قتلة و مجرمون

جرائم المستنقع : إلى أي حد يمكن للإنسان أن يكون شريرا؟

ايان برادي ومايرا هندلي .. وحشان تجردا من اي عاطفة

في بواكير مراهقتي طلبوا مني ان أذبح دجاجة… دجاجتنا المسكينة المحتضرة التي أمطرتنا بيضا لسنوات فكافأناها بجز عنقها بالسكين قبل أن يسبقنا الموت إليها. أذكر جيدا تلك الواقعة ، كونها أول مرة أقتل فيها شيئا حيا – بحجم دجاجة – ولأني كنت خائفا رغم ادعائي الشجاعة وتبجحي بيسر المهمة.

قبضت على الدجاجة وأخذتها متوجها إلى حديقتنا الصغيرة ، طويت جناحيها تحت قدمي وقبضت بقوة على رأسها ، أربكني صراخها ، وكأنها تعلم ما ينتظرها! ، لكن لم يكن ثمة مجال للتراجع لئلا أوصم بالجبن .. سميت بالله وذبحت ، ثم وقفت مزهوا أحدق إلى ضحيتي تنزف وتتلوى حتى خمدت وخمد معها كل خوف لدي من القتل ، وكان لي بعدها ضحايا كثر! .. من الدجاج طبعا.

يومها تساءلت مع نفسي عن مدى اختلاف الأمر بالنسبة لقتل البشر ، وأنا هنا لا اتكلم عن القتل العرضي أو الانفعالي المرتبط بظرف آني ، بل عن القتل العمد مع سبق الأصرار والترصد ..

بصراحة لا أظنه يختلف كثيرا عن ذبح الدجاج! ، تكون خائفا ومرتبكا في المرة الأولى ، ثم تعتاد ، كل ما يطلبه الأمر أن تكون مجنونا بعض الشيء ، أو أن تلبسك فكرة مجنونة. وبالنسبة لضميرك فلا تقلق ، سيعتاد هو الآخر ، كما تعتاد العاهرة التمرغ في الأحضان القذرة ، ويعتاد الخائن أن يبيع وطنه بنوى تمرة .. الشيء الوحيد الذي ستفقده مع كل عملية قتل ، هو جزء من إنسانيتك ، حتى تتحول بالنهاية إلى مجرد مسخ بشري .. وحش كاسر في رداء إنسان.

وبطلي قصتنا لا يخرجان عن نطاق الوحوش البشرية ، رجل وامرأة ، جمعهما العشق والغرام ، لكن بدلا من أن يسمو بروحيهما إلى سماء المحبة وفضاء الرحمة ، إذ به يتحول غمامة سوداء مزمجره تمطر الوجود شرورا ونقمة.

لكن قبل أن نبحر في لجاج قصتهما العاصفة ، ونطارد أشباح الماضي في ثنايا حياتهما البائسة ، دعوني أحدثكم أولا عن “دجاجتهم” الأولى! ..

حلم الجريمة “الكاملة”

blank
بولين ريد .. أول ضحية في سلسلة جرائم مستنقع سادل ورث

أظن السؤال الملح في مسألة القتل المتسلسل هو ليس كيف نقتل ، وإنما من نقتل؟ ..  نحن بحاجة إلى ضحية قبل كل شيء ، و وسيلة للإيقاع بتلك الضحية واستدراجها. والقتلة المتسلسلون رغم أنهم غالبا مضطربون عقليا ، إلا أنهم عباقرة عندما يتعلق الأمر بالتخطيط لجرائمهم .. وبناء على ذلك ، فعندما قرر ايان برادي تنفيذ جريمته الأولى كان قد خطط مسبقا لكل شيء بدهاء ودقة متناهية.

كان الرجل مهووسا بفكرة “الجريمة الكاملة” ، جريمة مثالية يفلت مرتكبها من العقاب ، وقد عكف لأشهر طويلة على تهيئة جميع مستلزماتها ، وبذل جهدا خاصا في تهيئة عشيقته ، مايرا هندلي ، عقلانيا ووجدانيا ، لتقبل أفكاره المنحرفة، ولتكون بمثابة الطعم الذي سيستخدمه لاصطياد ضحاياه.

يوم 12 تموز / يوليو 1963 كان حاسما ، إذ قرر ايان بأن الوقت قد أزف لتنفيذ أولى جرائمه “المثالية”. كانت خطته بسيطة ، تستقل مايرا شاحنتها الصغيرة وتدور بها في شوارع ضاحية غورتون في مدينة مانشستر الإنجليزية فيما يتبعها هو على مسافة بدراجته النارية ، ومتى ما رأى ضحية مناسبة يومض مصباح دراجته كإشارة لـ مايرا كي توقف الشاحنة بجوار الضحية المستهدفة وتحاول استدراجها للصعود.

كان الوقت مساءا عندما انطلق الثنائي المجنون يدوران في طرقات تلك الضاحية الفقيرة ، موئل العمال والكادحين ، حيث تصطف على جنبتي الطريق بيوت كئيبة مبنية بالطوب الأحمر تفتقد لأي جمالية معمارية. ولم يمض وقت طويل حتى لمح أيان فتاة صغيرة تسير على الرصيف بمفردها ، فأومض مصباح دراجته ، لكن مايرا استمرت بالقيادة ، فأسرع إليها غاضبا يسألها سبب عدم توقفها ، فقالت بأنها تعرف الفتاة ، وأنها جارة لأمها.

فشل المحاولة الأولى لم يثني عزيمتهما ، فانطلقا يبحثان عن صيد آخر. وخلال مرورهما بشارع فروميكس لمح ايان فتاة تسير بمفردها ، فأومض مصباح دراجته مجددا ، وهذه المرة امتثلت مايرا لأشارته وركنت السيارة إلى جوار الفتاة ، والتي لم تكن سوى بولين ريد – 16 عاما – من صديقات شقيقة مايرا الصغرى مورين.

كانت الفتاة عائدة للمنزل من نادي محلي للرقص. وعندما عرضت مايرا إيصالها وافقت على الفور وصعدت دون تردد ، فهي تعرف مايرا جيدا.

ولم تكد الشاحنة تنطلق حتى تصنعت مايرا الحزن وتحدثت بحسرة عن قفاز ثمين أضاعته صباحا عندما كانت تتنزه في مستنقع سادل ورث، ثم سألت بولين إن كان بمقدورها مساعدتها في البحث عن ذلك القفاز ، فأومأت الفتاة موافقة وقالت بأنها ليست على عجلة من امرها.

مستنقع سادل ورث يقع عند اطراف مدينة مانشستر ، ذو تضاريس كئيبة ، تلال ومنحدرات صخرية ، وبرك وسواقي متناثرة هنا وهناك .. كان مكانا مفضلا لدى ايان ومايرا للتنزه وممارسة هوايتهما في التصوير الفوتوغرافي ، ولا عجب في انجذابهما إليه ، فهو يماثلهما بالطبيعة .. منعزل .. وبارد .. وقاسي ..

وما كادت الشاحنة تستقر فوق أديم ذلك المستنقع حتى ظهر ايان فجأة على دراجته النارية ، فقدمته مايرا على أنه حبيبها ، وقالت أنه أتى للمساعدة في البحث عن القفاز المزعوم.

ماذا جرى بعد ذلك؟ .. هنا تختلف الرواية ..

بحسب رواية مايرا فقد ذهبت بولين برفقة ايان للبحث عن القفاز فيما بقيت هي تنتظر في الشاحنة ، وبعد حوالي نصف ساعة عاد ايان لوحده يتصبب عرقا وطلب منها أن ترافقه بعد أن أخذ مجرفة من الشاحنة ، فمشيا لبعض الوقت حتى وصلا إلى بقعة مفتوحة مكسوة بالحشائش البرية ، هناك كانت بولين تتمدد جثة بلا حراك ، مذبوحة بالسكين ، وكان واضحا من وضعية ملابسها بأنها تعرضت للاغتصاب.

قام ايان بحفر قبر للفتاة ، وبعد أن دفناها عادا للشاحنة فوضعا دراجة ايان في المؤخرة وانطلقا راجعين للمدينة.

راوية ايان لما جرى في المستنقع ، تبدو مختلفة تماما ، فهو يزعم أن مايرا كانت حاضرة في مسرح الجريمة وساعدته في تثبيت الفتاة ونزع ملابسها واغتصابها وكانت مستمتعة جدا بالأمر رغم توسلات بولين المتكررة لها ، ليس هذا فحسب ، بل أنها هي من دفعته لقتل بولين لأنه تردد بعد أن عرف كون الفتاة صديقة لأختها ، وغضب بشدة لهذا الأمر حتى أنه صفع مايرا بشدة ، إذ كانت أهم شروط جريمته الكاملة أن لا يكون هناك أي صلة بينهما وبين الضحية.

في هذه الاثناء قامت بولين وبدأت بارتداء ملابسها وهي تبكي وتتوسل : “أرجوكما لا تؤذياني” .. وعندما استشعرت مايرا تردد ايان وبأنه قد يترك الفتاة تمضي لحال سبيلها قامت هي بمهاجمتها وطعنتها بسكين صغير ثم انهالت عليها ضربا حتى تفجر الدم من وجهها وسقطت أرضا تتلوى .. هنا لم يجد ايان بدا من إنهاء الأمر فأخرج سكينا وذبحها.

وفي الحقيقة تبدو رواية ايان أقرب للمنطق ، إذ ليس من المعقول ان تمضي بولين مع ايان لوحدهما في المستنقع فيما تبقى مايرا جالسة في الشاحنة وهي صاحبة القفاز الضائع المزعوم.

الجريمة الأولى سرعان ما تبعتها جرائم أخرى .. لكن قبل أن نمضي في سرد قصتنا دعونا نلقي نظرة سريعة على خلفية بطليها.

من هو ايان برادي؟

blank
ايان برادي

أبصر النور في ضاحية فقيرة بمدينة غلاسكو الاسكتلندية عام 1938 ، أمه تدعى مارغريت “بيغي” ، كانت تعمل نادلة في مقهى. وزعمت بأن والد ايان كان صحفيا مات قبل ولادته بثلاثة أشهر ، لكن لا يوجد ما يؤكد ذلك ، ولم يعرف ايان يوما من هو والده الحقيقي.

ظروف مارغريت المادية الصعبة ، ونظرة المجتمع الدونية – آنذاك – للأمهات العازبات ، اضطرتها لإيداع طفلها في رعاية أسرة أخرى ، ففي الغرب ، “أرض الضلال والانحلال” ، يوجد من الرحمة والرأفة والتعاضد ما يدفع بأسر عديدة للتبرع برعاية وتربية الأيتام واللقطاء والفقراء ، وكانت أسرة الزوجين “ماري وجون سلون” هي واحدة من تلك الأسر الرحيمة التي احتضنت ايان وربته كأحد أبنائها رغم أنها أسرة متوسطة الحال ولديها أصلا أربعة أطفال من صلبها ، وهكذا حمل أيان لقب أسرته الجديدة ، لكن أمه بيغي لم تتخلى عنه تماما ، بل استمرت في زيارته من حين لآخر ، غير أنه لم يعرف بأنها أمه إلا عندما بلغ سن 12 عاما.

منذ نعومة أظفاره كان ايان طفلا غريب الاطوار ، يحب الوحدة والانعزال ، ورغم أن عائلة سلون أولته – باعترافه هو – العناية الكاملة كأحد أبنائها تماما ، إلا أنه خيب آمالهم سريعا وأثبت بأنه طفل غير سوي وصعب المراس. كان ذو مزاج ناري ، تنتابه نوبات من الغضب لأتفه الأسباب ، فيبدأ بالصراخ خابطا رأسه بالجدار.

ورغم كونه ذكي ، إلا أنه كان خاملا في المدرسة ، لم يحبه زملائه ولا مدرسوه. كان يرفض بشدة الخضوع للقواعد والقوانين ، وظهرت عليه مبكرا ميول عدوانية ، كان ينتشي لعذابات الآخرين. يتذكر الجيران بعض ممارساته السادية حينما كان يستمتع بحرق القطط أو رميها من المرتفعات ، ويرجم الكلاب بالحجارة ، ويقطع رؤوس الطيور والأرانب.

في سن 13 تم توقيفه بتهمتي سطو وسرقة ، وكانت تلك مقدمة لسجل حافل بالإجرام. وأطلق أهل الحي عليه لقب “دراكولا” لولعه بمشاهدة أفلام الرعب.

ايان ترك المدرسة نهائيا في سن 15 ، لينتقل بين عدة مهن ، مرة نادل في مقهى ، وأخرى صبي جزار .. أما على مستوى علاقاته العاطفية فقد كانت له صديقة، لكنها تركته بعدما رفع سكينا في وجهها وهددها بالذبح لأنها خرجت مرة للرقص مع فتى آخر.

في سن 16 وقف ايان امام المحكمة متهما بتسع جرائم ، ما بين سرقة وسطو وشجار .. وقد أعطاه القاضي خياران ، أما أن يرسله لسجن الإصلاحية ، أو أن يحاول تصحيح وتقويم سلوكه ، فأختار ايان الثاني ، ووافق القاضي على اطلاق سراحه شرط أن يكون تحت رعاية ورقابة أمه الحقيقية مارغريت .. وهكذا ذهب ايان ليعيش مع أمه التي لم يكن قد رآها لسنوات لأنها كانت قد تزوجت من بقال يدعى باتريك برادي وانتقلت معه الى مدينة مانشستر.

هناك في مانشستر اتخذ ايان لقب زوج أمه فأصبح يعرف باسم ايان برادي ، وللأسف لم يتغير سلوكه كثيرا ، دخل السجن عدة مرات بتهم شتى. لكن ثمة شيء طرأ على تفكيره بعد خروجه من السجن آخر مرة ، ففاجأ والديه بدخول عدة دورات تعليمية ومهنية والتزامه بالدراسة ، ونجح في الحصول على وظيفة في مصنع كيمياويات.

مايرا هندلي

blank
مايرا هندلي

شخصية المرء تتشكل في طفولته حين يكون طريا كالصلصال ، أبسط الأمور تنطبع وتترك أثرا قد يلازمه طيلة حياته. صحيح أن البشر بارعون في إخفاء جروح وشروخ الماضي ، لكن هذا لا يعني مطلقا أنها تختفي تماما ، أو إنها لا تؤلم وتنزف من حين لآخر .. ولو قيظ للعلم يوما صناعة مرآة عاكسة للروح ، ربما لصدمنا من شدة تشوه بعض الناس الذين يبدون طبيعيين جدا من الخارج. وأحد هؤلاء المشوهين فتاة تدعى مايرا هندلي ، ولدت في ضاحية فقيرة في مانشستر عام 1942 ، لم يكن والدها موجودا ساعة مولدها ولم تره مطلقا خلال الثلاث اعوام الاولى من حياتها ، كان بوب هندلي يخدم في فوج المظليين البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ، وكان معروفا بين زملائه بأنه رجل قوي العزيمة وصعب المراس.

عندما انتهت الحرب عاد الأب ، وليته لم يعد ، فقد واجه صعوبة بالاندماج مجددا مع الحياة المدنية ، وعمل في مهن مؤقتة لا تدر مالا كثيرا ، وصار سكيرا عنيفا. وأصبحت الشجارات روتينا يوميا في حياة العائلة الصغيرة ، ولم يتوانى عن ضرب زوجته وأبنته بقسوة.

كانت العائلة فقيرة لدرجة أنه عندما ولدت طفلتهما الثانية مورين اضطر الزوجان الى ارسال ابنتهم الكبرى مايرا لتعيش مع جدتها.

الأب لم يمارس العنف على أبنته فقط بل علمها أيضا كيف تكون عنيفة وكافئها على ذلك. كان يريد لأبنته ان تكون قوية مثله.

ذات يوم ، حين كانت مايرا في الثامنة ، عادت الى المنزل تبكي ، فسألها والدها عن السبب ، اخبرته أن صبيا تعرض لها وضربها ، فنزع الأب حزامه ولوح به مهددا بأنه سيمزق ظهرها إذا لم تعد الى الشارع حالا وتشبع ذلك الصبي ضربا. خافت مايرا وعادت وعثرت على الصبي ووجهت له عدة ضربات اسقطته ارضا وهو ينزف. ومنذ ذلك اليوم لم يعد احد يجرؤ على التعرض لمايرا او شقيقتها الصغرى مورين.

كان ذلك الحادث كما وصفته مايرا : “أول انتصار في حياتي” ، لكن في حسابات الحياة قد يكون الانتصار خسارة ..

بعض الناس يمتدح أبنه اذا سرق ، بعضهم يضحك في وجهه اذا شتم ببذاءة ، وهناك من يفتخر إذا مارس أبنه العنف والتنمر والسلوك الشائن ..

أذكر في شبابي ، في احد المصايف ، شاهدت رجلا يجلس إلى طاولة مع أبنه الطفل الذي قد لا يتجاوز السادسة يسقيه الجعة ويضع في يده سيجارة ويشعلها له بنفسه ، والطفل مستمتع بذلك كأنه متعود عليه ، وكلما فرغ كأسه صب له الأب مجددا وهو يصيح مفتخرا : أشرب كي تكون رجلا! ..

وفي حادثة اخرى لا تقل جنونا ، ربط احدهم ابنه الطفل ذو الثلاث سنوات إلى زجاج سيارته الأمامي وراح يقودها بسرعة في الشارع ذهابا وايابا ، وحين سأله الناس مندهشون عن السبب قال أنه يريد لأبنه أن يشب شجاعا ميت القلب! ..

أقسم أن هذه نماذج رأيتها بأم عيني ..

المشكلة أنك حينما تزرع هكذا أمور في طفلك فماذا تتوقع منه أن يصبح حينما يكبر. دعونا نأخذ مايرا مثالا ، لم تكن تسمع من أبيها مديحا إلا عندما تكون عنيفة ومتنمرة ، حتى أصبح نيل رضا ومحبة الرجال مرتبطا في لاوعيها بالعنف. وفي المستقبل ، لن تتورع هذه الفتاة في ان تقتل بدم بارد من أجل ارضاء الرجل الذي تحب.

أما بالنسبة لوالد مايرا ، وغيره من الاباء “المعتوهين” ، فلن يمضي زمن طويل حتى ينقلب السحر على الساحر ، فبعد عدة اعوام أصيب بسكتة جعلته مشلولا جزئيا ، وأصبحت أبنته مايرا تضربه وتشتمه من حين لآخر على أبسط الأمور.

ثق عزيزي القارئ ، أن هؤلاء الاباء والامهات الذين يتعرضوا للشتم والضرب والعقوق من ابنائهم ، معظمهم وليس كلهم ، اساؤوا تربية ابنائهم في المقام الأول وحصدوا بالنهاية ما بذروا وزرعوا.

حادثة اخرى تركت اثرا في تكوين مايرا النفسي هي موت اعز اصدقائها غرقا ، كانت حينها في الثالثة عشر وانهارت تماما خلال جنازته. هذه الحادثة جعلتها تميل للتدين وأصبحت ترتاد الكنيسة ، وحاولت ان تعدل من شخصيتها ، لأن الشبان لم يكونوا يرونها جذابة ، بعضهم كان يراها مسترجلة ، لذلك غيرت طريقة لبسها وهندامها ، وصارت مولعة بقراءة القصص والروايات ، وصار البعض يراها ظريفة ..

لكن رغم تغير الشكل الظاهري إلا ان شيئا ما داخل الفتاة لم يكن طبيعيا ، بحسب اصدقائها كانت مايرا تعشق مشاهدة المناظر البشعة التي ينفر الناس منها ، فمثلا إذا سمعت ان شخصا داسه قطار وقطع أوصاله كانت تهرع لمشاهدة المنظر ، واذا احترق احدهم أو غرق كانت أول الواصلين لمعاينة الجثة ..

الشيء الآخر الذي تميزت به في شبابها هو عدم قدرتها على التعاطف مع الآخرين. لكنها كانت ممثلة بارعة في تزييف عواطفها.

مايرا مارست عدة وظائف مؤقتة قبل أن تجد عملا عام 1961 كموظفة على الآلة الطابعة في معمل للكيمياويات ، وهناك التقت أول مرة بـ ايان برادي ، الموظف في نفس المصنع.

لقاء الأشرار

blank

يقال أن شبيه الشيء منجذب إليه ، وأن النفوس المتشابهة الطباع تنجذب الى بعضها كالمغناطيس ، وهكذا فأن التقارب بين بطلي قصتنا كان أمرا متوقعا ، وقد وصف ايان الامر كالآتي : “الأمر كان أشبه بانطلاق شرارة بين مخلوقي فرانكشتاين!”.

لكن تلك الشرارة لم تشتعل فورا ، مايرا أعجبت بـ إيان وسحرتها شخصيته الغامضة والمتعالية ، وقد ذكرت ذلك في مذكراتها رغم انها كانت تواعد أشخاصا آخرين حينها ، لكن هذا الانبهار لم يلاقي تجاوبا سريعا من أيان الذي بدا وكأنه غير مكترث لها. ولعل طبعه الخجول والانطوائي هو الذي منعه من التحدث إليها ، في الحقيقة هو لم يكلمها إلا بعد سبعة أشهر من العمل معا ، وتطلب الأمر سنة كاملة لكي يدعوها للخروج لمشاهدة فيلم في السينما.

مواعيدهما اللاحقة كانت تقريبا بنسق واحد ، الذهاب الى السينما ، غالبا لمشاهدة أفلام البالغين التي تحتوي على مشاهد دموية واباحية ، ثم العودة إلى منزل جدة مايرا لشرب الخمر ومطارحة الغرام .. والقراءة أيضا ..

كان أيان قارئا نهما ، يقرأ لـ نيتشه وسارتر وغيرهم من الفلاسفة ، وهو ما زرع في نفسه فكرة عبثية وعدمية الحياة. ويقرأ القصص والروايات ، ومعجب على وجه الخصوص بمسرحية شكسبير “ريتشارد الثالث” ، ورواية “الجريمة والعقاب” لـ دوستويفسكي التي قال أنها تركت الأثر الأكبر في نفسه. ويقرأ أيضا لهتلر ، وعن النازية والفاشية ، وكتب ومجلات الجريمة لاسيما تلك المقرونة بالتعذيب والسادية ، لا عجب أن يكون أحد كتابه المفضلين هو الماركيز دي ساد .. الرجل الذي اشتقت السادية اسمها منه.

ولم يكن ايان يقرأ مثل معظم الناس الذين غالبا ما تكون قراءتهم سطحية ومتعجلة ، فترى أحدهم يقرأ كتابا من دون أن يستخلص منه درسا أو فكرة وما أسرع أن ينسى مضمونه ، بل كان ايان يتأمل ويفكر ويكتب ملاحظاته على هوامش الصفحة ويرسم خطوطا تحت العبارات التي تنال أعجابه ، وهكذا ينطبع ما قرأه في عقله .. وهنا قد يقول قائل متهكما : “أنظر إلى أين أوصلته قراءاته المتعمقة!”. فأقول أن العيب ليس في قراءاته بل في استنباطاته وطريقة تفكيره وطبيعة شخصيته. الأمر أشبه بأن تقود سيارة بتهور وتسبب حادثة ، فالعيب فيك وليس في السيارة لأن هناك غيرك يقودها على أتم وأحسن وجه.

عالم ايان الغريب والمليء بالأفكار العدمية والاستنباطات الشاذة سرعان ما جذب مايرا إليه ، فصار الاثنان يمضيان وقتا طويلا في القراءة معا، كانا يقرئان لبعضهما بصوت عال ويناقشان ما يقرئانه ، بالنسبة لمايرا كان الأمر أشبه بعملية غسل دماغ وإعادة برمجة! .. وقد وصفته كالتالي :

“في غضون اشهر جعلني ملحدة واقنعني بعدم وجود إله على الاطلاق ، كان بأماكنه ان يخبرني بأن الأرض مسطحة ، وأن القمر مصنوع من الجبن ، والشمس تشرق من الغرب ، وكنت سأصدقه! .. هكذا كانت قوته في الاقناع”.

وقد لاحظ الجميع التغيرات التي طرأت على شخصية مايرا ، أصبحت لامبالية وفوضوية ، صبغت شعرها باللون الأشقر ، ربما تأثرا بنظرية تفوق العنصر الآري ، أصبحت تضع مكياج فاقع وترتدي أحذية طويلة وتنورات جلدية وكأنها حارسة في أحد سجون الاعتقال النازية!.

وحان وقت القتل

blank
صور الضحايا ..

كما ذكرنا آنفا فأن ايان كان مهووسا ومسكونا بفكرة الجريمة الكاملة ، متأثرا بشكل خاص برواية الكاتب الأمريكي ماير ليفن (إكراه) المستلهمة من قضية واقعية بطلاها طالبا جامعة امريكية اختطفا صبيا وقتلاه ليثبتا لأنفسهما فقط ان بإمكانهما اقتراف جريمة والافلات من العقاب .. أي الجريمة الكاملة أو المثالية. مع أنه في واقع الأمر ألقي القبض عليهما ونالا حكما بالإعدام.

بحلول صيف عام 1963 بدء هذا الشغف بالقتل يتحول إلى رغبة عارمة ، كان ايان حينها قد سيطر على عقل مايرا بالكامل فأصبحت تشاركه الحماس في تنفيذ الجريمة وتصر على أن تكون شريكا وليس مجرد مساعدة أو شاهدة. ومن أجل ذلك علمها ايان السياقة وتدبرا مبلغا لشراء شاحنة لكي تستعملها مايرا في استدراج الضحايا.

لقد خطط الاثنان للجريمة جيدا حتى أنهما كتبا ثلاثين صفحة وضعا فيها كل النقاط والشروط الواجب مراعاتها وتطبيقها بحذافيرها خلال تنفيذ جرائمهم لكي لا يتم القبض عليهما أبدا. أما في حالة حدوث أي خلل أو فشل في خطتهما الجهنمية فقد تعاهدا على أن لا يسلما نفسهما أبدا إلى الشرطة وأن يقاتلا حتى الموت .. أو كما قال برادلي : “لن نذهب إلى السجن أبدا”.

وذات ليلة بينما هما جلوس قرب موقد النار قال ايان : “هذه الحياة عبارة عن لعبة ، وأنه لمن الأفضل أن يعيش المرء نمرا للحظات على أن يمضي حياته كخروف!”.. ثم صمت هنيهة قبل أن يردف قائلا : “هل هناك شخص تتمنين موته بشدة؟” .. فأجابت بلهفة : “نعم! .. صديقي السابق روني سنكلير ، أرغب في موته بشدة ، لكني لا أريده أن يموت بسرعة ، أريده أن يتعذب ويتعرض للإذلال والاغتصاب كامرأة قبيل موته”.

وهكذا أصبح روني سنكلير الهدف رقم واحد في قائمة ايان لتنفيذ جريمته الكاملة ، وقام بمراقبته وتتبعه فعلا عدة مرات ، لكنه لم يقدم ابدا على قتله ، ليس بداعي الخوف أو التردد ، لكن لأن النقاط والشروط التي وضعها هو ومايرا لم تكن تنطبق على روني ، وأهم تلك الشروط أن لا يكون هناك أي رابط أو صلة سابقة أو حالية بينهما وبين الضحية ، أي أن اختيار الضحية يجب أن يكون عشوائيا.

للأسف كانت الضحية الأولى العشوائية هي سيئة الحظ بولين ريد ، الفتاة ذات الستة عشر ربيعا التي كانت عائدة من حفل راقص في 12 تموز / يوليو 1963 لينتهي بها الأمر جثة هامدة مذبوحة في مستنقع سادل ورث الكئيب. وقد أتينا على قصتها في بداية المقال.

في الحقيقة رغم نجاح الجريمة الأولى إلا أن ايان لم يكن راضيا ، وظن بأن مايرا أفسدت الأمر بالكامل ، فهي أولا لم تخبره بأنها تعرف الفتاة وأنها صديقة شقيقتها وهو ما يخالف اهم قانون وضعه لجريمته الكاملة. والامر الثاني أنها اعترفت له لاحقا انها سرقت عقد بولين مع أربع قطع نقدية سقطت من جيبها ، وهذا أيضا يخالف قوانينه في عدم أخذ أي شيء من مسرح الجريمة.

لكن نشوة الفرح بتنفيذ الجريمة سرعان ما طغت على غضب ايان ، وفي تلك الليلة جلس القاتلان امام الموقد في منزل جدة مايرا يحتسيان النبيذ وهما في قمة السعادة والانتشاء إلى درجة أن مايرا سألته بلهفة : “متى نصطاد فريستنا التالية؟” .. فأجابها بتعجب : “هل انت جائعة إلى هذا الحد!” .. فردت بحماس : “نعم” .. ففتح ايان خارطة مدينة مانشستر وردد قائلا : “في مكان ما هنا ينام شخص سيكون صيدنا التالي .. أيامه المتبقية في هذه الدنيا معدودة”.

ولم يكن هذا الشخص سوى جون كيلبرايد ، طفل في الثانية عشر من عمره ، من مدينة اشتون اندرلاين في مانشستر. كان يعمل صبيا في أحد الاكشاك بعد المدرسة من اجل كسب بضعة جنيهات ، استدرجه القاتلان يوم 23 تشرين الثاني / نوفمبر ، عرضت عليه مايرا توصيلة ثم طلبت منه مساعدتها في العثور على قفازها الضائع في مستنقع سادل ورث ، وأخبره ايان انه سيكافئه ببعض الحلوى نظير مساعدته ، فوافق الصبي ، وتكرر السيناريو ، تم الاعتداء على الصبي جنسيا أولا ثم قاموا بقتله بشكل مروع ، حاول ايان ذبحه أولا بسكين غير حادة وحينما فشل الأمر قام بخنقه بواسطة حبل ثم دفنوا جثته في الرمال.

بعد اختفاء جون جرت عملية بحث واسعة شارك فيها آلاف رجال الشرطة والمتطوعين ، لكنها لم تنتهي إلى شيء.

ورغم كونهما بعيدين عن أي شبهات ، بيد أن هذه الحملة الواسعة جعلت القاتلان أكثر حذرا فلم ينفذا جريمتهما التالية إلا بعد قرابة العام .. بالتحديد في 16 حزيران / يونيو عام 1964 ، وكان الضحية طفلا مسكينا اخر يدعى كيث بينت – 12 عاما – ، كان في طريقه إلى منزل جدته عندما استدرجه القاتلان إلى شاحنتهما واخذاه إلى المستنقع ليلاقي مصيره سلفه من الاعتداء والقتل.

في 15 آب / أغسطس 1964 تزوجت مورين شقيقة مايرا من شاب يدعى ديفيد سميث ، رغم اعتراض مايرا وعائلتها على هذا الزواج بسبب السجل الاجرامي الحافل للعريس ما بين سرقة وعنف.

بعد الزواج قام ايان بدعوة العروسين إلى نزهة في الريف ، وخلال تلك النزهة توطدت العلاقة ما بين ديفيد وايان ، يبدو أن طبعهما الاجرامي جعلهما يتقاربان بسرعة.

وفي وقت لاحق من ذلك العام تم نقل مايرا وجدتها وايان إلى منزل جديد كجزء من خطة حكومية لتتخلص من الضواحي الفقيرة.

الجريمة التالية حدثت في 26 كانون الأول / ديسمبر 1964 ، في يوم عيد الصناديق ، وهو عطلة رسمية في المملكة المتحدة ، فخلال تجوالهما بأحد مهرجانات التسوق ، وقعت عين القاتلان على طفلة في العاشرة من عمرها تدعى ليزلي آن داوني ، وقاما بخطفها واستدراجها إلى منزلهما الجديد.

كان القتل قد أصبح أمرا عاديا بالنسبة لـ ايان ومايرا، لا بل صار مملا ، أي أن يستدرجا الضحية إلى المستنقع ويقتلاه ، أرادا المزيد من المتعة ، والمزيد من اشباع رغباتهما السادية .. لذلك قررا هذه المرة أخذ الضحية للمنزل والاستمتاع بتعذيبها لأطول فترة ، ومن أجل ذلك قامت مايرا بنقل جدتها إلى منزل أحد الأقارب ومنعتها من الرجوع تلك الليلة.

وهكذا خلا لهما الجو في تعذيب الطفلة المسكينة ، قاما بتجريدها من ملابسها وأخذا العديد من الصور لها بوضعيات مختلفة مع الاعتداء عليها جنسيا وجسديا بشكل متكرر. لا بل قاما بتسجيل شريط صوتي لعملية تعذيب الطفلة وقتلها .. وقد تم عرض أجزاء من هذا الشريط البشع لاحقا اثناء محاكمتهما ، في جزء من الشريط نسمع صوت الطفلة الخائفة وهي تتوسل : “لا تنزعي عني ملابسي .. ارجوك” .. في جزء آخر نسمعها تصرخ وتتوسل باكية : “أريد أمي” .. أما الجزء الأبشع من الشريط فهو أنينها وحشرجة صوتها بينما يقوم أيان بذبحها.

في اليوم التالي قامت مايرا بنقل جثة الفتاة إلى المستنقع ، دفنتها في حفرة غير عميقة ، ووضعت ملابسها عند قدمها.

بعد يومين على الجريمة ، بعد احتفال رأس السنة الجديدة لعام 1965 ، اعادت مايرا جدتها إلى المنزل ، وفي نفس الفترة من ذلك العام انتقلت مورين وزوجها ديفيد إلى منزل قريب من منزل جدتها حيث تعيش مايرا ، وهكذا فأن العلاقة توطدت والزيارات تكررت ، وصار ديفيد مسحورا بشخصية أيان إلى درجة أنه اثار غيرة مايرا. وبدا أن ايان مستمتع هو الاخر بدفء هذه العلاقة فبدأ يعطي لديفيد بعض الكتب ليقرأها وبدأ الاثنان يتحدثان عن مشاريع مستقبلية تتضمن سرقة مصارف واقتراف الجرائم. كانت العلاقة بينهما قد توثقت إلى درجة أن ايان أراد اشراك ديفيد معه في جرائمه.

في مساء 6 تشرين الأول / أكتوبر عام 1965  أقلت مايرا بسيارتها أيان إلى محطة السكك الحديدية وانتظرته خارجا ، بعد دقائق عاد وبصحبته شاب في السابعة عشر من عمره يدعى إدوارد إيفانز كان قد التقطه واستدرجه من داخل المحطة ، ربما بحجة احتساء الخمر وممارسة الجنس ، وقام بتقديم مايرا له على أنها شقيقته ، ثم استقلوا السيارة وقفلوا عائدين إلى المنزل.

دخل ايان والشاب إلى حجرة الجلوس وبدءا باحتساء الخمر ، بعدها فترة خرج ايان وطلب من مايرا ان تذهب وتحضر زوج شقيقتها ديفيد ، فذهبت واحضرته وجعلته ينتظر في المطبخ وهو يظن ان ايان قد دعاه لاحتساء بعض الخمر معا ، لكن ما هي إلا دقائق حتى سمع صراخا رهيبا قادما من حجرة الجلوس ثم خرجت مايرا مضطربة وهي تصرخ بديفيد : “تعال بسرعة ساعده!” ..

blank
صورة شقيقة مايرا الصغرى مورين وزوجها ديفيد

هرع ديفيد إلى الداخل ليرى ايان يقف حاملا بلطة وتحت قدميه يجلس شاب وهو يصرخ بشكل هستيري ، قام ايان بضرب الشاب على رأسه بالبلطة عدة مرات قبل أن يجهز عليه تماما بخنقه بواسطة سلك كهربائي. كان منظرا بشعا ارتعدت له فرائص ديفيد ، صحيح هو لديه سجل من السرقة والعنف لكن الأمر لم يصل به أبدا إلى هكذا جرائم دموية.

خلال عملية القتل جرح ايان كاحله ، لذلك طلب من ديفيد أن يساعد مايرا ويحملا الجثة إلى السيارة ويذهبا للتخلص منها في المستنقع ، لكن جثة الشاب كانت ثقيلة جدا ، لذا قام ديفيد بركنها في حجرة النوم وقال بأنه سيذهب إلى منزله ويعود لاحقا مع عربة صغيرة ليستخدمها في نقل الجثة.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرا حين دخل ديفيد منزله وهو في غاية الاضطراب وبدأ يتقيأ ، ألحت عليه مورين في معرفة ما جرى له ، فاخبرها بما شاهده في بيت شقيقتها ، فطلبت منه إبلاغ الشرطة فورا وحذرته من العودة إلى منزل مايرا لئلا يقتلاه.

وفي السادسة صباحا ، خرج ديفيد من المنزل متسلحا بمفك براغي وسكين الخبز ، أخذ يمشي وهو يتلفت حوله ظنا أن ايان ومايرا يترصدانه، توجه إلى أقرب كابينة هاتف واتصل بالشرطة مقدما بلاغا كاملا بجميع ما شاهده.

خلال ساعة كانت الشرطة قد دخلت منزل جدة مايرا لتفتشه وعثرت على جثة ايفانز والقت القبض على ايان.

ايان اخبر الشرطة بأنه وايفانز كانا مخمورين فتشاجرا وخرجت الأمور عن السيطرة وانه لم يكن ينوي قتله ، وأن مايرا ليس لها أي يد فيما حدث. لكن شهادة ديفيد حول ايان ، وكيف أنه كان يتحدث في مناسبات عديدة عن رغبته في اقتراف جريمة قتل ، جعلت الشرطة تقتنع بأن ما حدث لم يكن مجرد شجار عرضي وأن القتل كان مخططا له ، وأن مايرا لها يد فيما حدث ، لذلك تم القاء القبض عليها بعد عدة أيام بتهمة المساعدة في ارتكاب جريمة قتل واودعت التوقيف.

في هذه الأثناء بدأت الشرطة تفتيشا مكثفا نبشت خلاله كل شبر في منزل جدة مايرا ، وفي إحدى الغرف عثروا على كراسة طالب مدرسة باسم جون كيلبرايد ، إنه نفس الصبي المختفي الذي تبحث عنه الشرطة منذ عامين. لكن ما الذي أتى بكراسته إلى منزل رجل متهم بارتكاب جريمة قتل؟ .. بالطبع لم يكن من الصعب الاستنتاج بأنه ضحية أخرى للقاتل.

وبدأت الشكوك تتزايد في أن يكون ايان ومايرا مسئولين عن عمليات اختفاء أخرى حدثت خلال الأعوام المنصرمة.

وبمزيد من التحقيقات اكتشفوا بأن ايان يحتفظ بصندوق بريد مقفل في إحدى محطات القطار. وبفتح الصندوق عثروا على شريط صور فتوغرافية سلبية لفتاة صغيرة عارية في وضعيات مختلفة ، في احدى تلك الصور كان هناك لجام موضوع على فم الفتاة .. كذلك عثروا على شريط تسجيل تصرخ فيه الفتاة وتتوسل أن يدعوها تذهب إلى أمها.

والدة الطفلة ليزلي آن داوني تعرفت على صور وصوت ابنتها على الفور.

وبالنبش أكثر في ماضي القاتلان أكتشف المحققون بأن مكانهما المفضل للتنزه كان مستنقع سادل ورث ، فتوجهوا بسرعة إلى ذلك المكان الكئيب والمنعزل وبدئوا حملة تفتيش واسعة مستعينين بالصور الفتوغرافية الكثيرة التي كان ايان ومايرا يلتقطانها خلال نزهاتهما ، وأسفرت جهود الشرطة في العثور على البقايا العظيمة للطفلة ليزلي حيث تعرفت أمها على الملابس التي كانت مدفونة معها.

بعد عدة أيام اكتشفوا عظام أخرى تبين انها تعود للصبي جون كيلبرايد حيث تعرفت أمه عليه من ملابسه.

وهكذا بدأت تتكون لدى الشرطة قناعة تامة بأن ايان ومايرا مسئولان عن معظم حالات الاختفاء التي تم الإبلاغ بها خلال الأعوام القليلة المنصرمة.

وسرعان ما تسربت الاخبار للصحافة التي أسبغت على القضية أسم : “جرائم المستنقع”.

المحاكمة ومزيد من البحث

blank
على مر السنين تم القيام بعشرات حملات البحث في مستنقع سادل ورث

محاكمة الثنائي القاتل كانت صاخبة لأن جرائمهما كانت في غاية البشاعة واثارت غضب الرأي العام إلى درجة أنه تم وضعهما داخل قفص مقاوم للرصاص داخل قاعة المحكمة خشية أن يقوم احد بقتلهما.

خلال المحاكمة حاول الاثنان التملص من الجرائم وتناوبا على الكذب متمسكين ببراءتهما من جميع التهم الموجهة إليهما ، لكن أسقط في يدهما عندما تم بث الشريط الصوتي لتعذيب الطفلة ليزلي في قاعة المحكمة ، فصوتهما كان ظاهرا في الشريط بوضوح.

كان الجميع يتمنى اعدام القاتلان ، خصوصا أنهما لم يبديا أي ندم أو تعاطف مع عائلات الضحايا وكانا في منتهى الصلافة واللامبالاة واستمرا بالكذب بطريقة فجة ، لكن لسوء الحظ كانت عقوبة الإعدام قد الغيت في المملكة المتحدة قبل المحاكمة بستة أشهر فقط ، لذا كان السجن المؤبد هو أقصى عقوبة.

قبل النطق بالحكم قال القاضي لايان : “أنك شخص شرير إلى درجة لا يمكن تخيلها” .. وحكم عليه بثلاث فترات سجن مؤبد ، أما مايرا فاعتقد القاضي انها قابلة للإصلاح متى ما تم ابعادها عن تأثير ايان ، وحكم عليه بفترتي مؤبد فقط.

البحث في المستنقع لم ينتهي ، فخلال السنوات اللاحقة تم البحث هناك مرارا على أمل العثور على رفات بولين ريد وكنث بينت. ولم يتم العثور على رفات بولين ريد إلا عام 1987. أما بينت فلم يتم العثور على رفاته أبدا.

بعد 20 عاما ، في عام 1985 ، اعترفت مايرا أخيرا بأنهما قتلا خمسة اشخاص ، على أمل أن تحصل على عفو ، وساعدت الشرطة في محاولة البحث عن رفات الضحايا ، ومن أجل ذلك تم ترتيب زيارتان لها للمستنقع ، لكنها لم تستطع تحديد مكان الدفن.

أما ايان فقد كان مستمرا بالإنكار ورافضا للاعتراف حتى ذلك الوقت ، ولم يصدق في البداية أن مايرا اعترفت ، لكن عند سماعه جزء من شريط مسجل لاعترافاتها قرر هو أيضا الاعتراف ، لا بل اعترف بقتل خمس اشخاص اخرين لم يكن لدى الشرطة أي معلومات عنهم ، لكن التحقيقات لم تتوصل إلى أي شيء بخصوص تلك الجرائم المزعومة ، وانكرت مايرا ان يكونا قد قتلا أشخاصا أخرين سوى الخمس ضحايا المعروفين في القضية.

في عام 1985 تم تشخيص ايان على أنه سايكوباثي وقاموا بتحويله الى مصحة عقلية وأمضى بقية حياته هناك في حجرة انفرادية، ولم يتقدم قط بطلب الحصول على عفو ، بالعكس كان يقول بأنه يجب أن لا يطلق سراحه أبدا ، وعلى مر السنين تقدم بطلبات كثيرة لكي يسمحوا له بإنهاء حياته ، لكن تم رفض طلبه.

أما مايرا فكانت تأمل دوما بالعفو وتقدمت للحصول عليه عدة مرات ، لكن تم رفض جميع طلباتها حتى موتها عام 2002 في السجن جراء اصابتها بذات الرئة.

في عام 2017 مات ايان في المصحة بسبب مرض رئوي.

جدير بالذكر أنه خلال محاكمتهما والسنين الأولى من سجنهما كان ايان دائما يدافع عن مايرا ويحاول أن يظهر للجميع أنه هو العقل المدبر لكل شيء وانها لم تكن سوى شاهدة ولم تشارك في القتل. لكن خلال سنواته الأخيرة غير أقواله وقال بأن مايرا لم تكن تقل سوءا عنه وانها ليس فقط شاركت في عمليات القتل بل كانت تستمتع بكل لحظة منها مثله تماما. وبالفعل هناك اليوم الكثير من المحللين للجريمة يقولون أن مايرا تماثل ايان في السوء ، لا بل ربما أسوأ منه حتى. فلولاها ما تمكن ايان من استدراج هؤلاء الضحايا بهذه السهولة.

ختاما ..

في الحقيقة أنا اختصرت الكثير من الاحداث منعا للملل والتطويل، خصوصا تلك المتعلقة بالفترة التي قضاها القاتلان في السجن ، وهي سنوات طويلة ، ولم اتطرق أيضا بالتفصيل إلى عذابات وآلام عائلات الضحايا وما عاناه كل منهم ، خصوصا الأمهات المكلومات.

وأكثر ما استوقفني في القضية ، باعتباري كاتبا في مجال الجريمة لسنوات ، هي مسالة الجريمة الكاملة ، من وجهة نظر تحليلية أرى أن النقاط والشروط التي وضعها ايان لتنفيذ جرائمه كانت محكمة وربما كان يمكن فعلا للثنائي أن يفلتا من العقاب ، خصوصا ونحن نتحدث عن زمان لم تكن هناك كاميرات مراقبة ولا وسائل اتصال وتتبع حديثة ، لكني لاحظت أنهما لم يلتزما بتلك الشروط منذ أول جريمة نفذاها. وأنه مع كل جريمة جديدة كانا ينفذانها كانا يكسران المزيد من هذه الحدود والشروط التي وضعاها لنفسيهما. وهذا الإهمال برأيي هو الذي قاد بالنهاية إلى سقوطهما ، أظن السبب في ذلك الإهمال هو التكرار والملل ، انتهت نشوة الدم ، حالها حال أي نشوة أخرى. ولعل ايان وصف الامر بشكل أدق حين قال مرة : “اصبح الامر مملا وغير مسلي واردت التحول من القتل الى سرقة المصارف”.

الأمر الآخر الذي استوقفني في القضية هو مدى وحشية هذا الثنائي الرهيب ، صحيح أن جرائم القتل ، بل مقتل الناس عموما لسبب أو لآخر ، ليست امرا فريدا في عالمنا البائس ، لكن القراءة بتعمق عن هكذا جرائم تجعل المرء يتساءل عن أي مدى يمكن للإنسان أن يمضي في شروره ، وإلى أي حد يمكن أن يكون عابثا ومجنونا؟ .. سؤال أطرحه على نفسي بمرارة وأنا أعلم علم اليقين بأن أشباه ايان ومايرا موجودون في كل مكان ، وحوش تجردوا من أي عاطفة وشعور ، والأدهى والامر ، هو أنه في بعض بقاع الأرض البائسة ، أمثال هؤلاء السايكوباثيين المختلين لا تطاردهم السلطات ، بالعكس ، يقومون بممارسة الجرائم السادية كل يوم وبشكل رسمي ، ويحصلون على مكافآت وعلاوات! ..

اقرأ المزيد عن ثنائيات قاتلة :

المصدر
Moors murders
guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى