أدب الرعب والعام
لسنا مجرد ميثولوجيا – نحن حقيقيون مثل عواءنا – الجزء الأول
سمعت له زئيراً غريباً أشبه بصوت ذئب شرس لكن صوته كالرعد عال جداً |
لم تكن تلك الليلة أقل برودة من ليلة الكسوف الأحمر التي سبقتها ، صفير الرياح يشكل مع اهتزاز النوافذ المضطربة كأحاديث أولئك الفشلة في الحانه المجاورة سنفونية من الإزعاج ، كانت كل ما ينقصني و أنا أكافح لأبقي قبعتي الدافئة التسعينية فوق رأسي ، و كأي بائع بسيط قد أغلق محله في وقت متأخر سيحاول أولئك الملاعين مطاردتي ككل من يسري ليلاً وحده في شوارع رومانيا ، لم ألحظ نفاذ الرصاص مني .. تباً ! لا يمكن مواجهة عصابة من قطاع الطرق بمسدس فارغ !.
تابعت المشي نحو مكان ركن دراجتي لأسمع فجأة صوت السلسلة الذهبية اللعين ، كان كلبهم الشرس يمشي على الجانب الأخر من الطريق كأنه راقص قاتل يخطو بكل ثقه على أربع نحو عكس وجهتي ، صار قلبي يخفق بتمرد و خوف فأنا أعاني من الخوف المرضي من الكلاب ، دعوت بشدة ألا يلتقط رائحة خوفي الذي منعني حتى من النظر اليه عندما صار أقرب ، أحاول بشدة ألا أركض و أنا أمشي بشق الأنفس ، تتسارع خطواتي رغماً عني ، صار الأن خلفي و الحمد لله ، إن صوت قلادته يتخافت شيئاً فشيئاً و لكن مهلاً ! لم يصل إلى أن يتوقف هكذا فجأة ! لماذا توقفت أيها اللعين ؟ أكمل و سأكمل و لننتهي من هذا الهراء ، صوت سلسلته المعدنية صار يقترب الأن من الخلف و يزداد و معه خفقات قلبي تزداد بدون الجرأة للالتفات للوراء و هكذا سمعت نباحه الغاضب خلفي مباشرة و شعرت به يركض ، صرت أجرى لا أعرف كيف أتنفس و قدماي تخونني و جسدي الرياضي صار أثقل فاثقل و مع ذلك قاومت و ركضت تدفعني غريزة البقاء بعيداً عن نباحه المتكرر المرتفع ، تباً لم لا يخرس ؟ سوف يسمعنا أصحابه الملاعين ، سمعت صوت قائدهم اللعين ” أدوارد” متوعداً كعادته و قد أيقظه صوت كلبه الكاسر : ” روبنسيي ، عد إلى هنا ، سوف أمزقك و أطعم أشلائك لروستر ، أتمر بالقرب منا دون أن تدفع لسلامتك ؟ استيقظوا يا ملاعين فلنقضي عليه ”
و هكذا صاروا يطاردونني و بجانب أني اعزل … لا أدري ما الذي حصل مع عمال مركز الإنارة الليلية لتنطفئ أنوار الشارع كأن هناك من أفسدها ، لا زلت أطارد دون أن أرى شيئاً ، بصعوبة أخرجت مصباحي و شغلته لأرى فتحة نفايات بين جدارين ، لم أبه و أطفأت نوري و ارتميت فيها وسط ضوضاء الملاعين المقتربة ” نعرف أنك هنا يا روبنسي ! أخرج من عندك ” و تعالت أصواتهم مقتربة أكثر و يا ليتهم أمسكوا بي في تلك الليلة ! نعم و هذا هو ما لم أتوقع يوماً أن أتمناه !.
هدوء شديد… اختفت أصواتهم تماماً ….و ما لم ألاحظه هو اختفاء ضوضاء الحانة أيضاً ، أسمع خطوات متأنية لدابة ما ، لا بل أرى بخار أنفاسها الدافئ في البرد يأتي من خلف الجدار لا يكاد يظهره سوى ضوء القمر الشاحب ، و ها أنا مستلقي في أكياس القمامة البائسة أشاهد ذلك الشيء الذي لم يكن إلا روستر المرعب يمشي نحوي في قمة الهدوء و قد شعرت بغبائي لخوفي منه ، إذ سقط أمامي ليظهر أن شيئاً قد حل بظهره فهو شديد اللمعان تحت ضوء القمر ، فأمسكت بالمصباح و أنرت ليصدمني ما رأيت ، تخيل أن ترى كلباً أمعاءه تتدلى منه بينما بقيه أعضاءه الداخلية مختفية تماماً و جثته لا زالت تتبول ، شيء ما أرعبه بالتأكيد ، كذلك إدوارد و عصابته ، رواد الحانة و عمال الإنارة قُضي عليهم كلهم تماماً ، ما هذا الشيء يا اللاهي ؟ سمعت له زئيراً غريباً أشبه بصوت ذئب شرس لكن صوته كالرعد عال جداً ! كان كأنه يتنفس بعمق قادماً باتجاهي فاختبأت بين أكياس القمامة ، سمعني المخلوق فثار و هرع إلى فتحة القمامة متفحصاً جثة الكلب روستر في غضب على بعد أمتار مني ثم راح يهشم عظامه بسهولة كالألة ، رائحة الدماء خانقه جداً و أشلاء الكلب المسكين تتطاير هنا و هناك ، إنه حقاً يستمتع ! لا أستطيع و صف سعادتي عندما جاءت الشرطة ليرتبك الوحش المرعب و يفر محدثاً فوضى دموية ليلطخني ، أخيراً شاهدته يقفز بارتفاع و خفة ليطأ على سقف عال جداً محطماً بعض القراميد و يواصل القفز برشاقة بالغة و خفة كالريشة لا تليق بقاتل متسلسل بطول خمسة أمتار و وزن يقارب الطن.
كان ذئباً كبيراً بجسد أشبه بالبشر و فراءه الكثيف المبلل بالدماء لا يمنع من ظهور عضلاته البارزة , لم أصدق عيناي ، لقد كان مستذئباً حقيقياً ! كذلك الذي أخبرتني عنه خطيبتي “جاين” التي تدرس الميثولوجيا.
” أرفع يديك عالياً سيد روبنسي جاكلورد و إياك و أن تقوم بأي حركة “.
تقدمت الدورية بأضوائها نحوي و كنت قد شاهدت ما يكفي , أحدهم يكبلني و اثنان يفتشانني.
– ما الذي تفعلونه ؟ اتركوني أنا لم أفعل شيئاً !.
– سيدي أرجوك ألتزم الصمت ، هذه إجراءات ضرورية.
– اليك عني أيها الضابط ليس لديكم أي دليل أنني قد قتلت كل هؤلاء الناس ، أنا أعزل !.
– سنتكلم في قسم الشرطة ، إياك أن تقاوم الاعتقال يا جاكلورد ، جميعنا نعرف مشاكلك مع هذه العصابة لكن هذا لم يكن أبداً سبباً لفعلتك !.
– أرجوك دعني أتصل بخطيبتي فهي قلقة …
تجاهلني ذلك الغبي و راح يعطي الأوامر ، ينطق شرطي كان يفتشني متحمساً : ” سيدي وجدت عنده مسدساً “.
– لكنني أحمله بترخيص …
– نعلم أنك تحمله و لكن الضحايا قد مزقوا تماماً كأن حيواناً معيناً قد هاجمهم إلا أن أعضائهم منزوعة بدقة يد بشرية !.
و أضاف : ” جميعكم … فتشوا في المكان عن أي سلاح أخر ، سدريك أنت اذهب و فتش عن مكان الأعضاء ، أنا سأخذ روبينسي إلى مركز التحقيقات ، جيراي ! ما الذي أخرك هكذا ؟ اتصلوا بالأنسة جاين و حققوا معها أيضاً “.
– لا ، لا تقتربوا منها أيها السفلة.
دفع بي قائد الدورية داخل السيارة .
لا أحد صدق بأنني بريء و قرروا أن يضعوني في السجن إلى أن تحصل جريمة أخرى ، لقد صعب علي النوم في ليلة كاملة داخل زنزانة غير مريحة و المكان لا يخلو من ثرثرة رجال الشرطة ، يا لهم من مغفلين حقاً ؟ هذا يأكل الحلويات مع رفاقه و هؤلاء يتكلمون حول أوراق ما ، هذا شرطي أخرق أخر مع زميلته يحاولان الحصول على موعد غرامي , بينما الوحش يهيم في الشوارع و فوق الأسطح .
غفوت و بدا لي كأني أرى ادوارد بجسمه الممزق بين رجال الشرطة يخاطبني :” روبي … لم تبدو كأنك رأيت شبحاً ؟ “.
– يا إلهي ، ألست ميتاً ؟.
– بلا ، بلا ، أوقف هذه الدراما الأن يا روبنسي ! و لننسى الأن عن خصوماتنا .
– صحيح أيها الأحمق فلولا مطاردتكم لي لكنت ممزقاً مثلك الأن .
– هل هذا حقاً ما تظن أنه مهم ؟ إن هذه التمزقات ليست شيئاً مقارنه بما رأيت أنا ! جئت لأحذرك . إن هؤلاء الشرطة لا يبالون أبداً بسلامة الناس ، بل لن يتركوك و شأنك إلا بعد أن تعطيهم رشوة تليق بهم , و الوحش حقيقي يا صديقي ، حقيقي جداً و خطيبتك محقة يجب أن تسمع كلامها جيداً , و الأن يجب أن نخرجك من هنا يا عزيزي .
تحول صوته لصوت أنثوي لأجد نفسي في ضوء صباح جميل ، و التفتت إلى ادوارد لأرى وجهاً بريئاً , إنها جاين تحدثني وحدنا في طاولة الاستجوابات ..
– عزيزي ؟ لا تقل لي أنك لم تستيقظ بعد !.
– جاين ! كنتِ محقة ، لست أهذي أليس كذلك ؟.
– لست تفعل ! هل أنت بخير يا عزيزي روب ؟ ألم يؤذوك ؟.
– أنا سعيد جداً بقدوم ضوء النهار و بقدومك إلى فكيف لا أكون بخير ؟.
ضمتني بهدوء و وئام و همست في أذني ” لقد رأيت ما يكفي و لكن يجب أن ترى هذا “.
– ما الذي تقصين ؟.
– تعلم أنني أحبك و لن أؤذيك حتى لو كنت وحشاً !.
– جاين أنت لست ..
– روبي ، إنها قوة خارقة للطبيعة و يمكن التحكم بها بسهولة ، لكن هناك من يستعملها للشر ، و لم استطع أن اخفي عليك الأمر أكثر.
تملكني شعور بالفضول الشديد و القلق عليها , ضمتني مجدداً و طلبت مني ألا أتفاجئ ثم وقفت أمامي مبتسمة و لاحظت الأنياب الكبيرة و امتلاء بياض عينها بالأوردة التي جعلت منه أسوداً و تحول لون حدقتيها من العسلي إلى الأصفر المتوهج وصار شعرها الجذاب من أسود إلى أبيض و كسا الشعر الأبيض جلدها ! جاين التي أحببتها لسنوات هي أيضا مستذئبة عاتية تنظر لي الأن بشكل مرعب و أقرب إلى البشر , لكنها سرعان ما عادت لطبيعتها و ابتسامتها و أنا أشعر بحماسة و سعادة غامرة لم أتوقعها ، صدف أن احدى هذه المخلوقات التي لم أتجرأ على لمسها قريبة مني و هي حبيبتي ! بدا كموقف مضحك لغرابته ، لم أرد أن ألقي بالاً لذلك الرجل الذي يراقبني من نافذة في مكان ما بالمركز ، هؤلاء الشرطة المزعجون لا يعرفون الخصوصية على أية حال .
– أيتها الشقية لماذا أخفيت الأمر عني ؟ تباً كم هذا رائع ؟.
– لست الوحيد الذي يفاجئني أحياناً يا روبي أردت أن أصارحك في الوقت المناسب.
– أنتِ مختلفة ، لونك أبيض بينما الذي رأيته أمس لونه أسود .
– كل له لونه الخاص و كل له شكله فأنا ذئبة بيضاء و ستراني في شكل الذئب الكامل عندما نكون وحدنا في مكان ليس فيه أحد من العامة ، أتريد أن تكتشف كيف يكون شكلك الخاص يا عزيزي ؟.
– أتريدين أن أنضم اليك ؟.
– قدرنا أن نكون معاً و لا يهمني إن لم تكن مثلي ! فقد عضني أحد المستذئبين منذ سنتين و نحن معاً منذ خمس سنوات و الأن أنا أريدك أن تحصل على هذه القوة فأنت تحتاجها لأن من رأيته أمس يعلم أنك قد اكتشفت أمره و يريد أن يقتلك ، أخشى ألا أكون حية من أجلك ، أنك رياضي وأقوى بكثير و مع تلك القدرة قد تكون أنت من سيخلصنا من طغيانهم.
– حفظك الله يا جاين ما هذا الكلام ؟ سوف أقف بجانبك في كل الظروف.
– أنهم كثر و نحن قلة , و هم يعتبرون المستذئبين الذين لا يمارسون الشر فئة شاذة عن أصل خلقهم يجب التخلص منها لأنهم يعتقدون أن عدونا اللدود الحقيقي هم البشر .
– من هو العدو الحقيقي ؟.
– لا أستطيع أن أخفي عليك شيئاً و لكن الوقت لم يحن بعد يا روبي لأخبرك .
دخل الضابط ” تشاك ” فجأة قائلاً :” أنتهى وقت الزيارة يا أنسه ريسرز ” , لم تشح بنظراتها عني ، قبلت جبيني متجاهله تشاك ثم ذهبت على رسلها , فرمى الضابط كيساً من الكعك على الطاولة.
– لقد أرادت منك أن تحصل على هذه .
– شكراً لك .
– كل يا جاكلورد , ستحتاج الطاقة للاستجواب التالي .
– في الحقيقة أنا لست بحالة جيدة و لا يمكنني الأكل يا تشاك.
أخذ الكعك إلى مكان ما ثم أرشدني إلى قاعة التحقيقات فبدأوا يستجوبونني و حضر بعضهم متأخرين.
” جو ! لماذا تأخرت عن الموعد ؟ و أنت يا جيراي دائماً متأخر “.
صاح فيهم تشاك فخجل جو و تمتم جيراي متذمراً ، بدأ الاستجواب و رحت أجيب عن كل اتهاماتهم لي و أسئلتهم و بينما الكل منهمك حتى نسمع صراخ شرطية في المطبخ فهرع الجميع ليجدوا جثة شرطي بدين و في فمه وجد شيء صدمني كثيراً ،
جاين ! لقد وجدوا بفمه الكعك الذي أرسلته لي جاين .
شمس الظهيرة تحاول مضايقة عيني لكي لا تفتح من الذهول , أما أنا فقد ضايقني ما رأيت ! لقد مات ذلك الشرطي مباشرةً بعد ما تناول الكعك الذي أرسلته لي جاين ، الحمد لله أنني لم أكل ، لكن كيف ؟ لماذا تفعل هذا الأن ؟ لا ، جاين لن تنوي لي شراً مهما حصل ، أنا أعرفها منذ خمس سنوات ، الصديقة المثلى و المضحية لن تفعل هذا دون أن تحرك في الحيرة.
كان بقية الشرطة باشمئزاز يرمقونني بنظرات ثقيلة و قد نسوا كل ما خص الاستجواب , انبطح تشاك ليتفحصه في ثوان وسط جو الحزن و السخط في المركز البوليسي , هناك مجرم ما ، قاتل سفاح , لا أدري من يكون هذا الملعون لكنه و حسب نظرات الشرطة الاتهامية لي و بعد كل ما حصل يريد الإيقاع بي ! هل أجبر جاين على فعل شيء كهذا يا تُرى ؟.
صمت شديد ، وقف تشاك و استدار نحوي .
– هل تظن أننا قد نصدق أن الرجل مات موتاً طبيعياً ؟.
– لست أنكر أنه تسمم أيها الضابط تشاك و لكن جاين خارج هذا الأمر صدقني .
– و لست أنت من يخبرني كيف أقوم عملي يا روب ، سألقي القبض على من أشاء.
– اتركوها فهي بلهاء و لا تنتبه لتاريخ المنتوجات .
صرخ بشدة و راح زملاءه يمسكونه ليهدأ : ” أيها الأخرق الأعمى! افتح عينيك ، لقد مات صديقي مباشرةً بعد تناول هذا الهراء ، لقد حاولت حبيبتك تسميمك أيها العاشق الأعمى “.
” لا تهدر طاقتك على هذا المجرم يا رفيقي , أنا واثق أنه خطط لهذا مسبقاً مع عاهرته ” قالها ذلك المتعجرف جيراي بكل ثقه ، ألهذا كان يراقبني كل الوقت يا ترى ؟ استفزني الأمر فهاجمته بفوضوية و صرخ الأخرون بهلع ما عدا تشاك الذي أصبح رأسه للأسفل تكسو وجهه المرارة ، أما جيراي فقد أمسك بخصري و حملني لأعلى و صدم رأسي في السقف القصير لكي يطرحني أرضاً ، وأنا في الأعلى أمسكت بمصباح نيون كبير و اقتلعته بخيوطه الكهربائية الراقصة كنبتة تقتلع من جذورها و كسرت زجاجه على رأسه ذو الشعر الأصفر الذي صار أحمر من الدماء إلا أنه لم يغلق عينيه أبداً ، وسط عشرة رجال شرطة يمسكون بنا مثل كلاليب جهنم ، انتزع هذا الشرطي الزجاج من عينيه الداميتين اللتان تنظران لي بسخرية ، من يكون هذا الجيراي الخبيث ؟ لكمة أخرى مني و شعرت كأنني أضرب شجرة بلوط و تهشمت أصابعي ، لكن الرجل راح يلقي نفسه وسط رفاقه و يتلوى متظاهراً بالألم و هكذا دخلت السجن المستعجل بتهمة التعدي على شرطي مسكين !.
أخذني الحمقى في سيارة إلى سجن “كروكدبرد” القريب من حينا و كان مدخل السجن نظيفاً ليبدي عكس ما بداخله ، دفع بي رجل ضخم من الحراس البائسين نحو الغرفة التالية إذ كانت ضيقة و قد انتهت الفسيفساء القديمة مع مدخلها لأجد جدرانا إسمنتية غلب عليها التعفن الأخضر ، رفع الضخم إحدى قطع البلاط الكبيرة لتهرب أنواع قذرة من الصراصير و الحشرات و الجرذان و استمر برفعه أعلى بإصرار حتى تمزقت كل تلك النباتات التي وصلت بينه و بين محيط الحفرة , تباً هذا الشيء لم يُفتح منذ زمن !.
نزل الحارس في درج شبه عمودي بصعوبة في المدخل و صاح بنبرة قاسية و صوت أجش :” أنزل جثتك إلى هنا أيها السجين ” بصقت في الأسفل بسخط متجاهلاً صوت تلك الخطوات خلفي التي سرعان ما أشعرتني بمعدن بارد يلامس مؤخرة رأسي ، فنزلت مكرهاً خوفاً من أن يضغط الزناد , نزلت إلى الظلمات لمسافة ما حتى لم أعد أرى شيئاً ، فأمسكني الحارس بعنف و جرني بقية المسافة و هو يبصق في وجهي مراراً و يشتم و أنا أقاومه وأضربه غير مبصر , و ما أحسست به هو الحائط الذي رماني بقوة عليه لأهشم ما بدا من صوته أنه طلاء متيبس و متقشر و سقطت علي بقيته من سقف الزنزانة ، أغلق الحارس عليَ ببلاهة و اختفى صوت خطواته بعيداً ، ثم ما ذلك الصوت الباكي لامرأة تنادي بإسمي و تصرخ من بعيد أعلى المكان الذي سرعان ما اندثر بعد أن أعادوا البلاط لمكانه ، تساؤلات لم تكفي لتشغل بالي كل ذلك المساء , بتعب ظللت أفكر بجاين و ذلك المستذئب الأسود و عن مصيري المجهول , المكان مظلم و هادئ و الرائحة العفنة لم تعد تزعج منخري بعد هذا الوقت الطويل و الممل ، هل اعتقلوها هي أيضا ًيا تُرى بتهمة التسميم و محاولة قتلي ؟ لماذا لا زلت أحب هذه المنافقة بعد ما فعلته ؟ لماذا أرادت قتلي ؟ دعوت الله أن أكون مخطئاً.
غفوت ففتح باب الزنزانة بهدوء ، استيقظت بسبب تلك الأرجل الصغيرة التي تمشي على عنقي , العناكب اللعينة مجدداً ! قفزت بهلع في الظلام و الأن لا أدري أين هو , تحركت أملاً في أن لا يكون ذلك العنكبوت فوقي فضربت رأسي في الباب و لم أره , مهلاً الباب مفتوح بالفعل ! ولكنني سمعت الحارس يغلقه بإحكام ، ما الذي حصل ، هل أنا أهلوس ؟.
” هل تعلم أن العناكب تتذوق بأقدامها ؟ ” قالها صوت غامض نعم أنا أهلوس بالتأكيد ، قلت في نفسي ذلك ، ما يهم الأن أن الباب مفتوح , سوف أخرج من هذا المكان القذر و مددت خطوتي خارج الباب ” لا أنصحك بذلك !” , تباً إنه الصوت مجدداً .
– مرحب…
– ” أنت لا تعلم ما الذي يوجد هنا يا صديقي , أنصحك أن تبقى في مكانك “.
– ما الذي تعلمه أنت أيها السجين ؟.
– وحدك السجين هنا أيها الصبي أنا أعرف اسمك .
مختل عقلياً ربما ، يا له من مسكين ! أردت أن أرفه عنه قليلاً فرحت أمازحه :
– و أنا أعرف أسم جدك الأكبر الخامس ، رجل حفيده الخامس زميلي في السجن .
فلم يجب شيئاً ، صوت قطرات عفنة تقطر في مكان ما ، بقيت واقفاً لا أبصر شيئاً .
هل ذهب ؟.
– و أنا أعرف أسم جدك الخامس أيضاً ، لقد كان اسمه دوريان شيري جاكلورد و لكن رفاقه كانوا ينادونه نوجي ، لأنه كان يشبه شخصية روايات نوجي ، أكيد لن يعرفه أبناء هذا العصر .
صوته كان يزداد ضراوة و رعباً بعد كل حرف إلى أن صار كالرعد !.
– من أنت بحق الجحيم ؟.
صراخي على صاحب ذلك الصوت تكرر صداه بعيداً ، إن هذا المكان المشئوم كبير جداً ، كم من زنزانة هنا ؟ لماذا لم يرد علي ذلك الصوت
الغامض منذ ساعات , ألا يريد الكشف عن ماهيته ؟ أصبحت أتعرق رغم برودة المكان ، كم سيبقونني هنا ؟ أود أن اخرج رغماً عن تحذيرات هذا
الكائن الغامض ، أشعر بالخوف و أغضب في كل مرة أذكر فيها أني لا أرى شيئاً ، فالظلام هنا يخنق الأنفس ، تباً لهذا الشيء و كلامه , ماذا قد يحصل
و يكون أسوء من بقائي كالأبله هنا أقف في الظلام ليوم كامل ، سوف أخرج ، هممت لأخرج من الزنزانة و صدمت جسدي و وجهي بالباب المعدني
كيف عاد الباب محكم الإغلاق مجدداً ؟ سئمت من ألاعيب هذا الشيء ، صرخت بكل قوتي صرخة حيرة و انزعاج : لماذا ؟ أريد أن أقتل هذا المخلوق.
” أصبحت عصبياً جداً يا رووبي ! روبي الصغير يريد أن يقتلني ، لااا لااا ، روبي الصغير يريد أن يق ….”.
استمر يغني تلك الكلمات بلحن طفوليي لا يتناسب مع صوت وحش لا يمد للبشر بصلة ، وسط صراخي عليه :
– من أنت ، من أنت يا هذا ؟.
– من الذي ضربك في عينك يا روبي ؟.
– أستطيع الرؤية في الظلام ؟.
– لا تضحكني الأن ، أستطيع رؤية قلبك و هو ينبض , رائحة خوفك تخنقني ، أستطيع أن أعد الملايين من كريات دمك و هي تسري في أوردتك
واحدة تلو الأخرى ، آآه نسيت أنك بشري لا ترى في الظلام ، عجيب , إذن كل هذا الخوف و أنت لم ترني بعد ؟ لماذا لم تذكرني ؟ كنت سأنير لك
المكان !.
شعرت بالخوف أكثر و لكن جزءاً مني ارتاح لأن الظلام سيذهب أخيراً .
– أرجوك ، أي شيء ليختفي هذا الظلام !.
– حسناً أيها الفتى ، و لكن أحذر أن تتحرك أو تخيفها فتنصرف بعيداً .
– شكراً لك أيها الغامض …
سرعان ما رأيت وميض نور من شيء يمشي على حذائي ، كانت حشرة اليراع تبعتها البقية و راحت تحلق حولي مضيئة المحيط الصغير من المكان.
بلاط غريب مشكل من الطوب الصخري القديم جداً الذي أكله التعفن الأخضر و امتزج مع نبات نام على ذلك الطوب لمدة طويلة , لن أحدثكم عن
جماجم تلك الفئران أو أيا كانت تلك الأشياء ، وميض الحشرات ينعكس في قلة من حديد القضبان حيث لم يصل الصدأ الكثيف فألمح تلك العين المرعبة الخضراء منعكسة على الحديد كأنها جمرة متوهجة ظهرت للحظة ثم اختفت ، ما أعرفه هو أنها بالتأكيد تعود لصديقي الجديد هذا !
بينما أطلع على ما تصله عيني من الضوء ، يائساً من كل محاولة الحديث معه لأن الملعون يحدثني وقت ما شاء هو و ليس أنا ، شعرت بشتائم فظيع ، عالق هنا يتلاعب بي هذا الشقي كما يشاء ، اليراع بدأ يحيط بعيني و بت الأن معمياً من الضوء , لا أستطيع أخافتها فقد لا تعود ، صمت تقطعه القطرات و صداها من المجهول …. ما عدت أحتمل ! صرت أتوق لسماع صوته المرعب ، كل شيء إلا البقاء بلا حراك في بقعه من الطوب ، حفيف أفاعي يقترب مع ضحكات خافتة لذلك الصوت ، لا توجد ثعابين فلم صار صداها يخنق أذني ، صرت أسمع صوت الصمت ، لست مجنوناً أنه صوت الصمت الفارغ و همساته تتزايد بجنون كأن المكان سينفجر , شعرت بتشاؤم و خوف و توتر كأن هرموناتي تخونني , طاقة هائلة تقترب مني الأن ، طاقة سلبية ! أنه هو ! عاد .
و هناك لمحت في الظلام عينين صغيرتين ، لونهما أخضر كأنهما تكلمانني ، حملتا نظرة حيوانية نحوي و لكنت ظننته أرنباً أو حيواناً أخر لولا توهجهما الأخضر .
– روبي سألني من أكون ؟ هل تتحمل رؤيتي ؟.
– لا عليك ، أخرجني من هنا فقط.
– هوو هوو هوو ! سانتا كلوز اللعين سيخرجك أيها الجاكلورد أو ربما ماري بوبنز ، ما الذي يفعله من مثلي هنا في رأيك ؟.
– أنت تعرف كل شيء ، و لكنك عالق هنا أيضاً ، أمرك غريب .
هنا بدأ ذلك الحيوان الصغير بالاقتراب أكثر و صار ينعكس نور عينيه على أسنانه البارزة و راح يتقدم نحوي بزئير خفيف .
– الغريب الوحيد في هذه البقعة هو أنت يا روب ، سأخبرك من أكون .
تتقدم تلك الدابة الصغيرة نحوي و تدخل حيز الإنارة ليرتسم شكلها ، إنه مجرد هر .
مجرد هر أسود ينظر لي ببرود و يبتسم مثل البشر ، أمر عادي جدا بعد كل ما رأيت !.
– ووووو ! قط يتكلم ! حسنا هل تستطيع أيقاظ الناس من كوابيسهم أيضاً ، فأنا أحتاج بشده أن توقظني.
نسيت أمر جاين تماماً ، فقط أرى هذا الشيء يحدق بي مبتسماً و لا يرمش أبداً ! هل هذا هو إله الخصوبة ؟ القطة التي عبدها المصريون و التي حدثتني عنها جاين ؟.
– هيا هل أنت جاد الأن يا روب ، إلهة الفراعنة ؟.
– توقف عن قراءة أفكاري أيها القط .
– لا تجعلني في عمر جدي السادس الأن ! أنا في ال500 من العمر فقط ، و تلك الإلهة التي عبدها المصريون في الماضي مستوحاة من عشتار أو فينوس التي عبدها الشرقيون و ما هي في الحقيقة إلا بائعة هوى ، أخ يا رووبب أخ أنهم يعبدون كل شيء !.
– حدثني عمن تكون ؟.
– إن أعطيتني ما في جيبك ! لقد سئمت أكل الصراصير و العناكب لمدة خمسة و عشرين عاماً.
يُتبع …….
تاريخ النشر : 2020-03-10