أدب الرعب والعام

عند إشارة المرور

1-

كان تقاطع الشارعين خاليا ، فارغاً – بارداً و رطباً ، سقطت الأمطار في الليلة الماضية فأغرقت الشوارع .
تسللت رائحة الطعام إلى أنفي من مطعم راق في نهاية الشارع ، بينما تقرقر بطني مستنجدة ، كانت تلك الرائحة كنفحات من الجنة .
كنت فقط أجلس في الطرقات أتسول اللقمة و آخذ ما جاد به الطريق للبيت هكذا أفعل اليوم و كل يوم .
قابلت السيد صلاح ذات يوم صدفة في أحد إشارات المرور . أوقف سيارته البيضاء الفارهة و المصقولة ، فتح نافذتها و أشار إلي :

” تفضل أيها الصغير “

أخرج كيس متوسط الحجم و دفع به إلي ، تناولته بلهفة ، أردت شكره لكنه كان قد اغلق النافذة ، و غادر . كان هذا لقائي الثاني معه .
تفقدت ما جاد به الرجل علي ، كان مطبوعا على الكيس التاج المشهور لعلامة مطاعم الملكة – كان طعاما فاخرا كطعام الملوك بالفعل ، كان هناك لون من كل نوع ، في الشارع عادة احصل على سندويشة واحدة يتصدق بها أحد الطيبين ، لكن اليوم هذه وليمة .
بعد ذلك كان السيد صلاح يأتي على فترات متباعدة ، و كان دائماً ما يأتي لي بالطعام ، حتى أنني حفظت شكل أرقام لوحة سيارته البيضاء ، و سألت رفيقي موسى ذات يوم بعد أن رسمت الأرقام على التراب ، فقال: ” الرقمان المتشابهان هما سبعة ، اي لدينا سبعتين يا أسمر “
نظر الى موسى و أكمل ” هذا هو الرقم أربعة و ستة “
لم أدخل المدرسة قط ، لكن كنت أعرف أن الواحد عبارة عن عصا مستقيمة ، و كذلك أعرف الأثنين و الثلاثة ، لكن أرقام لوحة السيد صلاح لم تكن تحمل اي رقم أعرفه ، لكنني حفظتها .
منذ أن كبرت و أنا في الشارع ، نتنقل من مسكن الى آخر أنا و أشقائي و عادة ما نبقى في الشارع لعدة أيام ، أحيانا أشك أن جدي العاشر كان متسولاً – متسخاً و مشرداً .
كُنت و رفيق الدرب موسى نتشاجر على أبسط الأشياء ، و نضحك على أتفها كذلك ، في إحدى المرات كانت الرياح قوية و تُمطر تراباً ، و أثناء جلوسنا ذلك رمى أحد الأشخاص علينا ورقة عشرة جنيهات ، كانت جديدة ، خضراء – و تلمع ، قفز موسى من مكانه :

” إنها لي “

” يا حيوان ، كان الرجل يقصدني أنا “

و ركضنا خلف ورقة العشرة جنيهات ، كانت الرياح تلعب بها لأعلى و أسفل ، يمنة و يسُرة ، كانت الورقة أسرع منا ، حتى أنها في لحظة ما إختفت بين الغبار و ذرات التراب .

زمجر موسى :

” أمسكها ، أمسكها أسمر “

” ها هي ذي “

في لحظة ما إقتربت منها و كدت أمسك بها ، لكن قبضة موسى الكبيرة و الطويلة سيطرت عليها بكل سهولة ، ما حدث هو أنه ضربنا بعضنا ، تعاركنا لساعة كاملة ، كان الهواء يدفعنا ككرة ضلت طريقها ، بعد أن شعرت بالتعب إقترحت على رفيقي : ” سنقتسمها “

” موافق “

كان لا يزال موسى ممسكاً بالعملة و لا أثق به ، من الممكن ينزلق من بين يدي . لذلك قبضت على ثيابه جيداً كلص .

قال موسى : ” سنشتري سندويشة و نقتسمها “

دفعته : ” إمشي .. فقط إمشي “

توجهنا لكشك الطعمية ، وقفنا أمام العم متحمسين ، كانت قطع الطعمية تتعذب على صاج كبير ملئ بالزيت ، و ياله من عذاب و رائحة ، تمنيت فقط أن أحصل عليها جميعها ، كل قطعة ذهبية و حارة في هذا الصاج أريدها من نصيبي .
بإندفاع فكّ موسى ورقة العشرة جنيهات من يده ، و كانت قد سُحقت ، دمرها الغبي بقبضته الكبيرة ، إختطفتها من يده محاولاً مطها – فردها و تحسينها ، ثم دفعت بها للعم . تفحصها و غمغم :

” ويحكم “

” ليست ممزقة ، أو مثقوبة ” تداركت

” هذه الورقة لم -“

” لا … لا … إنها بحالة جيدة ” رددت مدافعاً عن غنيمتي
” بني ” قال العم بنفاد صبر : ” تم تغيير العملة ، ورقة العشرة جنيهات لم تعد صالحة “

” العاهرة “

” ليس هذا فقط ” أضاف العم : ” الآن أصغر عملة هي ورقة الخمسون جنيهاً ، و سندويشة الطعمية الواحدة بخمسون جنيه “

شعرت بالرياح باردة تحرق جلدي ، ألم يكن بإمكان ذلك الأحمق الذي غير العملة أن ينتظر قليلاً فقط .
بعدها لاحت شبه حقيقة على عقلي ، واقع حتمي ، و هو حتى و إن كانت ورقة العشرة جنيهات صالحة لا تكفي لسندويشة واحدة ، تبادلنا النظرات أنا و موسى ، ثم إنفجرنا في نوبة ضحك ، لقد ذهب عراكنا سدى .
كان هذا العراك الوحيد الذي إنتصرت فيه على موسى ، لكن دون جدوى ، كانت الورقة التى تشاجرنا لأجلها ساعة كاملة ليست صالحة ، ها هي ذي موجودة في يدي لكن لا تفي بالغرض – لم تكن تعمل كقلب أمي .

تذكرت ما قاله لي السيد صلاح ذات يوم ، قال : ” انت غني يا أسمر ، و لكنك لا تعرف هذا “
قال ذلك بينما كان يعبث بهاتفه ، ثم نظر لي مسافة حتى ظننت بأنه لن يخفض عينه ، و أردف :
” الثروة الحقيقية هي في القلب ، و يا أسمر أنا أعتقد أن الثروة الحقيقية هي الزمن و القلب معاً “
ضحكت ملئ شدقي ، انظروا ما يقوله المليونير و صاحب سلسلة مطاعم ذا كوين . ماذا أفعل بساعة ثمنها آلاف الدولارات ؟ ماذا تعني لي أنا المشرد و البائس الدقائق و الساعات ؟ ماذا أفعل بالزمن بينما قلبي معطوب .
سألته مجدداً ” ماذا أفعل بقلب هو بحاجة لصمام ؟ ما فائدة قلب معطوب بحاجة للإصلاح بملايين مؤلفة ؟ هاه ؟ أجبني ؟ “
شعرت بها ساخنة تحرق عيني ، كنت اعلم انها المرة الاولى التى تسيل فيها دموعي ، لا أذكر متى بكيت ، أنظروا ما قاله هذا الثري ، صاحب سيارة برادو ، و بيده آيفون 11 أو هو آيفون 13 ؟
يومها هربت من السيد صلاح و تحاشيت الذهاب الى تقاطع الشارعين .
تهربت منه شهراً كاملاً ، كانت مشاعري تجاهه مختلطة ، كنت أكرهه ، حتى أنني تمنيت ذات يوم أن يفلس و يصبح فقيراً مثلنا و موسى ، مثل المعدمين و الفقراء ، مثل كل متشرد – ليعيش السيد صلاح صاحب مطاعم ذا كوين في الشوارع ليشعر بما نشعر به .
عشنا في بيت رطب ، أكل العفن جدرانه ، و كان المطر المنهمر يهطل من السقف كل ليلة و كل خريف ، لم يكن سقفا بل كان شبه سقف – به فتحات من كل الجهات ، كنا نغطى تلك الفتحات بأكياس النايلون و قطع الكرتون ، سرعان ما تبتل و تسيح .
كانت أمي تعمل في صناعة الصابون ، تصنع الصابون في البيت ، و تبيعه ، كان يكفي لمصاريف البيت ، كنت أساعدها في البيع ، بينما كان شقيقاي يذهبان للمدرسة ، بضعة سنوات ثم تغير قدرنا جميعاً ، عندما مرضت أمي .
إرتحلنا من ذلك البيت المتاهلك الى مبنى غير مكتمل البناء ، هو عبارة عن عدة طوابق ، سقف فقط لا توجد جدران كان ملك أحد الطيبين ، الحمد لله لن نغرق في الخريف ، كان كل المبنى ملكنا وحدنا .
بقيت فقط مشكلة الصمام – قلب أمي ، معدن باهظ الثمن . لي ثلاثة أشهر و انا لا أستطيع النوم ، صرت هذيلا أكثر مما كنت ، بت شارداً ، أتراه يذكرنا ؟ صنعت لقاءات كثيرة في خيالي مع أبي ، حيناً أتخيله يدخل علينا بيده كل خيرات العالم ، و مرات أخرى أحلم به يتفقدني و أخوتي ليلاً ، أراه و هو يسدل غطاءاً علينا ليدفئنا من عواصف الشتاء – لكن عندما أفتح عيني أرى مكاناً فارغاً ، أربعة أطفال دون الثانية عشر و أم تنازع الموت ، عندما أتفقدني و إخوتي يسكت عقلي ، تنتهي كل أحلامي ، أجدني صامت ، بائس و عاجز ، غارق في الخريف ، و متروك في المنتصف عند تقاطع شارعين .
بت أتجول فقط في الشوارع حتى إلتقيت موسى لم يكن كالبقية ، كان أكبر مني بثلاثة أعوام ربما ، كان شجاعا و ليس مثلي ، يقول ما ينوي قوله مباشرة ، لذلك أصبحنا رفقة .
إقترح علي ذات يوم :
” أسمر ، لماذا لا تطلب من صاحب السيارة البيضاء ، أن يعالج والدتك ؟ “

” إسمه السيد صلاح “

” لم لا تطلب منه مالاً ، الرجل غني ، و أقسم بأنه أحد رجال الأعمال المشهورين “

” موسى ، لا أحب مناقشة هذا الموضوع ، في الحقيقة المواضيع التى ليس لها حلول لا أناقشها أبداً “

أدار عينيه لأعلى : ” ستشاهدها و هي تموت ، ستكون متفرجاً فقط ؟ هكذا – “

لكمت موسى على وجهه و وجهت له عدة ضربات طرحته أرضاً .

” توقف “

لكمته مجدداً ، بعدها تدحرجنا على الرصيف ، و نحن نمسك بتلابيب بعضنا . كِلانا يضرب الآخر .
لم أدر كيف إنفك موسى من بين مخالبي تلك الليلة . فقط وجدتني أغالب دموعاً تأبى أن تنزل ، صرخت بصوت عال رافعاً رأسي للأفق ، أعتقد أن صوتي سافر بعيداً ، ربما سمعه أبي ، أو رواد مطعم ذا كوين ، أو ربما السيد صلاح .
كانت الأيام تمر سريعاً ، و كان وضع أمي يزداد سوءاً ، بدأت بصناعة الصابون في المنزل ، إتخذت من الطابق العلوي مقر لصنعتي ، في البداية فشلت ، تطلب الأمر مني شهراً كاملاً حتى أجدت الصنعة ، كنت أُسوقها كما تفعل أمي ، كنت أبيع للزبائن مباشرة ، لقد غطت جزءاً من معيشتنا ، و ليست كافية .
أضطررت أن أرضخ للحياة ، و قررت أن أطلب من السيد صلاح مالاً ، مليون واحد لن يؤثر على ثروته ، هو رجل طيب .
لقد إلتزم لعام كامل أن يجلب لنا العشاء أنا و موسى من مطعمه الفخم ، لقد تكفل هذا الرجل بوجبة أسرتين أستمر بإحضار الطعام كل يوم على مدار الأسبوع ما عدا أيام قليلات لسنة كاملة ، كان يقول بصوته الهادئ :

” أنتم مثل أولادي “
كان دائماً ما يردد بأنه سعيد بفعل ذلك ، الجميع يفعل الخير و لكن من يستمر به دون كلل ؟ فقط السيد صلاح لا أحد آخر .
أتمنى أن تعود أمي كما كانت .

و في ذات مساء ، كانت إشارة المرور مُعطلة ، متوقفة على اللون الأخضر و تومض برتابة ، قدِم السيد صلاح ، وصل كالعادة بسيارته و كانت تلك العربة تشدني في كل مرة بنظافتها و لمعانها ، لم يأت سريعاً ، كان يتأنى ، كنت أراقبه من خلف الزجاج ، لقد كان بالفعل يتلكأ ، إلتقت نظراتنا لثانية ، ثم أشاح كل منا ناظريه عن الآخر ، بعد برهة فتح باب عربته و نزل ، بدا مرهقاً و متعباً ، ألقى التحية و طلب شايه المعتاد ، ثم تمتم : ” تشاجرت مع زوجتي “

” يا للعجب “

رفع السيد صلاح حاجبيه لأعلى و أردف : ” لقد طلبت خمسمائة ألف من أجل تصميم ثوب “

” ليس مبلغ كبير بالنسبة لك لم لا تشتريه لها ؟ “

” نفس الثوب معروض في مكان آخر بمائة ألف فقط و في كلتا الحالتين لن أشتريه “

سألت : ” عناداً بها ؟ “

” لا “
شعرت بأنه لا يريد الحديث عن زوجته فقررت ان افتح له موضوع أمي ، على أمل أن يساعدني ، كنت آمل أن تعيش أمي لعام آخر و أعواماً عديدة ، ليت كل الأمهات يبقين ولا يغادرننا مطلقاً ، ليعشن الأمهات الحنونات للأبد من أجل الأبناء فقط .

” سيد صلاح “

” نعم “

أجابني مشجعاً ، ثم أخذ رشفة من كوبه .

” قلب أمي يزداد سوء ، قال الطبيب بأنها تنهار “

نقل السيد صلاح بصره ناحية الشارع

” ليتك تساعدني ، لندعم قلبها بصمام “

أحسست أن هناك شئ كسر بداخلي ، لكن إعتصرت ما بداخلي .
إستمر السيد صلاح بالنظر للبعيد دون إبداء أي ردة فعل و دون النظر إلي ، كان جامداً لعدة دقائق ، بعدها تناول مفاتيحه و غادر بصمت – هل أخطأت ؟

” أنا آسف … أعذرني لقد تماديت – “

” لا بأس “

” ليت لساني إنقطع … أنا أعتذر لقد أحرجتك …”

خانني التعبير و إنطلقت شهقة من جوفي : ” و أنت …. أنت …لم تقصر في حقنا يوماً “

كانت هذه آخر مرة أراه فيها ، بعدها إبتعد عنا و ذهب ، منذ ذاك اليوم لم نعد نرى السيد صلاح ، و لم نعد نرى كذلك المساءات الهادئة عند تقاطع شارعي المك نِمر و البلدية – أنا عن نفسي لم أعد أرى أي شئ منذ ذاك اليوم .

2 –

كان جدول صلاح مزدحماً ، كان يسابق الزمن ليلحق بكل ما حوله ، و كلما إقترب من خط النهاية ، كان يبدأ من جديد ، من الصفر .
كان مهدداً من كل الجبهات ، كانت الحياة تخنقه ببطئ ، ببطئ كان ينتهي عالمه .

” التدلى تحت أنشوطة ربما يكون الخلاص “

هكذا قال السيد صلاح للصغير أسمر في أحد الأمسيات ، و ضحك الطفل ملئ شدقيه ، ذاكراً أشياء من قبيل ” الأغنياء لا يتدلون من حبل “

تمتم بشفتيه الصغيرتين بينما كانت عيناه تلمعان :
” سيد صلاح ، يتدلى من حبل فقط ربما أصحاب السقوف المثقوبة ، تلك التى تُشبه المصفاة “

حدق للبعيد متحدياً و أردف

” ليسوا بحاجة لأنشوطة ، رأسمالهم سُحب خريف مدلهمة “

كانت رفقة ذلك الولد هدية بالنسبة له ، لقد فتح ذلك الصغير عينيه لأشياء لم يكن يراها ، أمور لا تلحظها بعينيك ، يشير أحد ليس من عالمك إليها فتشعر بها هناك في دواخلك – يذهب خوفك ، و جذعك ، تكون راضياً عن كُل المآسي و الآلام ، كانت حكايات أسمر في ليال يونيو الخانقة ، عند إشارة المرور كتهويدة ساحرة ، كان يرى همومه و مشاكله كحبات رمل صغيرة ، تافهة و غير مرئية . كان يشهد إنهيار سلسلة مطاعم الملكة و إنهياره ، كانت نهايته كأنها نهاية شخص آخر ، قصة قصيرة يحكيها العجائز في صباحات مُهملة عن غريب فقد كل ما يملك ، قصة مملة هذه ، و إن سألته قبل أشهر سيجيب بأن الحل هو أنشوطة و السلام .

قلق علي أسمر بإختفائه لشهر ، ليست من عادته .
كان مساءاً هادئاً عندما قابل أسمر أول مرة ، أوقف سيارته أمام بائعة الشاي ، و طلب كوب شاي بالنعناع مع بسكويت رويال ، لبت الحاجة زينب طلبه سريعاً ، كان هاتفه في يده يعبث به ، و بسرعة البرق إختفى الهاتف من بين يديه ، شخص ما خطفه .

” توقف”

كان يركض سريعاً .

عرف أنه لن يلحق به لذلك إتجه نحو السيارة و لاحق السارق بها ، زقاقين بعد ذلك و حاصره . كانا طفلين ، أمسك صلاح بعنق الأصغر فيهما ، السارق .

قال : ” يا عديم التربية “

أنتزع الهاتف منه ، بينما كان الطفل الآخر يترجى و يطلب الرأفة :

” كنت أنا يا عم …”

” لا تغطي عليه “

ضرب صلاح الحائط بقبضته و قال : ” أنت الآن تفعل شئ أسوأ من السرقة ، إياك “

” لقد كانت فكرتي … أقسم لك “

كان الطفل الصغير ، يرتجف تحت قبضته ، فأرخى يده من على عنق الطفل ، خشي أن يراه شخص ما و هو يعنف طفل شوارع ، سأل موسى :

” هل تغطي عليه دائماً ؟ “

أجاب أصغرهم : ” هو من طلب مني أن أسرقك ، أخبره يا موسى “

تبادلا النظرات اليائسة ، بالفعل كان موسى هو القائد ، لكن السرقة نفذها أسمر و كانت فكرته ، عرف هذا من نظرة عابرة .
كان أسمر كاذب كبير، بل محترف ، كما أنه غير مسؤول ، و هذا ما أثر على قراراته لاحقاً بشأنه.
بعدها صادف الطفلين معاً كثيراً ، كان يراهما دائماً يتسكعان ، يتعاركان و يضحكان ، عند التقاطع ، في الليالي الماطرة كانا يلهوان ، كأن العالم يلتف حولهما و بهما ، كانت تلك أيام الطفولة ، تعيشها لدقائق بعدها تذهب و لا تعود ، كان أسمر هو سيد هذه الحكاية ، و إن كان صلاح عرافاً يقرأ المستقبل ، سيتنبأ أن أسمر سيكون رجل زمانه – إذا و فقط وقف القدر معه . و بطريقة أخرى و أكثر منطقية ، إذا صار أسمر مسؤولاً – إذا تعلم الصغير ، فبالأخير الشوارع تعلمك الكثير ، لكن ليس ككثرة المعرفة و العلم – ليست مثل كثافة الكتب .

لا يحب صلاح الحديث عن أمواله ، ومن يفعل ؟ لعام كامل كان على وشك الإفلاس حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأصول لعدة مرات و فشل ، بل غرق في ديونه أكثر ، و عندما عجز ، ترك الحياة تلقيه كيفما تشاء . إكتفى فقط بالجلوس في الطرقات .

كان هذا اليوم الاخير لعمل سلسلة مطاعم ذا كوين تحت إمرته ، كان إنقاذ الملكة مستحيلاً ، كانت واجهة المطعم المُطلة على شارع المك نمر ، مكتظة ، كذلك داخل المطعم ، كان هذا العالم الذي إعتاده مختلفاً ، كان الناس سعداء يقهقهون ما عداه .

إختار الزاوية البعيدة بإنتظار سجانيه ، بصبر إنتظر المساهمين ، طلب عصير ليمون من دون سكر ، أراد ان يشعر بالمرارة ، أراد لكل خلية في جسده أن تشعر .
جائوا كجنود إبليس ، أعضاء الجمعية العمومية زائد واحد المراجع ، ألقوا بآخر الأوراق أمامه ، كان ذلك عقد التنازل عن العلامة التجارية ” التاج ” و سيارته .

لم يرد أن يمنح أعداءه اي إنتصار ، أمسك بالقلم ووقع سريعاً ، تجرع آخر قطرة من عصيره الحامض و كان طعمه مر كالعلقم ثم قال :

” السيارة سأُسلمها غداً “

ثم توجه ناحية المطبخ ، كان كبير الطهاة رفقة مساعديه منهمكين في عملهم توقفوا و إصطفوا حالما رأوه ، إبتسم لهم ثم قال :
” لسنوات كنتم المحركين الأساسيين لهذه العلامة ، في بعض المرات كنت قاسياً ، و لكن كل ذلك كان من اجلنا جميعاً و من أجل سمعة العلامة “

همهموا بصوت خفيض ألا تبالي .

” هذا آخر يوم لي كمالك للسلسلة ، ما أريده منكم هو تستمروا بمستوى أعلى و أفضل “

نبه مشيراً بيده

” آمل أن تتعاونوا مع الملاك الجدد و تمدونهم بكل ما يحتاجونه ، و السلام عليكم “
بدا الحزن و الحسرة على فريق الطهي ، و عم الصمت ، بينما كانوا يطأطئون رؤوسهم ، قطع هذا الصمت كبير الطهاة :

” هل أُعد لك طلبك المعتاد ؟ “

أجاب صلاح :
” شكراً شيف ، أُفضل أن أعده اليوم بنفسي ، أساسا كُل شئ جاهز ، شكراً لك “

إرتدى القفازات و بدأ بإعداد وجبة أسمر و موسى الأخيرة ، وضع فيها قطع دجاج اكثر من المعتاد ، و كُل شئ كان اكثر من كل مرة ، كانت الوجبة حلوة و فخمة ، و أثناء ذلك كان عليه أن يفكر كيف يخبر الطفلين أن الوجبة ستنقطع ، أحس بألم عميق يشق صدره – الشتاء قادم و الليل طويل ، سيجوع الطفلان كثيراً ، غمغم مُحدثاً نفسه :

” الله كريم ، الله كريم “

سيشرح لهم أولاً وضع سلسلة المطاعم بهدوء سيتفهمون ، ثم يخبرهم بأنه لم يعد قادراً على إطعامهم ولا من اى مكان .
لن يعلم الأطفال بأنه صار مفلساً ، لأنهم كانوا يعقدون آمالاً عليه ، أشياء وعدهم بها تبخرت الآن .
أقبل إليهم وهو يحمل هم الدنيا على كاهليه و يُمسك الوجبة و يحتضنها بكلتا يديه .
سلمهم الطعام و إستراح في كرسيه ، ثم شرد بعيداً ببصره يراقب إشارة المرور المُعطلة و هي تومض برتابة ، عندها قطع أسمر الصمت .

” قلب أمي ينهار و هي بحاجة لصمام “

بقيت الجملة مُعلقة في الهواء لثواني ثم تبخرت ، هرب تفكيره بعيداً ، إنعقد لسانه ، تناول مفاتيحه و رحل .

****
الآن تفصل صلاح آلاف الأميال عن أسمر عندما رن هاتفه و أجاب :

” مستر ؟ “

” ذلك الولد الذي سجلته عندي في المدرسة “

علق صلاح حاثاً محدثه على الإكمال :
” نعم ؟ “

” أسمر ، ذلك الولد المزعج ، طلب أن يحدثك “

قبض صلاح على الهاتف و كاد يسحقه :

” أعطنيه “

جاءه صوت أسمر و كان هشاً و ضعيفاً :

” يا سيد صلاح ..”

تنهد الصغير و صدرت عنه أنّة

” لا أريد الدراسة ، أنا بحاجة للمال … من أجل أمي ، أرجوك يا سيد … أنا لا أريد المدرسة أعطني المال الذي دفعته للمدرسة … من أجل القلب “

“أسمر “

” أولئك الأولاد المتأنقون متعجرفون ، أنا أنتمى للشارع و ليس للملكة – أنا أكره هذه المدرسة .. هذه المدرسة المُترفة تكاليفها باهظة كالقلب …الوقت ينفد من أمي “

” يا صغير .. ” قال صلاح بهدوء :
” لم أدفع للمدرسة ، أنت تدرس مجاناً ، أنا مُفلس “

” لا … لا .. “

كان هناك نحيب طويل ، بينما تردد صوت المستر و هو يهدئ أسمر و يأخذ الهاتف منه .

” إسمعني ” قال صلاح للرجل : ” آمل أن تعيش والدته كثيراً ، أتمنى ألا تقسو الأيام عليه ، إنه وحيد – لا تتخلى عنه ، لكن عندما يحدث الأمر ، إبق معه ، أمسك بيده من بعدي ، كنت جباناً عندما لم أصارحه ، أنت رجل طيب “

النهاية .

guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى