد جن :

“عن ماذا تتكلم ؟! أنت لا تملك أصدقاء بهذا الاسم! “

Krawre

العراق - للمزيد من القصص حسابي على الواتباد Krawre-sama
guest
2 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى