أدب الرعب والعام

جَأَشَ حَتَّى غُوِي

أفتح تلك المرامق بخفة مرهقة، وأنا أستمع لذلك الضجيج المنبثق من كتلة حديدية مكعبة. تنهدت بغضب وأنا أحرّك ذراعي المنهكة لأطفِئ المنبه، والذي يعيط صارخاً وهو يحذرني من اقتراب موعد امتحاني. تلك الأنسجة التي كونت جسدي أشعر بأنها مشدودة بقوة وتؤلمني بما تيسر لها من ثقة، كمن زرع أسلاكا صدئة بدل تلك العظام الوهنة، نهضت من مكاني ليتضح نومي على الكرسي مجدداً، غرفتي مظلمة رطبة لا يمس نافذتها سوى الظلال من العمارة المقابلة، فمن بين جميع غرف الأقسام الداخلية كان نصيبي هذه الغرفة والتي تقبع في زاويةٍ لبناية ضخمة لا تطل إلا على جدار بالكاد تأنس الضوء بها، كانت مخزناً قبل أن أطأها لذا تستطيعون بسهولة معرفة حجمها، خرجت منها بعد أن انتعلت حذائي الرث وأنا أحمل معي تلك الحقيبة الضخمة، ما بها؟

سأجيبكم، إنها أدوات طبية تتراوح بين سماعات وأجهزة لقياس السمع وفحص السكر، أنا طالب في المرحلة السادسة من كلية الطب، هذا مذهل صحيح؟

لا، إنه كابوس.. كانت البداية حلما وأملا تطلعت له منذ الصغر، ولكن متى أصبح حلم الطفولة كابوساً أتمنى الاستيقاظ منه؟

ركبت الباص حتى وصلت لحرم الجامعة، كانت الأروقة تعج بضجيج قادم من الطلاب، ضحكات، همسات، صراخ، ضحك، غضب، حب، حماس.. يا لها من كومة ضخمة من المشاعر المتلخبطة، آه كم يملكُ أبناء آدم من المشاعر بالضبط؟ لم أكن ذلك النوع الذي يكون الصداقات فقد أضحت كامل علاقاتي سطحية.

بتلك العيون السوداوية والجفون المترهلة والتي احتضنت سواداً وبوجه شاحب بائس، وبفم عريض رحت أطالع زملائي. كانت إحدى المجموعات تتحاور فسرت نحوهم وقلت بحزم تكلّلَه التوتر :

“أين هو ممثل الفصل أيمن؟ “

فرد علي أحدهم بأنه لا يزال يتناقش مع الأساتذة لعله يؤجل الامتحان. كتمت غيظي فبهذا العمر وبعد كل هذه الدراسة لا يزالون يحبون تأجيل الأمور ولكن ما ذنبي ! فقد درست حتى صدع رأسي وتكسرت عظامي.

جلست على أحد تلك المقاعد لأنتظر. كان الجميع يتجنبني ويفسح المجال ليصنع مسافةً عريضةً بيني وبينه، كنت شابا عادياً متوسط الطول حالي كحالهم، كل الاختلاف الذي كان بيننا هو الوضع المادي فقط فلمَ؟

خرج الممثل بعد أن انتهى وسار نحو الجميع وهو مبتهج والابتسامة لا تفارق وجهه، وهذا ما أفزعني، أرجوك لا تقل ما أخشاه! فتكلمت تلك الكتلة العفنة:

” لقد تم إلغاء الامتحان “

فرح الجميع بحيث لا يستطيعون أن يتسعوا بأرضهم، وأنا بأرضي زرعت الغضب. لقد قاموا بالغائه ولم يؤجلوه فقط! اللعنة اللعنة.

ولأنه لايوجد امتحان فقد توجهنا للمشفى لنكمل التدريب، قسمنا لمجموعات كالعادة، لم أكن أحب الجانب العملي مع المجموعات لأنني حفظت كل شيء وأفهم بهذه الأمور أكثر منهم ،وكل اعتمادهم علي حين يسأل الطبيب. لذا غالباً ما كنت أغادر المجموعة وأظل أتسكع بأروقة المشفى، والتي كانت تعج بالمرضى، منهم من كانت حالته مزرية ومنهم من كان بأتم العافية ولكنه يحب أن يضيع وقتنا ليتأكد من صحته ويأخذ دور من هم بحاجة ماسة للعلاج. في بعض الأحيان شعرت بالشفقة عليهم وأحياناً بالامتنان لأنني بكامل صحتي وفي بعض الحالات بالفرح، كيف؟

ببساطة بعض البشر يستحقون الألم الذي هم به، مثل ذاك الرجل الغاضب الذي يصرخ على أطفاله الذين يعانون من ألم معين ويظن أنهم يكذبون فيضربهم، وتبكي الأم محاولةً منعه. نعم لقد استحق الأمر حين جاءنا الاسبوع الماضي وبترنا ساقيه لحالة توجبت ذلك. رغم أن هذا لن يغير طبعه أو أخلاقه على أي حال.

وقفت عند أخصائي الباطنية ورحت أراقب عمله من بعيد كالعادة، كان رجلاً كهلاً عريض المنكبين وبأنف معقوف توسط وجهه ذو البشرة البيضاء. قصير القامة وبدين لحد ما، سمعت أنه سيتقاعد نهاية هذه السنة. كان الطبيب ماهر ماهراً كاسمه بحق، يشخص المرضى ويعرف علتهم بثوان حتى لو كان المريض خارج اختصاصه فجأة التقت أعيننا وما أن أبصرني حتى ناداني إليه :

” يمان.. تعال هنا لماذا تدرس من بعيد ؟”

كنت متفاجأً أنه يعرف اسمي اقتربت بخجل وأكمل بينما يضع كرسياً لي بجانبه:

” اجلس هنا، أعرف بأنك لا تحب الدراسة مع مجموعتك، صحيح أن هذا ممنوع ولكن سأسمح لك هذه المرة فقط بالجلوس بمفردك معي “

تلعثمت بعبارات الامتنان بينما أجلس بجانبه :

” شكراً، سأحاول أن لا أزعجك “

مرّ بعض المرضى وانقضت فترة الظهيرة، وبصراحة شعرت بالملل. لم أعد استطيع الجلوس، فهذا ليس طبعي. فاستأذنتُ للانصراف وهذا ما فعلته، ولكنني قررت أن أجلب له وجبة الغداء لأعبر له عن امتناني. وبينما كنت أتوجه نحو غرفته وقبل أن أباشر بالدخول سمعته يتحاور مع أحد الأطباء وهو يسخر مني:

“نعم إنه طالب غريب بحق، لا اعرف كيف جعلته يجلس بقربي، أنا نادم نوعاً ما، فصوت أنفاسه عالي ويتحمس بشكل مخيف حين يتكلم المريض عن أعراضه، وأيضاً كان يحدق بالمرضى بطريقة مضحكة وكأنه يحاول أن يشخصهم قبلي “

ثم سكت ليكمل الطبيب الآخر :

” نعم معك حق في هذا، فهذا ما فعله ذات مرة فقد أعطى تشخيصاً لعجوز تعاني مشكلة في كليتها قبل أن يفحصها الطبيب صباح، من الجيد أنني أمسكته حينها “

شعرت بكم هائل من الإحباط، فتوجهت للحديقة وأنا أجر خيبات الأمل، ثم تناولت تلك الوجبة، إنه لا يستحقها بعد كل شيء. لقد سمعتم كلامه في الحقيقة كانت تلك العجوز مستعجلة وكان أمامها صف طويل من المرضى. أخبرتها بمرضها وبعلاجه حينها ولكني أصررت عليها أن تتأكد من الطبيب قبل أن تأخذه. وطبيب القلب الذي قال حكايتها قبل قليل كان قد أخذ بيدها حينها وصرخ بوجهي وأوصلها للطبيب صباح ليفحصها بنفسه. صحيح أن تشخيصي والعلاج الذي وصفته حينها كان صحيحاً بالكامل إلا أنهم لم يعترفوا بالأمر. أعرف أن ما قمت به كان خطأً ولكن كلامه بتلك الطريقة مؤلم. كان داخلي يحترق، لم أعرف لمَ أشعر بالخيبة لهذه الدرجة فأنا بالعادة لا أهتم.

في انتظاري لباص العودة سمعت الطلاب يتضاحكون، والممثل يناقشهم بسخرية واللعاب يتطاير من فمه العفن، كان أيمن شاباً عادياً طويلا لحد ما وذو لحية سوداء مشابهة للحية أحد الممثلين. أسمر وذو عيون كحلية. كان وسيماً واجتماعياً ولكنه متنمر بطبعه القبيح وهذا ما جعلني أكرهه بصراحة :

” نعم نعم، ليتكم رأيتم وجهه حين أخبرته أن الامتحان تم إلغائه، كان مصدوماً وكأنني قتلت أمه ههههه “

ثم تكلمت إحدى الفتيات والمدعوة باسم فرح بسخرية:

” لا أعرف كيف أصفه لكم، إنه غريب أطوار، يجلس بمفرده ودائماً ما يحمل حقيبةً يملؤها بكل شيء حتى المستلزمات غير الضرورية. شعره دائما في حالة فوضوية وملابسه عتيقة، ذات مرة ارتدى ذات الطقم لأسبوع كامل، يا له من قذر! “

شعرت بالمهانة ولكن أتعرفون؟ لم أهتم لأمرهم، أو بالأحرى ما عدت أهتم بعد الآن، فسبق وشرحت لهم ظروفي وناقشتهم مرات عديدة و ولكن عبثاً ما فعلت، كنت أصرخ عليهم ولكنهم استمروا على ذات المنوال، لا.. بل زادوا من إزعاجهم لي لذا أنا اكتفيت منهم الفعل .

حل الليل وبحلته بدأت عملي، كنت أعمل بدوام جزئي في مقهى الإنترنت، صالته عادية وصغيرة الحجم، احتوت على خمس حواسيب فقط وطاولتان لاحتساء القهوة. المناضد وأرضيتها كانت زرقاء وبتصميم غير مطروق فمالك الصالة شخص ذو ذوق مختل. الزوار قليلون والصالة خالية في بعض الأوقات كونها في أطراف المدينة وأنا العامل الوحيد في الشِفت الثاني، أعمل فيها من الساعة الخامسة حتى منتصف الليل لأسدد فواتير غرفة القسم الداخلي واحتياجاتي اليومية. كوني يتيماً لم يعقني من تحقيق حلمي والحصول على هذه المنحة المجانية في كلية الطب، ولكن كم أتمنى لو أنني درست شيئاً آخر ،

انتهى اليوم وبنهايته تراكم التعب والغضب والتفكير والوحدة، أكملت دروسي وتوجهت للسرير نحو الساعة الرابعة فجرا ، أتعرفون؟ حتى مع كل هذا التعب لا أستطيع سوى التفكير بمدى وحدتي.

وفي اليوم التالي وبينما كنت أتسكع كعادتي بممرات المشفى صادفت تلك العجوز مجدداً وهي تحارب ليعطيها أحد دوره، ولكن من دون جدوى. حاولت أن أتجنبها قدر الامكان ولكنها ميزتني من بين الجميع ووصلت عندي وبوجهها المجعد الذي بات يتلو علينا خبرة سنينه وبشعرها الأبيض الذي تخللته بعض الشعيرات السوداء وضعت ماسكتة زهرية تخص الأطفال، وبثيابها المزخرفة قالت لي بينما تسلمني أوراق تحاليلها:

“أرجوك يا ولدي فلتخبرني بالعلاج، لقد جئت متأخرة ﻷنني كنت أعتني بحفيدي “

فقلت لها بينما أهيم بالمغادرة :

” آسف لا أستطيع ذلك، فهذا ممنوع “

وبعد محاولات عديدة واتباعها لي في جميع ممرات المستشفى، وقفت جانباً وقرأت تقريرها وأعطيتها وصفة العلاج، ولكني اخبرتها أن تتأكد. كنت غاضباً فقد عكرت كامل مزاجي فأنا لا أحب أن يتبعني أحد، وبصراحة لم أكن قد نمت جيداً وقتها، فلم أقرأ التقرير بتمعن، وهذا ما زرع في قلبي الخوف بعد مغادرتها.

مر أسبوع بعد هذا، وبينما كنا نعاين المرضى بحضور الأطباء المختصين سمعنا صدى صرخات هزت أروقة المشفى، ثم وصل إلينا رجل ضخم البنية وبشعر أسود غزير منبوت من أذرعه وبعيون بنية حادة غاضبة وبخطوات غليضة متسعرة صرخ علينا :

” من منكم يا أيها السفلة قد أعطى العلاج لأمي؟”

حاول الأطباء تهدأته ولكن ذلك الشخص استمر بالصراخ:

“لقد ماتت يا أوغاد، سأقتلكم جميعاً إن لم تخرجوا لي المسؤول عن موتها”

من فحوى كلامه استوعبت أنها كانت تلك العجوز، كنت مصدوماً لا بل مذعوراً سيكتشفون أنني من أعطيتها العلاج، إنها مسألة وقت فقط وسأطرد لا بل سأسجن.

اللعنة، غادرت القاعة برفقة الطلاب وعدنا لأقسامنا الداخلية، تم حبسنا وفتح مجلس للتحقيق، كنت متوتراً وأرتجف بخوف وأنا أطالع ساعة غرفتي طول الوقت، حاولت الهرب قبل أن يصل الدور إلي ولكني لم أستطع الشرطة قد حاوطت المبنى، جلست على سريري وأنا أضم ساقي وأتخيل دخولهم علي بأي لحظة، واكتشافهم أمري، ثم بدأت أرتجف.

كان الجو معتدلاً وفي بداية الربيع، إلا أنني كنت أتعرق بشدة، نهضت من مكاني وتوجهت نحو النافذة وفتحتها مجدداً، ولكنني بالطابق الرابع، كيف سأقفز؟ كانت يداي مرتبكتان بشدة، حاولت أن أهدئها بضم ذراعاي معاً، فجأة طرق باب غرفتي، للحظة توقف قلبي، شعرت بألم لا يطاق، ساعتها لم أقو على النهوض، لذا قاموا بفتح الباب بأنفسهم ودخلوا، كانا شرطيان ومحقق واحد ومقرر القسم، ما إن أبصروا حالتي حتى هرعوا محاولين تَهدِئتي ولكني غبت عن الوعي.

حين فتحت مقلتيّ وجدت ذاتي في أحد غرف المشفى، نهضت من مكاني وللحظة عادت جميع ذكرياتي. شعرت بأنني نجوت حين لم أرهم حولي، فتوجهت نحو الباب ومن زاوية منه رحت أطالع الممرات، جيد لا يوجد أي شرطي، خرجت وكل مكنوني مرتعب، وما إن وصلت لصالة المشفى حتى صدمت بوجود رجال الشرطة، وقبل أن أعود أدراجي اصطدمت بالمحقق، وقفت أمامه بذهول كمن أبصر الجحيم بأم عينيه وقبل أن أنطق بحرف تكلم المحقق:

” هل أنت بخير يا بني كيف تشعر الآن؟ لا بد أنك كنت مرهقاً اعتن بصحتك جيداً “

ثم ربت على كتفي بينما كان يهيم بالمغادرة وأكمل :

” لقد ألقينا القبض على الفاعل لذا عد لمسكنك “

لم أفهم، كيف ولماذا وأين ومتى؟

خرجت من المشفى وقد حل الليل بالفعل، لم أهتم بأمر عملي حينها فكل همي كان معرفة ما آلت إليه الأمور، ففتحت هاتفي بينما أهيم بالعودة لمسكني لعلي أجد الجواب، دخلت على صفحة الجامعة وعثرت على ضالتي.

لقد تم القبض على ممثل الفصل أيمن، فقد رصدته كاميرات المراقبة وهو يتكلم مع العجوز، كما شهد طبيب القلب جعفر والذي سبق وأخذ العجوز مني وحذرني، بأن ممثل الفصل هو من سبق له وفعل امراً مشابها.

ولكن لمَ؟ لماذا يفعل هذا الطبيب شيئاً كهذا، دعوني أعترف بصراحة، شعرت براحة وسعادة لا مثيل لها حين قرأت الصفحة، لقد نجوت بأعجوبة، وأيمن من وجهة نظري يستحق هذا، ولكن سرعان ما عاد القلق يأكل جوفي خوفاً من ذلك الطبيب، ما الذي ينوي فعله بالضبط؟

عدت لغرفتي وبالكاد استطعت النوم، مر أسبوع على هذه الحادثة، لم أستطع حتى أن انام الأربع ساعات المعتادة، وفي بداية الأسبوع الثاني عاد نظامنا لطبيعته. صار بامكاننا أن نكمل تدريبنا في المشفى ولكن بوضع أكثر صرامة، كنت مرتبكاً وأطالع باستمرار من حولي بخوف، لعلي أبصر الطبيب جعفر بأي لحظة، وأثناء استراحة الغداء حدث ما أخشاه، صادفت جعفر بينما كنت أسير بأحد الممرات، كان يسير بمفرده وما إن صادفني حتى طالعني بنظرات مريبة ورسم على فمه ابتسامة شيطانية ثم تكلم:

” كيف حالك يا يمان؟، أرجو ألا تقتل أحداً مرة أخرى”

ثم انصرف وكأن شيئاً لم يحدث، بينما أنا أقف وكأنني على حافة الهاوية وقلبي ينبض وكأنه سقط من مرتفع شاهق، ما الذي يريده؟

طوال الأسابيع التالية استمر الطبيب جعفر بإزعاجي بتلك النظرات وتهديدي بهذه العبارة، أصبحت أعيش بحالة من الرعب، تمنيت لو ألقت الشرطة القبض علي عوضاً عن هذه المعاناة.

وفي أحد الأيام وبينما كنت أعمل كعادتي بمقهى الإنترنت دخل علي جعفر وبرفقته صبي بعمر الحادية عشر تقريباً، شابه جعفر من ناحية العيون الواسعة والبشرة الشبه زهرية، وما إن أدرك وجودي حتى ابتسم بخبث واقترب مني وقال بينما يربت على رأس الصبي:

” كيف حالك يا يمان؟ جئت اليوم برفقة ابني ليلعب في صالتكم، يا لها من مصادفة! لم أنوقع أن ألقاك هنا، ولأنها مصادفة جميلة سيلعب ابني على حسابك، ونحن سندردش معاً بينما تحضر لي كوباً من القهوة “

أولا يقولون أن الغضب جند من جنود إبليس، إنهم محقون. في تلك اللحظة بالذات ما عدت أحتمل فقد بلغ السيل الزبى. صحيح أنني لم أستطع أن أنطق بحرف من خوفي منه إلا أنني ما عدت أتمالك أعصابي.

جلس جعفر على أحد طاولات الانتظار بينما ذهب ابنه ليختار أحد الكمبيوترات ليعلب وهو يضع تلك السماعات الضخمة، وبينما كنت أعد كوب القهوة ذاك فكرت بألف طريقة لأتخلص منه.

تنهدت بغضب وتوجهت نحو جعفر لأقدم له كوب القهوة، كانت صالة الإنترنت فارغة حينها ولا يوجد بها أحد غيرنا، فالجميع يحب صالة حسام المقابلة لصالتنا لانها الأحدث، ونحن لا يزورنا أحد إلا إن امتلأت صالته، أعطيت جعفر كوبه وسرعان ما استدرت لأتجاهل النظر إليه ولكنه تعمد أن يسعل بقوة ليثير انتباهي ثم قال بينما يمسك طرف الفنجان:

” اسمع.. في الحقيقة كانت لي عداوة مع والد ممثل قسمكم أيمن، لذا انتقمت منه بولده عن طريق أن أشهد بأنه من سبق وأعطى العلاج للعجوز وليس حباً مني لك. لذا منذ اليوم أنت ستعتني بابني وتسمح له باللعب في المقهى ساعة ما يحب وتعيده للمنزل بنفسك ما أن ينتهي، تعبيراً عن شكرك لي، ولكن اسمع.. لا أريدك أن تقول لا أستطيع أو أنا مشغول، فهذا الكلام سيجعلك تتناول طعام الفطور في السجن فقط “

بدأت أسحب وأُخرج الهواء بعمق وغضب، فطوال الأسابيع الماضية تحول كامل خوفي منه لغضب وحقد، فحملت الكرسي المقابل لطاولته بكل سرعة وطرقته على رأسه الشبه أصلع، تحطم الكرسي الخشبي من قوة الضربة كما تحطمت جمجمته، فسقط أرضاً مغشياً عليه والدماء تناثرت بكل مكان.

كنت أرتجف ولكن ليس من قلق أو رعب، لا بل من شدة الحقد الذي سبق وملأ جوفي. فرحت أطالعه وأنا سعيد.. لا أعرف السبب، ولكن تلاشت كل مشاعري السلبية نحوه وفرغت، وفاض قلبي من السعادة بينما أطالعه وهو بتلك الوضعية.

فجأة أدركت ما فعلت فهرعت لأتفقد نبضه، لا يوجد نبض! لقد مات تبا! تركت كل شيء في موقعه وعدت لغرفة الاستراحة وأنا مذعور، حملت كامل لشيائي وقبل أن أخطو خارج باب الصالة أدركت أنني لا أستطيع تركه هكذا، سيعرف رجال الشرطة أنني الفاعل بسهولة .

تمالكت نفسي وركضت لأغلق باب المقهى وأنا أرتعش، وبينما كنت أطالع جثة جعفر فكرت، لا بد من أن أتخلص منها بأسرع وقت ففتحت حقيبتي الطبية وأخرجت قفازات مطاطية ورحت أسحب جثته حتى غرفة الاستراحة، ثم ذهبت لأنظف المكان وبينما كنت أمسح الأرضية حدث ما كنت أخشاه، لقد رآني الصبي الذي نسيت أمره، ولكنه لم يسأل سوى سؤال واحد وبريء:

” أين أبي يا عم ؟”

نظرت لتلك العيون البريئة والتَوَجُّس والعرق يتقطر مني , وإذ بالصبي يدرك أن الدلو الذي أمسح به الأرضية قد أصبح أحمر بالكامل، نظر إلي بخوف وقبل أن يصرخ ضربته بالماسحة، ولكنه لم يغب عن الوعي فضربته مرة أخرى وأخرى وأخرى وأخرى …

ما الذي أفعله؟ ولماذا؟ لم أفكر بالأمر من خوفي واخْتَلَاجَي وهول ما فعلت.

وضعت جثة جعفر والصبي بعدة طبقات من أكياس القمامة، أعتقد أنها كانت ستة أو سبعة طبقات، نظفت الممر ومسحت كامل بصماتهم غسلت الفنجان الذي احتسى منه جعفر قهوته، ومسحت سجل كاميرات المراقبة ووضعت ونسخت سجل يوم آخر كان خالٍ من القادمين وألصقته مع السجل الذي حذفته حتى بدا يوماً عادياً.

خرجت من خلف مبنى الصالة وقدمت شاحنة الصالة الصغيرة والتي نستعملها لنقل الآلات التي تتعطل للتصليح، وضعت الجثتين بها وحرصت على ألا يراني أحد او أن ترصدني أي كاميرا.

قدت الشاحنة من طرق شبه خالية حتى وصلت لغابة المدينة، والتي كانت تبعد عنا قرابة النصف ساعة ورميت الجثتين هناك وعدت أدراجي وأغلقت صالة الإنترنت بوقتها في منتصف الليل.

حاولت قدر الإمكان أن أتماسك وألا أبين للقادمين مدى توجسي. انتهى اليوم وعدت لغرفتي ، صحيح بأنني كنت نادماً نوعا ما لما فعلته للطفل ولكن ما إن وضعت رأسي على وسادتي حتى شعرت بفرح لا يوصف وأنا أتخيل شكل جعفر المليء بالدماء، هذا ممتع، ولأول مرة في حياتي نمت قرير العينين.

مرت الأيام وتم الإعلان عن اختفاء الطبيب وطفله، استمر المحققون بالعمل بكل جهد ولكن من دون جدوى، حتى إنهم زاروا الصالة التي أعمل بها. كنت خائفاً ولم أستطع أن أخفي توتري، لذا أثرت الشكوك وطلبوا مني فتح كاميرات المراقبة ولكن لم يجدوا شيئاً، وما إن غادروا حتى شعرت بنصر لم أشعر به من قبل، هل هم أغبياء لهذه الدرجة؟

توالت الأيام ولم يعثروا على القاتل، بينما أنا أرقد بفراشي مُنْبَسِط الأَسارير وأستمع للموسيقى الكلاسيكية وأتخيل شكل جعفر الميت. خطرت فكرة في بالي حينها، لمَ لا أتخلص من كل من يزعجني مثل فرح؟ ما إن فكرت بها حتى راودتني آلاف الافكار في كيفية التخلص منها ولكن الأخيرة، لقد أحببتها بحق .

في صباح اليوم التالي اشتريت شعراً مستعاراً من مكان بعيد عن موقعي، وحرصت أن يكون بلون ذهبي وطويل ويخص النساء. وتوجهت لمنطقة غيرها واشتريت صبغة شعر بلون أبيض. قمت بطلاء الشعر وصنعت منه لحية وشوارب وشعرا مستعارا وارتديت قبعة واشتريت طقم ثياب لرجل كهل من سوق الثياب المستعملة لأبدو بهيئة رجل كبير بالسن، وكتبت رسالة وأعطيتها بيد أحد صديقات فرح كأنني والد المرسل، فقط كي أضلل الشرطة في حال حققوا بأمر المرسل.

أرسلت رسالة لها بعنوان اعتراف من معجب، قرأت فرح الرسالة والتي كانت زبدة محتواها “أنا أراقبك من سنوات وأرغب بأن التقيكِ، تعالي عند حديقة الزهور المرصعة”

كانت تلك الحديقة تبعد عن جامعتنا قرابة الربع ساعة في السيارة. لم أكن أتوقع هذا ولكنها حضرت، كنت قد اشتريت طقم ثياب أنيقة للغاية من ذات السوق وصنعت لنفسي قناعاً يشبه قناع أحد أبطال الأنمي والتقيت بها وما إن رأتني حتى صدمت فقلت لها:

” أعرف بأنكِ تحبين مشاهدة الأنمي لذا لرجوكِ دعيني أكن بطلك هذه المرة وأعطني فرصةً اليوم، ولنخرج في موعد وفي نهايته إن لم تقبلي مشاعري سأتفهم وإذا قبلتِها سأخلع القناع “

كيف صدقت؟ لا أدري؟ إنها أغبى من اللازم، ظللت باقي اليوم أغريها بكلامي المعسول وبتصرفات سبق وعرفتها من متابعة بعض المشاهد من الأنميات الرومانسية. لقد وقعت بالفخ، واستدرجتها لمكان معزول لا أحد به وبينما أجهز السكين التي وضعتها بخاصرتي تحت الثياب تقدمت فرح نحوي قالت:

” أنا موافقة، لقد أحببت هذا اليوم بسببك، نحن أحباء منذ الز….”

وقبل أن تنطق بحرف آخر طعنتها بقلبها وأنا أطالعها بنظرات سعيدة، بينما هي تودعني بنظرات خائفة مفزوعة مرعوبة، يا لها من مشاعر جميلة التي تظهرها نحوي، سقطت أرضاً وراحت تنزف وهي تحارب لالتقاط آخر أنفاسها بينما أراقبها لأتلذذ بهذه اللحظة، خلعت ثيابي الملطخة ووضعتها بكيس بلاستيكي وارتديت غيرها خلف الشجيرات، حيث سبق وأعددت حقيبة بها ما أحتاج، الثياب التي تنكرت بها بشكل عجوز والشوارب المستعارة، ثم ارتديت فوق الثياب الجديدة عباءة نسائية ووضعت سلاح الجريمة والقناع وثيابي المدماة بداخل تلك الحقيبة السوداء والتي اشتريتها من سوق للأغراض المستعملة بدورها.

تركت جثة فرح هكذا، وغادرت الحديقة وتوجهت لأحد الأحياء الفقيرة وأحرقت الحقيبة والعباءة، طبعاً من غير أن يبصرني أي أحد.

لما تركت الجثة؟ بصراحة لا أدري، بدا من الممتع تخيل شكل رجال الشرطة حين يكتشفون مكان الجريمة هذه المرة. لقد حرصت على ألا أعود لموقع الجريمة مهما حدث حتى مع ذلك التوتر الذي أصابني خشية تركي لأي دليل، وهذا ما حدث بالفعل.

لم يمض سوى يوم واحد ليكتشفوا مكان جثتها، ثم استمر التحقيق لأسابيع ولكن من دون جدوى، لم يجدوا أي طرف خيط يوصلهم إلي.

مر على الحادثة شهر ونصف، كُنتُ أسعد أنسان على وجه الأرض، ولكن أتعرفون؟ هذه السعادة هي ما كنت أخشاه، أنا لم أعتد عليها من قبل، لذا كانت تُرهب مكنوني. تغيرت طباعي وأصبحت شخصاً أكثر تفاعلا مع المجتمع، كما كونت تلك الصداقات التي كنت أتخيلها دائما فقط كي أنسى الماضي، ولكن لطالما كان هناك شعور يخالجني، لماذا قتلتهم ؟ لماذا لم أغير من نفسي منذ البداية فقط ؟ وفي يوم التخرج حين وقفنا لنعلن قسمنا كنت أشعر بشعور غريب تعرفت عليه لأول مرة حينها، كان ذلك النشيد الذي يتردد في أرجاء القاعة يخنقني:

” أنا طبيب، وأنا أتعهد بأن لا أؤذي المريض، أنا طبيب ومن واجبي إنقاذ حياة الناس، أنا طبيب سأكرس حياتي لخدمة البشرية “

هذا الصوت مخيف، هذا ليس ندماً مني وليس صوت تأنيب الضمير، لا.. إنه صوت الحق، صوت خشيت سماعه لدرجة أنني أقف أمامك يا حضرة المحقق وأخبرك بكامل جريمتي.

《 النهاية 》

Krawre

العراق - للمزيد من القصص حسابي على الواتباد Krawre-sama
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى