أدب الرعب والعام

سلسلة كاتب مختل (2): إرارة، افتح لي أبوابك

كانت خمسين جلدة فحسب، لكنها كانت الأقسى، الأطول، الأعنف. كانت الجلدة الواحدة تحرق كأن آلاف الخناجر الحامية تغرز في جلدي

—ملاحظة قبل القراءة—

كل القصور المذكورة في القصة حقيقية وكذا أسماؤها، غير أن ما نسج عنها وفيها، من أحداث وشخصيات هو من نسج خيال الكاتبة وكل تشابه غير ذلك هو من محض الصدفة.

**

«قتلته! قتلته يا سفيان قتلته!»

كنت أقف على طرف الباب مستندا بخدي على الحائط الطيني البارد، بينما أمي تذرف الدمع الغزير وهي تقف بجوار أخي الناكس رأسه. تولول تارة وتحوقل تارة ودموعها لا تكف عن النزول.

بدوره كان والدي؛ وهو رجل كبير، ذو هيبة وطول مهيب، تغطي وجهه لحية سوداء قصيرة ويرتدي جلبابه البني المميز، يجلس على يمين أخي، يداه معقودتان في حجره وفكه مزموم.

صرخ سفيان باكيا:

«لم أقصد يا أماه، أقسم لك أني لم أقصد. دافعت عن نفسي فقط، يشهد الله أني لم أنو به شرا»

نظر له أبي بهدوء:

«أتدري معنى أن تقتل مسلما بغير حق يا سفيان؟»

«أدري يا أبي، أدري. أنا أقبل بأي عقاب في سبيل نيل عفوكم وعفو ربي. لكني والله العظيم لم أقصد»

صمت أبي وهو ينظر لدموع أخي سفيان الصادقة، رفع نظره إلي فطرفت عيني، لكنه لم يكد يقول شيئا حتى طرق صبي على نافذة بيتنا ففتح له أبي جزئيا وسمعت صراخ الصبي المزعج يرن في أذني:

«يطلبك الشيوخ في المحكمة يا حاج، أنت وولدك»

«حاضر، سنأتي حالا»

استدار أبي إلى سفيان وأمره بصرامة:

«قم»

جحظت عينا أمي:

«لا! سيقتلونه، لن تأخذه لأي مكان! أنا مستعدة أن أسلخ جلده ليل نهار لكن لا تأخذ يا الحاج محمد. أترجاك .. سيقتلون ابني»

عدل أبي من وضع جلبابه وقال بصوت خشن:

«سيقرر الشيوخ ما يكون من أمره، والأمر كله بيد الله. ابق مع أمك يا ياسين، ولا تدع أخواتك تخرجن أيضا لهذا اليوم»

«بأمرك»

خرج والدي مرفوع الرأس تلاحقه رائحة المسك والكافور، وتبعه أخي سفيان خاضعا، ذليلا محمر العينين. أخرجتُ نفسا كنت أحبسه في حين انهارت أمي تبكي، تولول تارة، وتارة تدعو الله أن ينجي ولدها. توجهت إليها واحتضنت جسدها المكتنز القصير بين يدي، مررت يدي على شعرها الجميل وقبلت ما بين عينيها:

«أمره بيد الله، والله لا يظلم عبدا. لكن الروح عزيزة عنده أيضا. دعي القرار بيد الشيوخ والتدبير بيد الله. »

«أنا أعرفهم، الجميع يعرف سكان قصر إرارة. وحوش لا ترحم، سيقتلونه يا بني، سيقتلون أخاك. إنهم لا يؤمنون بشيء سوى الدم، الدم بالدم»

مرت بجسدها رجفة زعزت كيانها وانهمرت المزيد من الدموع حتى بللت صدر قميصي الكتاني:

«كله بيد الله. ادخلي لمخدعك يا أماه وارتاحي، سيكون كل شيء بخير»

ابتسمت ما استطعت ودفعتها نحو مخدعها ثم توجهت للمطبخ الصغير، كسرت الحطب ووضعته في التنور ثم اشعلته بعود ثقاب. وبينما كنت منهكما في تحضير الطعام للفتيات، كان بالي مشغولا تماما بهذه المصيبة، بل البلاء العظيم الذي أتانا. استغفرت مرارا وطهوت على مهلي بعض الطعام ثم وضعته في صينية من الخزف وغطيته بفوطة، حملته بيدي، ودخلت به لمخدع آخر.

**

كانت الفتيات مجتمعات حول الفراش غير المرتب، يبكين بلا توقف بينما صغراهن تنظر لهن وتقهقه. أخواتي ثلاث، كبراهن في الثانية والعشرين، أوسطهن في التاسعة عشر وهي توأمي، وصغراهن لها عامان.

توجهت نحو الكبيرات وفككت من عناقهن الدرامي، لم تحسا بي بتاتا لدى دخولي رغم حدسهن العالي.

وضعت يدي على رأس كلا منهما:

«لم البكاء؟»

اندست رقية -توأمي- في حضني تبكي بقهر شديد:

«سمعنا أمي، سيقتلون أخانا يا ياسين»

إقرأ أيضا: عهد الدماء

«وهو أيضا قد قتل! قتل رجلا له أخت تنتظره»

هزت فاطمة الزهراء رأسها وشهقت:

«لكنه لم يقتله عن عمد، لا يمكن لسفيان أن يقتل. لكنهم سيفعلون، إنهم وحوش لا ترحم»

تعلقت مريم في ظهري وهي تضحك فسحبتها لحضني وداعبت ظفيرتها الصغيرة.

رفعت رأسي لها؛

«إن كان مظلوما فالله سينصره، ألا تؤمنين بذلك؟»

هزت رأسها:

«لكن يا ياسين!»

«كفى! أمي متعبة جدا والبيت في حال لا تسر. سأعفيكن اليوم فقط من واجباتكن لأن الجميع خائف وفي حال مكركبة. لكن المشاكل ليست عذرا لتهملن المنزل ونظافته! وأمي بحاجة لدعمكما لكنكما بدلا من ذلك قعدتما تولولان حتى طردكما والدي من المجلس! أ هذا تصرف حميد!»

شدت رقية على قميصي فنظرت لها ثم مررت بيدي على رأسيهما:

«أحضرت لكما الطعام، كلا ثم اذهبا لأمي. سأبقي مريم معي. هل هذا مفهوم؟»

نظرت لحال المخدع غير مرتب، ما زاد الوضع فوضى مريم التي ملأت الأرض كلها بلعابها اللزج. سحبت يدي من فمها ومسحتها في طرف قميصي حذرا كل الحذر من أن تظهر ملامحي المشمئزة من اللعاب، لست جيدا في تربية الأطفال رغم حبي الشديد لهم.

وقفت حاملا مريم ثم توقفت وقلت:

«إن أتى إبراهيم يا فاطمة فاذهبي معه، زوجك أولى بك»

نظرت لي بعيون مغرورقة:

«منذ هنيهة تقول لي اهتم بأمنا والآن توصيني أن أذهب لزوجي!»

شهقت قليلا:

«لن أذهب لأي مكان، لديه يدين وأعطاه الله رجلين وعينين. سأبقى هنا حتى أرى ما حال إليه أمر أخي»

تنهدت، إن أضفت كلمة أخرى ستثور الفتاتين علي. انسحبت بهدوء وأنا أحمل مريم على ذراعي واتجهت بها نحو الخارج، لم يكن من المفيد تركها مع أي منهما وهما بهذه الحال، بالكاد يشعران بما حولهما فكيف سيعتنيان بطفلة!

**

توقفت في ظل منزلنا، أنظر للحي الضيق بعيون لا ترى.
كنا عوائل مختلفة، نعيش في هذا المكان النائي من المغرب.. في مدينة تدعى تافيلالت.

طريقة عيشنا كانت مختلفة تماما عن كل المدن المغريبة، مميزة جدا وغريبة جدا أيضا. عشنا جميعا في قصور طينية ضخمة، داخل كل قصر بيوت عديدة وأحياء ضيقة الدروب، نتزوج من بعضنا وننجب من بعضنا، كل قصر منا مشهور بما يميزه.

كنا خمسة قصور في تلك المنطقة، ولأن أبواب القصور لم تكن تفتح إلا في أوقات معينة فمن النادر أن يغادر أي منا لمنطقة أخرى ويتعرف على باقي القصور. يفتح باب القصر كل أربعة أشهر من أجل تبادل التجارة مع القوافل المسافرة، وخلال العيدين فقط احتفاء بالمناسبة العظيمة وتعظيما لشعائر الله في هذين اليومين العظمين، غير ذلك لم تكن تفتح أبواب القصور إلا لأمر جلل.

لكل قصر شيخ يحكمه وينظر في أمره كالملك الذي يرعى شعبه أو كالراعي لغنمه. هو قاضينا وحاكمنا، أبونا الأكبر وشيخنا. قصرنا كان اسمه أبادو، واشتهر بشدة بأس رجاله، بحياء وعفة نسائه وبناته، اشتهر قصرنا بأنه أكثر القصور تدينا وصفاء.

من الناحية الأخرى كان بجوارنا قصر قريب يدعى بإرارة. قصر كان في زمانه الماضي ينافسنا بقوته وبأسه وخلقه أو هكذا حكى لنا أجدادنا لكنه الآن أصبح رمزا للفجور والفسوق والسحر وكل ما قد يخطر على بال مسلم من أمور شنيعة، ما سلم من أهله إلا القليل. لكن ورغم كل ذلك، رجال القصر أشداء بهم نخوة العرب القوية، لا يرضون على نسائهم مهما بلغ فجورهم، وهم لبعضهم سند لا يهتز.

قبل يومين كان ميعاد فتح القصور لأجل تبادل التجارة، لا يخرج إلا تجار القصور أو كبارهم، ويمنع منعا باتا خروج النساء ويمنع دخول التجار أو أي شخص غريب للقصر، هكذا نحن لا نلتقي مع بعضنا سوى في الساحات.

حصل أن خرج والدي برفقة أخي الأكبر كالعادة لتبادل التجارة؛ فقد كان والدي تاجرا للقماش وكان يحب كثيرا جودة القماش الذي تجود به القوافل عليه، وتارة كان يشتري منه ما يبغيه لنساء البيت من زينة وما يرضي النفس.

بينما هم هكذا حدث أن سرق شاب من إرارة مالا لبعض تجار القوافل فحدث الهرج والمرج وتدخل طرف من هنا وهناك، واختلط الحابل بالنابل. وكان من بين الأطراف التي تدخلت أخي سفيان؛ فهو بطبعه قد تربى على الحق وبه نخوة شديدة.

شد هذا ذاك، تناطحا، تضاربا كتيسين هائجين أو ثورين ضخمين. هذا يريد استعادة الحق وذاك مصر على الإنكار. كان للشاب خنجر مربوط في خصره، استله على حين غرة فجرح به وجه أخي، وحاول إصابته في مكان أبعد، دفاعا عن نفسه اضطر سفيان إلى لوي يد الشاب لكنه لم يتوقع قط أن فعله لذلك سيجعل الخنجر يدخل بلا رحمة في بطنه! ولم ينتبه أحد لذلك حتى خرج الخنصر من خاصرته!

وهكذا بدأت حرب صامتة بين القصرين، مشتعلة منذ يومين ولم تهدأ للحظة، مما دفع بالشيوخ الخمسة للاجتماع ليقرروا ما هم بفاعلون قبل أن تثور الدماء وتقلب القصور لساحات معارك مضرجة بالدم وبجثث الأبرياء.

مر من أمامي طفل راكض بسرعة أثارت الغبار من حولي، فنظرت له شرزا:

«لماذا تركض بهذه السرعة يا عبد الله، ألم تراني أمامك أحمل طفلا!»

توقف ونظر لي منحني الرأس:

«عذرا يا عم ياسين، لكني أريد الإسراع لباب القصر. اجتمع الشيوخ هناك والعديد من الناس وسيقررون الحكم الآن!»
صعقة شديدة مرت بجسدي:

«قلت الآن؟»

تلفت من حولي ثم وضعت مريم بين ذراعيه:

«اهتم بمريم حتى آتي إليك. سأجزل لك العطاء إن أحسنت مجالستها حتى أعود»

تجلى الانزعاج على وجهه:

«لكن يا عمي!»

«كن رجلا يا عبد الله، إنها بضع دقائق وأعود»

ركضت ركضا نحو باب القصر، متناسيا تماما لبس جلبابي أو أي شيء قد يجعل لي هيبة أمام رجال القصر الآخر. كنت أركض بقميص كتاني وسروال أسود، حافي القدمين. بدوت كصبي لا رجلا مكتمل البنيان، وما عزز هذا أني كنت قصيرا.

إقرأ أيضا: ملائكة متألمة

أمام باب القصر وجدت العديد من الناس مجتمعين، كنت أعرف معظمهم، بل كلهم لعيشي الطويل بينهم، هذه المعرفة هي ما ساعدني في عبور ذلك التزاحم الشديد حتى خرجت من القصر نحو الساحة الرملية الواسعة.

قلبت بصري في المكان فوجدت عدة رجال يقفون في جلاببهم، عيونهم حادة كالصقر وأجسادهم كأنها أسوار متراصة. مرت بجسدي رعشة، وأشحت ببصري عنهم، بحثت بعيناي عن والدي وأخي فوجدتهما يقفان قرب شيخنا. اتجهت إليهما وسلمت:

«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»

همست لأبي:

«ماذا حصل؟»

تلوى فمه وقال بصوت خشن:

«لم يرضوا إلا بشق الأنفس. سندفع من حر مالنا ثمانية آلاف درهم. ويجلد أخيك مئة جلدة من قبل أب المقتول وابن عمه!»

ارتعش جسدي:

«مئة جلدة! أبي!»

«اصمت يا ياسين، هذا أهون من أن نقدم لهم رأس سفيان على طبق. كان ذاك ذكرهم الوحيد، قتل أخوك ذكر العائلة الوحيد. لعنة الله على الشيطان!»

صر على أسنانه وهو ينظر للجدار البشري المقابل لنا، بعدما نظرت له من جديد رأيت امرأة متلحفة في حايك أسود، عيناها مسحوبتان بشدة وضيقتين كعيني حرباء. أخفضت نظري عنها لأن الشر في عينيها كان أقوى مما قد أحتمله.

نبس شيخنا بصوت وقور مهيب:

«رضينا بشروطكم، سيأتيكم والد الصبي بالمال صبيحة الغد. وسيجلد الفتى أمام أعنيكم لتشفوا منهم غليلكم. وما بعد ذلك بيننا وبينكم إلا السلام، فهل رضيتم؟»

علت همهمة من الرجال ونطق شيخهم:

«رضينا، فليتقدم ابنكم إلينا»

تقدم سفيان منهم فخطوت حذوه، نظر لي الشيخ بهدوء

«نريد القاتل فقط، من تكون أنت؟»

أجبت بهدوء وأنا أميل على أخي لأشد يده:

«أخوه! أريد أن أعاقب معه، فهل ترضون أن تقسم الجلدات بيننا بالتساوي؟»

هدر أبي بصوت قوي:

«ياسين!»

ارتفع صوت المرأة صارخا بهسترية:

«نقبل، نقبل. اجلدوه معه، اسلخوهما. اقطعوا جلدهما…الموت لكما!»

صرخ أبي بي من جديد:

«ياسين عد لهنا»

عادت المرأة تصرخ من جهتها:

«بل سيجلد مع أخاه، قتلتم ابني الوحيد وأنتم لديكم اثنان! لن يشفى غليلي إلا إن رأيت دماء الاثنين»

علا الهرج والمرج ووجد الشيوخ نفسهما في وضع حرج واحمر وجه أبي بالغضب حتى خشيت أن ينفجر عرق في عنقه.

تقدم شيخ قصر آخر منا، بدا طيبا حكيما سألني:

«أحب تآزرك مع أخيك أيها الشاب، لكن هل أنت واثق؟»

تجاهلت النيران التي تشتعل خلفي في جسد والدي وقلت:

«أجل، واثق جدا»

رفع الشيخ صوته:

«اشهدوا، هو ليس مرغما إذا عليه أن يقضي كلمته، شرف الرجل كلمته!»

همهم الرجال ثم خرج إلينا شاب مفتول العضلات، يحمل بيده سوطا يمتد على ذراعه ويبتسم بشر. ارتعشت بقوة وقضمت شفتي، خمسين جلدة ليست بالشيء الكبير. أستطيع التحمل، أو هكذا كنت أخالني سأفعل.

ما عدت للبيت أنا وأخي إلا محمولين على الأكتاف مضرجين بالدماء، مغمى علينا.

كانت خمسين جلدة فحسب، لكنها كانت الأقسى، الأطول، الأعنف. كانت الجلدة الواحدة تحرق كأن آلاف الخناجر الحامية تغرز في جلدي. هل كان ذلك سوطا جلديا فقط! لماذا شعرت أنه شائك! مدبب وحارق! لقد عاينت الموت فيه ولو زادت الجلدات واحدة فقط للفظت أنفاسي.

**

أصبت وأخي بحمى دامت بضع أيام وكانت أمي ترقينا كل ليلة وتسقينا الماء الحلو حتى عادت إلينا صحتنا.

حملت ندوبا في ظهري من أثر الجلدات لكنها كانت تتماثل للشفاء بسبب العناية الخاصة التي أولتها لي أمي ورقية أختي. وشيئا فشيئا عادت الحياة لطبيعتها داخل القصر أو هكذا ظننا لكنها كانت فقط البداية.

بدأ الأمر مع أخي أولا، تقيأ دما أسودا كريها أثناء ليلة ونحن نيام، واستيقظ وجسمه مملوء بالخدوش كأن نمرا شرسا هجم عليه. خشيت عليه، فنهضت إليه أرقيه، أقرأ اسم الله عليه وأعوذه.

كان أخي في غمرة اكتئابه وإصابته بالإحباط وتأنيب الضمير قد انعزل عنا، وصارت صلاته قليلة سريعة، شروده كثير، نفوره من كل شيء كثير لا يطاق، لكنه مع ذلك كان ما يزال متدينا بما يكفي لكي يبعد عنه شرور الجن.

إقرأ أيضا: توناروز

لكن في تلك الليلة بينما أقرأ عليه القرآن، دفعني بقوة وقفز فوقي كأنه قط، شمني وقال بصوت غليظ:

«لما لم يحدث لك شيء هاه! لما ما تزال بخير؟

سأقتلك، سأقتلك وأقتله، ستموتون جميعا!»

أمسكت كتفيه وضغطت عليهما، رفعت صوتي بالتجويد بسورة البقرة فانقلبت عيناه وأخذ يموء ويخدشني:

«كفى، اصمت، اصمت. سأقتلك، سأقتلك»

أمسك بي من عنقي وشد عليها بشدة حتى زاغت عيناي وفقدت أنفاسي ثم فجأة عادت عيناه لطبيتعهما وابتعد عني صارخا بقوة.

دخل أبي مرعوبا لغرفتنا ليجدنا على تلك الحال، أخي يرجف على فراشه وهو ينظر لي وأمامه بركة دم أسود كريه الرائحة، وأنا ملقى على الأرض أسعل بشدة وأتعوذ بالله.

«ياسين، سفيان مالذي يحصل هنا؟»

«أبي، سفيان ممسوس»

نظر لي بجنون:

«هل تمازحني ياولد!»

رفعت بصري إلي وأشرت لعنقي:

«خنقني من لحظات وتعهد أنه سيقتلني! هل بعد هذا مزاح؟»

اقترب منه فتراجع سفيان بعيدا، ثم انفجر باكيا بدون سبب.

«سفيان يا ولدي، ما الذي يحدث معك؟»

اهتز جسده:

«منذ جلدنا، وهناك كوابيس مرعبة تراودني. حاولت تجاهلها لكنها تزداد، ثم كنت اشعر كل يوم بشيء ثقيل يمشي فوقي وبعظام جسدي تتكسر، ثم تعود صباحا كما كانت»

دفن وجهه بركبتيه:

«أنا أكره هذا، أنا خائف. سيقتلني وسيقتل ياسين، سيقتلنا ذلك الشيء جميعا»

تبادل والدي معي نظرات ذات معنى، فتنهدت. نهضت عن الأرض وخرجت نحو المطبخ:

«سأحضر شيئا لتتظيف الدماء»

بينما كنت أبحث عن خرقة بين قدور المطبخ شعرت بيد توضع على كتفي، تجمدت في مكاني وتلك اليدان تحيطان بي من الخلف، علا همس مخيف في أذني وامتدت اليدان أكثر حتى صدري. أنفاس حارقة لفحت وجهي ورائحة كريهة دخلت أنفي. كنت متجمدا تماما ومرت بضع ثوان قبل أن أستفيق من لوثتي وأبدأ بتلاوة القرآن، سرني جدا في تلك اللحظة أني حافظ للقرآن كاملا.

مع تلاوتي للقرآن غرزت اليدين أظافرها في صدري وسحبت بقوة فتأوهت متألما.

تراجعت اليدان واختفت في ظلامها دون أن أراها، وسقطت على ركبتاي ألهث بينما أحوقل، رفعت يدي لصدري فوجدت الدماء متجلطة فوق الجروح، نفس الجروح التي انتشرت في جسم أخي.

«ماهذا! سترك يارب، اللهم سترك!»

حملت قدرا به بعض الماء ثم دلفت للمخدع من جديد، لأجد سفيان متكورا في حضن والدي وهو فوق رأسه يرقيه. كنت شاكرا للظلام الذي يحيط بالمكان لذا مسحت الدم سريعا وأنا لا أكف عن الاستغفار والذكر، ثم خرجت من المكان.

رميت بالماء المتسخ خلف المنزل ثم رميت بمياه نظيفة مرقاة فوقه. تنهدت ورفعت رأسي للسماء، مس! هل أصيب أخي بمس فعلا. ماذا عني؟

سمعت مواء قط قريب مني، فأخفضت بصري نحو الأرض، لأجد قطا نحيفا مفقوع العين يقف أمامي، عيناه الخضراء تشع في الظلام ومواءه يرتفع من حولي. خرج من خلفه قط آخر سمين، ثم ثالث فرابع واجتمعت العيون الأربعة تنظر لي بغضب شديد لم أدر سببه. ارتجفت ووليت مدبرا تاركا القطط في الظلام تموء بصوت مخيف.

عشنا هكذا لأربعة أشهر كاملة، أشاهد قططا في الظلام كلما خرجت للجامع، اليدان ذات الأظافر تخدشني من حين لآخر لكن لم يحدث لي شيء غير ذلك مما دفعني لأتكتم على الأمر خصوصا بعد ما آل إليه أمر أخي.

فقد سيطر عليه الجن تماما، وأصبح في حال يرثى لها، ما تركنا فقيها في أبادو إلا زرناه ولا دربا إلا سلكناه، لكن الوضع لم يكن يزداد سوى سوءا، أخي مملوك بالكامل لجن ما. وهذا الجن الغريب يحب خنقي وشتمي خصيصا. يصرخ في كل مرة:

«الويل لك يا ياسين، الويل لك يا ياسين»

**

يتقيأ أخي دما أسودا في كل مرة، عظامه تؤلمه في كل ليلة والحمى لا تفارقه. بات جلدا فوق العظام وعيونه غائرة في جلد وجهه، كانت حياة أخي تنسل من بين أيدينا ونحن غير قادرين على شيء سوى النظر إليه.

وماكان حال عائلتي أحسن، فجميعنا جثم علينا الهم فما عاد فينا من يأكل أو يشرب أو يبتسم سوى مريم.
حين فتح باب القصر لأجل التجارة من جديد قال لي والدي:

«تول أنت أمر البيع والشراء يا ياسين، سأذهب لأسأل التجار إن كان فيهم فقيه حافظ لكلام الله لعل الفرج يكون على يد أحدهم»

هززت رأسي:

«بأمرك»

أمسكت ختم والدي، وهو ختم خزفي منقوش عليه اسم قصرنا يعطى لكبار التجار كي يعرف أصله، وكذلك هو تأشيرة دخول للقصر.

جررت ورائي بغلا وبدأت أمر على التجار أعاين ما لديهم، وأشتري، أقايض وأجادل، كنت تاجرا بالفطرة فهذا ما ربيت عليه. من المفترض أن يكون هذا دور أخي لأنه أكبرنا لكن بما آل إليه حاله، فلا مناص لي من إمساك العمل بيدي.

مر بي الجلاد الذي جلدنا؛ ابن عم القتيل، نظر لي نظرة متفحصة ثم قال هازئا:

«عجبا، ما تزال قطعة واحدة يا ابن أبادو! عجبا!»
مرر يده على لحيته وشخر:

«كيف حال أخيك؟ سلم لي عليه»

نظرت له بحدة:

«أنت في حالك وأنا في حالي يا ابن إرارة، إلا إن كنت متحمسا ليسفك دمك أيضا ها هنا!»

«أحب أن أراك تفعل يا ابن الزنا!»

زاغت عيناي فما وجدتني إلا وقد خنقت عنقه بين يدي:

«إياك وإهانة والداي أيها الفاجر. سأنحرك ولن أتردد»

شتمني ثم تعاركنا ولولا ستر الله واجتماع التجار علينا لانتهى بأحدنا مقتولا.

جرني والدي من يدي بقوة:

«ماذا تفعل؟»

تنفست بعنف وأنا أنظر بطرف عيني نحو الشاب:

«أهان شرفي هذا الفاجر، أتريدني أن أقف متفرجا!»

شد والدي أذني بقوة وقال بصرامة شديدة:

«لا تفعل. لكن لا تشهر في وجهه خنجرا! هل تريد أن تصبح أنت أيضا قاتلا! »

زممت شفتاي ورميت الخنجر من يدي:

«أعتذر يا أبتي، أعماني الغضب»

«ما عهدتك هكذا، هات الختم وعد للدار. لن ينتهي اليوم على خير إن بقيت هنا»

«بأمرك»

عدت للدار وأنا أنهج غضبا، احاول السيطرة على أنفاسي الهائجة والتحكم في الانفعالات التي تجوش في داخلي، كان هناك صوت داخلي يحثني كي أعود له فأنحره بخنجري من الوريد للوريد.

إقرأ أيضا: اليمام و الياسمين

وصلت للدار فتوضأت لعل غضبي يخف، كنت بالكاد أتمالك نفسي حتى إني صرخت بشدة في وجه فاطمة الزهراء:

«أليس لك بيت تسكنيه؟ صباح مساء أجدك هاهنا!»

ارتجفت ونظرت لي بوجه شاحب، فزجرتها مجددا ودلفت مخدعي.

بعد الوضوء خف غضبي قليلا وأنبني ضميري لصراخي بوجه أختي، لكني مع ذلك كنت ما أزال راغبا في قتل شخص ما. زممت شفتاي ووضعت رأسي على مخدتي أجبرت نفسي على النوم.

بعد ذاك بيومين زادت الأمور سوءا معي. الكوابيس هاجمتني فأراني في كل ليلة أصارع داخل حفرة ملأى بالثعابين التي تنهش جسمي، وأستيقظ غالب الوقت وأنا أتألم بشدة كأني لدغت فعلا.

وشيئا فشيئا صار الوضع أسوأ وتيقنت أني سقطت في نفس الحفرة التي سقط فيها أخي. ثم حصل ذات ليلة أن استيقظت مرعوبا وأحسست بألم شديد في يدي اليمنى، نظرت لها على ضوء البدر الساطع لأجدها منهوشة! كأن شخصا أمسك بها بأسنانه وأخذ يمضع منها، ما زادني رعبا أني وجدت طعم الدماء في فمي بل وبعض الأشلاء، وتيقنت لحظتئذ أني من كنت آكل في ذراعي!

نهضت مسرعا لبيت الخلاء وتقيأت حتى كادت الروح تخرج مني، عدت للمخدع مصفر الوجه لأجد أخي سفيان جالسا قرب النافذة وبيده قط أسود أعور العين.

ضحك بقوة حين رآني وهمس بفحيح:

«وقعت يا ابن أبادو، وقعت»

ارتجفت، ثم رفعت صوتي بالقرآن فارتفع الضحك أكثر، قفز القط نحوي ثم خدش بمخالبه قدمي فانتشر ألم رهيب فيهما وتيبست كأنهما حجر مما جعلني أسقط أرضا على وجهي.

كنت أصارع الألم، أستغيث بأخي الذي ما انفك يضحك ويضحك حتى خرجت الرغوة من فمه. قفز فجأة على أربع وتقدم مني وضع فمه على ذراعي المنهوشة وعضها ناهشا لحمي فصرخت بقوة زلزلت المنزل.

مرميا على الأرض، مشلول القدمين، وأخي الأكبر يضحك وينهش في لحمي والقط فوق النافذة يحدق فينا بعينه، هكذا وجدني أبي حين دلف مخدعنا على إثر صرختي.

صرخ برعب وأسرع يبعد سفيان عني وفمه ملطخ بدمائي. لم يقاوم أخي بل أخذ يضحك ويضحك وهو يكرر:

«وقعت يا ابن أبادو، وقعت»

نظرت لعيني أخي المقلوبتين، ثم لعين القط الحادة وانسحب مني وعيي رويدا رويدا حتى ما عدت أرى شيئا سوى الظلام.

**

أحضر أبي فقيه القصر ليعاين حالتي فهز رأسه وقال:

«لا علم لي بهذه الأمور يا حاج محمد. لكني كما قلت لك أعرف رجلا من قصر أبوعام، التقيت به يوما في ساحة التجارة وكان حكيما أكثر مني، هو الوحيد القادر على إنقاذ ولديك»

شددت على معدتي بقوة وقلت:

«لكن يا عمي، لن يسمح لأحد منا بدخول القصر، هذه القوانين!»

هز أبي رأسه بشدة:

«هل أنت واثق يا علي؟ ولداي أصابهما سحر!»

«لا شيء آخر يبرر حالتهما الغريبة هذه، وأنا لا علم لي بأمور السحر. عليك أن تجد طريقة وتدخل ولديك القصر وتبحث عن الرجل وإن لم يكن الله قد توفاه فهو من سينقذهما»

وضع والدي يده على خده في غم شديد ونظر لي فأخفضت بصري عنه، رغم أن حالتي ليست بالمبشرة لكني كنت متماسكا وواعيا أكثر من أخي سفيان.

زاد الألم في معدتي فنهضت معتذرا، وتوجهت لبيت الخلاء وهناك انكببت على الأرض أستفرغ دما. أمسكت سطل الماء وبدأت أصب منه على رأسي لعل الصداع يخف.

سحر! من سيضع لي سحرا وأخي؟ ولماذا؟ ألم يعد هناك شخص يخشى الله في هذه البلاد؟

**

لم يكن لدى والدي خيار سوى أن ينتظر فتح الباب خلال عيد الفطر القادم بعد شهرين، لعله هناك وبعد اختلاط الناس يجد حلا وطريقة يستدل بها على الرجل. كان ينظر لي مغموما وتبادر لنا نفس السؤال؛ هل سنصمد أنا وأخي شهرين آخرين؟

إقرأ أيضا: سْكيدْلْ

ارتعشت من أخمص قدمي حتى آخر شعرة في رأسي.
نظرت لكفي المنهوش وقضمت على شفتي بقوة، رجائي أن نفعل، علينا أن نصمد.

خلال شهر رمضان المبارك، خف حالنا قليلا فلم نعاني كثيرا واستبشر أبي بهذا كثير وفرحت أمي فكانت تدس الطعام في فمي وفم أخي دسا، فخورة بشفائنا المؤقت وسعيدة برجوع الطاقة إلينا. لكن لم يكن ذلك ليدوم طويلا، هذا الشهر سيغادر وهذه البركة ستضمي وإن لم نستغل يوم العيد فستغلق الأبواب من جديد ونعود للمعاناة.

ذلك لم يعن أن الأعراض اختفت تماما، لكنها كانت أخف وطئا وتوقف أخي عن التصرف بجنون وعلى الاستيقاظ ليلا ليقضم جسمي. أو ليضحك حتى الموت، كانت تلك بركة شهر رمضان.

**

صباح العيد خرجت مع والدي وأخي لنبحث عن الرجل المقصود. سلمنا على هذا وذاك، سألنا الكثير من الناس لكن كيف لنا أن نجد رجلا مجهول الاسم والهوية!

كنا نطرح أسئلة غبية نتحرج منها:

«هل تعلم يا سيدي عن رجل يسكن في قصر أبوعام وله خبرة مع الجن والسحر!»

ظننا بعض الناس مجانين وانتشر في كل مكان أن الحاج محمد وولديه يبحثون عن راق للسحر والجن.

قضم سفيان شفتيه بقوة وقال:

«سينتشر القيل والقال عنا يا أبي، لدينا نساء في منزلنا وهذا سيضر سمعتهم! فلنتوقف!»

هززت رأسي:

«إنه محق. فعلنا ما علينا لندع التدبير لله»

نظر لنا والدي بغم وقال:

«سيغلق باب القصر مساء يا ولداي، هل أنتما قادران على الصبر بضعة أشهر أخرى حتى يوم التجارة! أو حتى عيد الأضحى! شهر رمضان انتهى وبركته قد ولت ولا يعلم إلا الله ما سيصيبكما غدا أو بعده»

اغرورقت عيناه:

«حسبي الله في من فعل هذا بكما، حسبي الله ونعم الوكيل»

شددت على يده مبتسما:

«آمن بالله يا أبت، لن يتركنا وما هذا سوى ابتلاء من عنده. علينا بالصبر»

همهم سفيان:

«أعتقد أن أمي ستكون قد طبخت الكسكس الآن، لنعد ونتغذى يا أبي»

«حسنا، اسبقاني للمنزل. سأسلم على بعض الرجال وأعود»

نظرت لأخي، كنا نعلم أن أبي سيقصد الرجال ليسألهم من جديد لكن أمام نظرة عينيه المنكسرة وجدنا أنفسنا نعود ونتركه في الساحة.

تقدمني أخي سفيان وتأخرت عنه أكلم شابا أعرفه من وقت طويل، كان من قصر أبوعام أيضا وكنت ألتقيه كل عيد أو أيام التجارة حين نخرج معا. كان لطيفا وأحببت صحبته، رغم فراقنا الطويل كان يسلم علي في كل مرة بنفس الحرارة:

«مضى وقت مذ رأيتك يا ياسين، كيف الحال يا رجل، ما زلت قصيرا كما عهدتك»

ابتسمت له بهدوء:

«حياك الله يا عيسى، ها نحن ذا تلعب بنا الدنيا كيف شاءت»

وضع يده على كتفي وقال مازحا:

«مابك؟ هل أصابك جن حقا!»

نظرت في عينيه وابتسمت، فتشجنت يده:

« أنت تمزح يا رجل! ظننت كل ما ينتشر ها هنا جنونا بسبب الحادثة التي حصلت قبل أشهر»

مرت في ذهني في تلك اللحظة صورة عينا المرأة المخيفتان، واضطرب قلبي حتى سمعت صوت دقاته في أذني. السحر، قصر إرارة، قتل أخي لذكر العائلة الوحيد! صراخ المرأة حين أرادت رؤية دمائنا.

تذكرت جملة الشاب الذي تشاجرت معه وهو يتعجب من حالي لأني بخير وفي أفضل حال!

يا إلهي، يا إلهي….دوى طنين حاد في أذني واهتزت قدماي، شد عيسى بيده على كتفي وقال بقلق:

«ياسين! هل أنت بخير يا رجل! ماذا دهاك؟»

نبست بذهول:

«كل شيء كان واضحا من البداية، كل شيء كان واضحا، رباه!»

سحبني عيسى حتى أجلسني فوق مصطبة سور قصرنا:

«ياسين! هل أنت بخير! مالذي كان واضحا؟»

امسكت كتفيه:

«عيسى، بالله عليك يا عيسى، أدخلني قصركم، أدخلني قصر أبوعام»

شد على يداي وقال لي:

«أدخلك القصر! لماذا؟»

هززت رأسي بقوة:

«لا وقت لدي للتفسير. لن يرضيها شيء سوى موتنا. لن يشفى غليل قلبها إلا برؤية جثتينا. أدخلني يا عيسى، بحق خالق السموات والأرض»

صرخ بي:

«ياسين أنا لا أفهم شيئا!»

مر من أمامنا رجل من بني إرارة، تمعن في قليلا ثم ابتسم وعاد أدراجه نحو باب قصره، هوى قلبي بين أضلعي، لن يهمني موتي، لكنها ستقتل أخي، ستقتل سفيان!

إقرأ أيضا: للندم طعمٌ مر

أمسكت يده بشدة وسحبته نحو باب القصر ووقفت قربه، نظرا لي الحارسين باندهاش لكنهما تجاهلاني بعد ذلك. همست لعيسى

«نحن نبحث عن رجل منكم، خبير في السحر. أخي مصاب بمس منذ يوم الحادثة، بنو إرارة سلطوا عليه شيئا انتقاما منا، عليك أن تساعدني يا عيسى. عليك أن تدخلني القصر مهما كان الثمن!»

تلون وجه عيسى:

«لا أرضى أن أرفض لك طلبا يا أخي، لكنك تعلم مثلي أن دخول القصور ممنوع لغير أهله! سأبحث لك بنفسي عن الرجل الذي تطلبه، لكن أمهلني»

«ليس لدي وقت أمهلك إياه يا عيسى، متى تظن الأبواب ستفتح من جديد هاه! سيموت أخي قبل ذلك! عليك أن تدخلني اليوم. أرجوك»

قضم شفتيه وتلون وجهه إحراجا، نظر للسماء وشمسها الساطعة وقال:

«حسنا، أمهلني حتى العصر، سألتقيك عصرا هنا عند بوابة قصركم وبإذن الله سأجد لك حلا»

«أتعدني!»

وضع يده على صدري:

«إنها كلمة رجل يا ياسين، كلمة رجل لرجل»

أطلقت يداه فابتعد عني واندس بين جموع الناس، رفعت بصري نحو أسوار قصر إرارة واهتز قلبي بين أضلعي.

«رحماك يارب!»

**

دلفت للقصر وسرت بين أحيائه مسلوب العقل، كيف لم ننتبه لهذا! منذ اليوم الأول كانت الدلائل واضحة لما تعامينا عن هذه الحقيقة لهذه الدرجة! جلست على جانب الحي أضم يداي لصدري، لكن كيف فعلوا هذا بنا؟ ألا يحتاج الساحر طرفا من الضحية كي يسلط عليه عفاريته! ما هو الشيء الذي حصلوا عليه منا!
أغمضت عيناي محاولا تذكر أحداث اليوم الأول:

«الدم!»

حين جلدنا ألم تتمزق أجسادنا وثيابنا! لا أعتقد أن أحدا اهتم بجمع تلك الأشلاء من بعدنا، لكني واثق أن شخصا ما قد فعل! شخص لم يرح قلبه جَلدنا، كذلك السوط الذي جُلدنا به كان مضرجا بدمائي ودماء أخي.

اهتز جسدي بقوة ووجدت نفسي أبكي، أهتز بالبكاء من فظاعة ما اكتشفت، هل تصل شناعة الإنسان إلى هذه الدرجة!. ما طقت الجلوس هناك، نهضت مبلل العينين وجلست أمام باب القصر، دافنا وجهي بين ركبتي، رافضا الكلام والطعام الذي عرضه الحارسين علي، جلست بقلب معلق أنتظر آذان العصر كما لم أنتظره من قبل قط.

لساني لا يكف عن الدعاء ومياه عيني لا تنشف، لم أكن رجلا، عدت وأصبحت صبيا يبكي نفسه وأخيه.

من حسن حظي أن والدي حين مر بي لم ينتبه لي، إذ كان مهموما مسلوب العقل وهو يمشي، كتفه المرفوعة دوما سقطت، وظهره المستقيم احدودب، وعيناه الحادة غشتها نظرة انكسار وحزين عميقين، كان أبا محطما. نظرت له فازداد بكائي وحسرتي علينا.

غرقت في ألمي حتى آذان العصر، قمت فتيممت من التراب وصليت فرضي. ألصقت جبهتي بالتراب وأجشهت بالبكاء أدعوا الله أن يرفع عنا هذا البأس، بكيت بكاء لم أبكيه في حياتي قط، كنت منكسرا للغاية.

حين أنهيت صلاتي، جلست على الأرض غير مبال باتساخ بياض جلبابي، لبثت هكذا وقتا طويلا حتى سمعت نداء باسمي.. نهضت من مكاني متوجسا، وخرجت من القصر لأجد عيسى يقف أمامي متعرق الجبين، مبتسم الوجه:

«ياسين، وجدته!»

استبشرت ملامحي فخرجت إليه وركضنا ركضا حتى باب قصر أبوعام. هناك وجدت رجلا كهلا في عمر أبي، على وجهه علامات الطيبة وعينان خضراوان صافيتان كالعشب الندي.

قبلت يده فدعاني لأجلس معه على مصطبة الباب.

«كيف حالك يا بني، سمعت أنك تبحث عن والدي، فأخبرني بخبرك!»

تلعثم لساني ونظرت لعيسى خائب الأمل:

«والدك!»

ربت على كتفي:

«نعم يا ولدي، والدي هو من تقصده لكن الله توفاه منذ ثلاث سنوات، رحمه الله عليه»

نكست برأسي وأنا أحس ببساط الأمل ينزع من تحت قدمي، لكن الرجل عاد فربت على فخذي:

«لا تقنط من رحمة الله يا بني. قص لي خبرك فأنت لا تدري أين الخير»

تنهدت وبدأت أحكي له كل شيء، منذ اليوم الذي قتل في أخي أحد أبناء إرارة بالخطأ، إلى اليوم الذي استيقظ فيه أخي يتقيأ دما وتحولت حياته لجحيم.
أخبرته بلقائي بالشاب من بني إرارة وشجاري معه، ثم ظهور نفس الأعراض علي وما قاله الفقيه علي على أننا مصابان بسحر قوي لا يدري هو من أمره شيئا. ترددت قليلا، ثم بعد تفكير قصصت عليه استنتاجاتي عن السحر الذي أصبنا به.

أصغى لي الرجل بتركيز تام، ثم حين انتهيت مرر يده على لحيته وقال:

«لا حول ولا قوة إلا بالله!»

سقط فك عيسى من الدهشة وقال مرتجفا:

«إذا ما يروى عن بني إرارة صحيح، هؤلاء شياطين لا إنس. لعنهم الله!»

زجره الشيخ:

«لا تلعن يا عيسى!»

«عفوك يا عمي»

ربت على كتفي بعدما رأى دموعي:

«لا تقلق يا بني، سأفعل ما بوسعي لمساعدتك. لكن هل لك الآن أن تذهب وتحضر أخاك، سأنتظرك هنا»

هززت رأسي موافقا فقال عيسى:

«سأرافقك»

**

أثناء الطريق عاتبت عيسى عتابا خفيفا لأنه أخفى عني أن الشيح مات وأن من قابلناه كان ابنه، ابتسم وقال لي:

«عمي الفاروق موثوق، لا تقلق. كان أبوه رحمة الله عليه كما علمت من أمي رجلا من بني إرارة كره عيشهم فخرج من قصرهم برضاه وهام على وجهه هنا في الساحات حتى أشفق عليه شيخنا فأدخله لقصره وآواه.

منذ ذاك اليوم وهو من أهلنا. توارث عن جد جده فك السحر وغيره فقد كانت بني إرارة ممتلئة بالمرضى من هذا النوع، فأصبح تعلم طرد السحر متوارثا لذا لابد أن عمي الفاروق ضليع في هذا الأمر أكثر من غيره. لعل الخير يكون على يديه بإذن الله»

ابتسمت له بضعف:

«ونعم بالله، انتظرني هنا، سأعلم أبي وأخي وأعود لك»

هز رأسه وقال ضاحكا:

«لا تتأخر يا قصير القدمين»

تركته واقفا أمام باب القصر وركضت ركضا نحو دارنا. وجدت والدي جالسا في الساحة يداعب مريم، هب حين رآني وقال بتقريع:

«أين كنت طوال النهار يا ولد! أمك قلقت عليك»

تجاهلت عتابه وقلت لاهثا:

«وجدت الرجل يا أبي، وجدته!»

نهض واقفا كمن لدغ:

«أي رجل!»

قلت بصبر نافذ:

«الرجل من أبو عوام، أين سفيان؟ علينا أن نذهب الآن»

تبعني أبي تاركا مريم في الساحة تحبو من خلفه، يستفهم مني فلا أجيبه. أيقظت أخي من قيلولته ونزعته نزعا من فراشه ثم دفعته بيداي نحو الخارج.

«انتظر يا ولد»

ارتدى والدي جلبابه وعمامته بسرعة ثم نادى بصوت راعد:

«رقية، تعالي وأمسكي أختك حتى تعود والدتك»

خرجت رقية من مخدعها منكوشة الشعر ونظرت إلينا باستفهام لكن أحدا منا لم يقل لها شيئا، وخرجنا ثلاثتنا من المنزل كالإعصار، أبي يعدل عمامته فوق رأسه بسرعة وأنا أجر أخي سفيان الناعس من ورائي. لم يكن يرتدي سوى قميصا وسروالا قصيرا لذا بدا منظره بائسا جدا، لكن لم يكن هناك وقت للتأنق.

عند الباب سلم عيسى على أبي مقبلا يديه ثم انفجر ضاحكا على هيئة سفيان وقال لي:

«هذا أخوك الأكبر حقا!»

قلت بانقباض:

«أجل هذا أخي الأكبر»

توجهنا جميعنا نحو قصر أبوعام، هناك وجدنا الفاروق ما زال في مكانه، تبادل تحية ودودة مع أبي ثم دعانا للدخول، تردد والدي فقال له مبتسما:

«شيخ هذا القصر يكون أخي لذا لا بأس عليكم، تعالوا ولا تخشوا شيئا. إنه يوم عيد ولن يراكم الكثير. تفضلوا»

أمسكت يد أخي فيما تقدمنا عيسى سعيدا بدخولي لقصرهم.

إقرأ أيضا: عندما تُغتال الزهور: الساكورا و التوليب – الجزء الخامس و الأخير

**

لم يكن القصر يختلف كثيرا عن قصرنا في شيء، البيوت نفسها، التراب الأحمر المثير للغبار نفسه، وتصميم الدروب نفسها. ما اختلف شيء سوى وجوه الناس.

قادنا الفاروق لمنزل قريب، أدخلنا الدار ثم أجلسنا في غرفة جميلة الأثاث، مرتبة وتفوح منها رائحة عطر جميل.

أراد أن يقدم لنا ضيافة فاستحلفه أبي ألا يفعل، لأن الوقت يتأخر ويريد العودة للمنزل قبل إغلاق القصر لأبوابه. وافق الرجل على مضض ثم دعاني وأخي لنجلس أمامه.

وضع يديه على رأسنا وقال مبتسما:

«بسم الله»

أمسك أخي سفيان بيده ورماها بعيدا عن رأسه في عنف شديد ثم تراجع حتى جلس بجوار والدي من جديد.

نظر له الفاروق واتسعت ابتسامته أكثر، تركه وشأنه وأبقى يده فوق رأسي ثم أخذ يقرأ علي رقية شرعية. صوت تجويده كان في غاية الجمال، حروفه واضحة ومده طويل. كان أجمل صوت تجويد سمعته في حياتي قط.

تركت الآيات تتخلل لقلبي وتغسل عنه كل هموم الدنيا ثم فجأة وجدتني قد ملت لأقع على صدر الرجل وغبت عن الواقع. لم أستطع فتح عيني ولا تحريك جسمي، كان صدر الرجل دافئ جدا ورائحة الكافور تفوح منه وتشعرني بالارتياح.

ارتفعت زمجرة غريبة من حولي وتبينت صوت أخي يصرخ بانهيار:

«توقف، عليك اللعنة. ما أنا بخارج. سأقتله، سأقتلهما»

لم يحركني الرجل من فوق صدره قط لكني أحسست بيده تتحرك من حولي ودوى صوت أخي يصرخ من جديد:

«دعني، دعني»

شعرت بشيء بارد يزحف على جسمي، بتلك الأظافر الطويلة تنهش صدري. لكني لم أكن قادرا على الحراك قط، كلما تعالى صوت أخي أكثر ازدادت الجروح فوق جسدي أكثر، ثم سقط شيء ثقيل فوقي وفتحت عيناي شاهقا.

رأيت عيسى يجذب سفيان بعيدا عني ورأيت عيني الرجل مسلطتين علي.

«اخلع جلبابك يا بني»

نظرت له متوترا ثم سحبت عن جسدي جلبابي فمد يده ورفع كم قميصي وتغضن جبينه. نظرت ليداي لأجد آثار شد مزرقة فوقها، أصبت بالرعب لذا خلعت قميصي بسرعة لأفاجئ به داميا، لم يكن ذلك وهما! بل حقيقة!

ضم الرجل شفتيه لبعض:

«هذا سحر مشترك!»

نظر والدي إلي ورأيته فكه مشدودا بقوة بينما جحظت عينا عيسى من الرعب.

ربت الفاروق على كتفي:

«مع ذلك يبدو أن لديك مقاومة أقوى من أخيك، هل أنت حافظ للقرآن يا ولدي؟»

أومأت برأسي وقلت مشيرا لسفيان:

«كلانا نحفظ القرآن كاملا. نحفظه مذ كنا في الرابعة عشرة»

«تبارك الله، ما شاء الله»

رفعت يدي نحو رقبتي أمسد عنقي ثم أمام دهشة الجميع انقبضت لأتقيأ دما على حجر الشيخ.

انتفض والدي فأشار له ليهدأ:

«حصل خير، حصل خير»

حدق بي الشيخ من جديد بتحديق تام ثم حوقل، مرر يده على رأسي وقال لي فجأة:

«قلت لي أنك تشاجرت مع أحد بني إرارة من قبل. هل شد شعرك؟ أو مزق شيئا من قميصك وثيابك؟»

مسحت طرف فمي وقلت بهمس:

«لست واثقا، لكنه ربما فعل»

هب أبي نحونا وقال:

«ما بهما ولداي يا سيدي، قل بالله عليك!»

نظر له بجدية وهو يمرر يده على ظهري:

«حسب ما أرى، والعلم عند الله، لدى ولديك سحر مدفون مشترك. لكن لدى ابنك الأصغر سحرين!»

شحب وجه أبي:

«سحران! لماذا؟»

«لا أدري كيف اشرحها لك ياحاج، إنها خبرة متوارثة وبصيرة منحها الله لي. لكن لربما حين رأوا ابنك معافى ظنوا أن السحر أخطأه فكادوا له مكيدة ثانية. مما أرى فهناك مارد يسيطر على جسم سفيان بالكامل ويحاول احتلال ياسين أيضا، وهناك سحر آخر لدى ياسين.

كلاهما سحران مدفونان. وما لم نستخرجهما لن أقدر أبدا على فعل شيء»

تهاويت من جديد فوق صدر الرجل فامسكني بيد شديدة وبكل حنية.

سأل أبي بجزع أكبر

«وأين سنجد هذا السحر؟»

«السحرة قاتلهم الله يلجأون لدفن السحر في المقابر، علينا البحث فيها»

صمت للحظة ثم أخفض رأسه:

«لكن إن كان ما قاله ياسين صحيحا، فالسحر مدفون في مقبرة واحدة.. »

همست بضعف:

«مقبرة إرارة»

**

شهق عيسى، في حين تجمد أبي في مكانه. إن كان الدخول للقصور ممنوعا فكيف بنا نصل لمقبرتهم ونبحث فيها؟

اغروقت عينا والدي بالدموع:

«حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل»

اشتد الألم في معدتي فتقيأت مجددا، في حين مضى والدي يحسبن ودموعه تبلل لحيته.

قال عيسى مرتجفا:

«إن أردنا الوصول للمقبرة والبحث فيها فلن يحصل ذلك قط إلا إن اقتحمنا قصر إرارة غصبا…هذا..هذا سيؤدي إلى حرب!»

«حسبي الله ونعم الوكيل! دفعت لنا مالهم، تحمل ولداي الجلدات لكن لم يكفيهم هذا! حسبي الله فيهم، حسبي الله»

زم الفاروق شفتيه بصمت ثم قال:

«أعتذر منك يا حاج، قصدتني فخيبت مسعاك. لو بيدي فإني أفديك وولديك بمالي وأهلي. سأرقي ولديك من جديد لعل الله يخفف عنهما بعضا مما فيهما، لكن يؤسفني أني لن أستطيع فعل شيء ما لم نجد السحر. أعتذر منك حقا، إني خجل منك»

إقرأ أيضا: صراع العروش .. الجزء الخامس

هز والدي رأسه نافيا:

«جزاك الله خيرا يا سيدي»

لم يضف على هذا شيئا كأن الكلمات احتبست في حلقه، وازادادت غزارة الدموع النازلة من عينيه. نظرت إليه بفمي الدامي الفم، ثم نظرت لأخي المغمى عليه قرب قدمي.

سمحت لنفسي أن أغمض عيناي في حجر الشيخ، من ذا الذي سيمسح لنا بدخول القصر وإقامة حرب! حكم علينا بالموت ببطء، حكم علينا بهذه المعاناة للأبد، تذكرت عيني المرأة المخيفتين وابتسمت بإنهاك، هذا هو ألم قلب الأم، ألم قوي في سبيله تحرك أقوى المردة والجان.

ازداد الألم في معدتي، وتعالى صوت الشيخ يقرأ علي من سورة ياسين.

« إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»

وتركتها، تركتها في يد الذي يحي الموتى فمن ذا الذي يتولاها غيره، بينما داخلي يصرخ مستغيثا:

«إرارة، افتح لي أبوابك»

انتهى..

**

حملت كوب قهوتي وتوجهت نحو النافذة أحدق بصمت في السيارات التي تزمجر من تحتي.

من السهل جدا أن أقيم حربا وأنقذ هذين الاثنين، لكني أردتهما أن يغرقا في هذا اليأس للأبد، يأس رجل عندي ألذ من أشلاء الآف البشر. يأس الرجل له نكهة لذيذة جدا…جدا.

رفعت بصري للسماء وابتسمت.

لكن مع ذلك لدى ياسين أمل قوي جدا، أمل أقوى مما قد أعطيه له أنا ككاتب. لدى ياسين ما افتقدته أنا، لديه الإيمان.

قهقهت بقوة؛ كتبت على الهامش كل حوادث المقبرة المخيفة، كتبت تلك الحرب الضخمة وسطرت موت ياسين. من أين تلبستني هذه الرحمة! لست أدري، لكني واثق أنها أغرب قصة سحر أسود أكتبها في حياتي.

لمع قوس المطر في السماء الصافية فحدقت به مطولا وتذكرت كلمة يونانية «الإريديوم!»

ارتشفت من قهوتي وابتسمت من جديد، لعلي هذه المرة أكتب قصة سحرية مختلفة جدا، قصة بطلها قوس المطر… قصة عن الإريديوم!

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

رنا رشاد

المغرب
guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى