أدب الرعب والعام

غير قابلٍ للكسر

الفصل الأول

1

” لقد كان مجيئك مجيء السّلام لقلبي”

عمّار

أولج المفتاح داخل ثقب الباب ليفتحه . دخل إلى الشقة الصغيرة التي تسلّلت إليها خيوط ضوء الصباح عبر زجاج نوافذها المغلقة . خطى نحوها وفتحها واحدة تلو الأخرى ليتيح لضوء الشمس أن ينشر ضياءه الساطع ويغمر بدفئه المكان . أطلق ابتسامة راضية وهو يخلع سترته التي علت بدلة العمل الزرقاء المبقعة . جال ببصره من حوله مراقبا الغرفة القائم في وسطها . فكر أنه لم يتبق له غيرها ويكمل طلاء الشقة التي أخذت منه وقتا ناهز الأسبوعين . وأخيرا سيعود لروتين حياته الطبيعي . وفور أن يقبض أجرته نهاية اليوم و التي ستكفيه لشهر على الأقل، سيلبي نزوته التي تلح عليه منذ أيام قلائل . شاعرا بالرضى فتح أحد دلاء الطلاء التي أمامه وهو يغمغم : ” استعنا على الشقاء بالله ” .

فريدة

سارت نحو السيارة بخطى متثاقلة بعد أن ألقت نظرة أخيرة على البيت الكبير ذي الحديقة المسيجة الجاثم خلفها . جلست بالمقعد الخلفي بمحاذاة شابين يبدو أنهما في العقد الثاني من العمر. كانت علامات الوجوم والحزن تكسو ملامحهما كما هي حالها . مدت يدها لتربت على يد الأقرب إليها مغمغمة أن قدر الله وما شاء فعل . طرق صوتها أسماع الرجل الكهل الجالس بالمقعد المحاذي للسائق، فحانت منه التفاتة نحوها، التقت فيها نظراتهما لوهلة قبل أن تكسرها وتشيح ببصرها نحو نافذة السيارة كابحة جماح دمعات تكاد تفر من عينيها . أطل الكهل من النافذة ليشير لسائق شاحنة قريبة أن تتبعهم . أطلق بعدها كلمة مقتضبة لسائق سيارة الأجرة لينطلق . تحركت السيارة لتبدأ المسافة بينها وبين البيت تتوسع ثم يغيب تماما . هب نسيم عليل لفح وجه الفتاة فندت من عينيها دمعات سرعان ما مسحتها بطرف حجابها، وراحت تراقب الطريق شاردة لدقائق طويلة . لم يقطعها إلا صوت أخيها الأصغر :

– لقد وصلنا يا فريدة .

عمّار

وضع فنجان القهوة على المائدة التي أمامه ثم تناول الكتاب الذي عليها . اعتدل جالساً على أريكته المفضلة ثم فتحه على الصفحة الأولى . كان شوقه لقراءته والغوص ببحر كلماته قد جعله لا يأبه لتلك الدولارات القليلة التي ابتاعه بها، فهي بنظره لا تفي حقه .هو تحفة جديدة سيضمها لمكتبته الضخمة التي احتلت إحدى حوائط الصالة بأكمله . ويضعها على الرّف الذي خصصه لدوستويفسكي بمفرده .

لم تكن سعادته في تلك اللحظة توازيها أي سعادة أخرى، باستثناء تلك الأوقات النادرة التي يقع فيها على اكتشاف كهف بجبل ما أو غابة متوارية عن الأنظار في بعض رحلاته الشهرية وسط المناطق الطبيعية .. خاصة تلك الجبلية منها حيث كانت مناسبة للاستكشاف والصيد . كان لا يقطعها إلا لأسباب قاهرة .فهو يرى أن تلك الأشياء البسيطة التي يملأ بها حياته هي ما يضفي نكهة البهجة عليها. ويحرره من عبء الشعور بالوحدة . وِحدة اعتنقها تقريبا لولا شلّة أصدقاءه التي تأتي لزيارته بين اللّيلة والأخرى. منذ السطر الأول اندمج مع الرواية كليا؛ حتى إنه نسي قهوته التي بدأت تبرد . و لم ينتبه لصوت هدير الشاحنة القوي الذي علاَ قبل أن تركن أمام باب بيته .

اقرأ أيضا : سطور أضاعت وجهتها

فريدة

عقدت منديلاً على رأسها وباشرت العمل بجد، لم يكن تنظيم الأثاث بالبيت الجديد بتلك السهولة .طلبت مساعدة أخويها فاكتفيا بترتيب غرفتهما . أطلقت تنهيدة عميقة وقررت البدء بغرفة والدها أولا قبل عودته من الخارج ليرتاح فيها . ثم ستنتقل إلى المطبخ وتترك الصالة وغرفتها لليوم الموالي . كان من حسن حظها أنها أتت منذ يومين لتنظيف البيت قبل جلب الأثاث إليه والا لكانت تكبدت عناء أكبر . انتبهت فيما كانت ترتب الثياب والأغراض داخل خزانة أبيها لألبوم الصور القديم، تصارعت مع ذاتها لبرهة قبل أن تعدل عن فتحه . كانت تعرف أنها إذا فعلت ستنكأ جراحا طرية لم تلتئم، فنار الحزن المتأججة في قلبها لم يخف سعيرها بعد . سارعت لتوضيب كل شيء وأغلقت الغرفة . سارت باتجاه المطبخ فصادفته بطريقها، تفاجأت به إذ أنها لم تسمع صوت انفتاح الباب الخارجي . كان ممسكا بأكياس تحمل طعام العشاء . مدت يدها بصمت لتحملها مشيحة ما استطاعت بنظراتها عنه . دفعها إليها برقة كست ملامح وجهه وملأت نبرة صوته قائلاً :

_ سامحيني يا ابنتي .

_ لاتكلف نفسك فوق طاقتها يا والدي .بل أنت سامحنا لأننا لم نتقبل الوضع الجديد بصبر وقناعة .

قالتها مغالبة دموعا أبت إلا أن تنسكب على وجنتيها، ثم استسلمت ليديه اللتين طوقتاها بحنان . كانت تعلم أنه ما من حيلة بيده. فاضطراره لبيع البيت الكبير التي عاشت فيه ربع قرن هو سنوات عمرها .. كان مرده الديون الذي تراكمت عليه بسبب مصاريف علاج والدتها الباهظة ومن ثمّ موتها . وما خسارته بتجارته إلا تتمة لما جادت به عليهم الأقدار من نوازل جعلت مآلهم بيتا بسيطاً بحي شعبي عتيق .

عمّار

وضع كف يده اليمنى على فمه ليغطي اتساعه من فرط التثاؤب الذي لم يبرحه منذ نهض من النوم . كانت حينها الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا عندما أغلق باب بيته ليتجه ناحية الدكان ليبتاع ما يسد به رمقه. فقرقرة أمعائه عند استيقاظه جعلته يفطن أنه لم يتناول شيئا منذ غداء الأمس، تلك كانت عادته حين يندمج بقراءة شيء ما حد انفصاله عمن حوله . لفت نظره وهو يسير انفتاح الباب المقابل لبيته، لتطل منه فتاة متوسطة الطول نحيفة العود، جميلة السحنة، تغطي رأسها بحجاب أسود . غمره العجب وهو يراقبها تتقدم بنفس اتجاه سيره، فحسب ظنه كان ذاك البيت حتى الأمس خاليا من السكان، متى أصبح مأهولا؟. كذلك سأل نفسه وهو يمشي متابعا لها بعينيه ليتوقف كلا منهما عند بقالةِ الحي والذي يملكها العم رشيد والد كريم أحد أصدقائه المقربين . كان الأخير يوضب السلع حين بادرته الفتاة بصوت رخيم طالبة حاجتها، لمح عمار فألقى عليه التحية وطلب أن ينتظره لدقائق . استغلها الآخر لمراقبة الفتاة عن كثب، كان لا يعرف سر اهتمامه السريع بها . لكنه أدرك في قرارة نفسه وهو الذي خبِرَها جيدا أنها لن تمر مرور الكرام في حياته .
 

فريدة

لفت نظرها فور أن صافحت عيناها عيناه للحظات وهي تستعد لترك البقالة . تظاهرت أنها لم تنتبه لمراقبته لها منذ مغادرتها لمنزلها .تملّكها الحرج وهي تشعر أن نظراته تكاد تخترقها أثناء مرورها بجانبه . حثت المسير بقلب متوجس، فالحياة علمتها ألا تثق بأحد وأن تحسب لأدنى شيء ألف حساب . وصلت عند باب بيتها فتحته واندفعت إلى الداخل بسرعة ثم أغلقته . تنفست الصعداء ثم تقدمت نحو النافذة واسترقت نظرة للخارج من خلف الستائر . هناك رأته.. يحمل كيساً بيده ويتقدم ليفتح باب المنزل المقابل . قبل أن يتوارى داخله تفحص للحظات بيتها ثم غاب عن الأنظار .

عمّار

طُرق باب بيته ليلاً ففتحه ليلفي أصدقائه الثلاثة متسمرين أمامه، دعاهم للدخول مرحبا بهم . ثم اختلس نظرات لباب البيت المقابل قبل أن يلحق بهم .

_ أين وجبة العشاء؟ .

كذلك نطق سامر وهو يحدق بالطاولة الفارغة وسط الصالة .

_ قادم في الطريق، ألا تصبر؟ .

_ وزنه فاق التسعين كيلوغراما، سيأكلنا إن لم يجد ما يأكل .

أطلق سامر ضحكة ساخرة رادا بها على تهكم كريم عليه قائلا :


_ أراك مرحاً والابتسامة لا تفارق شفتيك هذه الأيام، هل من خطب ما؟، أشركنا معك .

هز كريم كتفيه مكتفيا بها إجابة فيما قال سليم مصطنعا الحكمة :

_ ولم لا يكون سعيدا ولديه بدل العمل اثنين، ويبني بيتا سيكون جاهزا قريبا . لا ينقصه سوى العروس يا صاحبي .

اشتدت السخريات بين الأصدقاء قبل أن يفطنوا لعمار الذي ران إلى الصمت منذ دخولهم، سأل كريم :

_ عمار، هل أنت بخير؟

انتبه لسؤال صديقه فقام متجها نحو المطبخ ليحضر الصحون قائلا :

_ بعض المشاكل في العائلة، لا تهتم .

كيف واتته تلك الكذبة بسرعة؟، بل أي عائلة سيقلق لأجلها وهو الذي هجرها منذ سنين ليستقر ببيته العتيق هذا الذي ورثه أبيه عن جده . كانت علاقته بهم تقتصر على بضع مكالمات هاتفية كل شهر . أو زيارة سريعة في عيد أو مناسبة ما . أراد أن يستقل عنهم بحياته بعد تخرجه وقد حقق ما ابتغى . وساعده في ذلك أنهم يقطنون بمدينة بعيدة عنه بأكثر من خمسمائة كيلومتر .
التفت ناحية كريم الذي يعرف كل شيء عنه فوجده يرقبه بنظرات شك . أشاح عنه بوجهه فورا، فليس الوقت مناسبا ليخبره بما يختلج صدره من مشاعر متضاربة ناحية فتاة لم يرها إلا منذ فترة قصيرة . حتى إنه لم يفتح معها حوارا واحدا . صوتُ قرع الباب قطع حبل أفكاره، ليليه صوت سامر مهلّلا :

_ وأخيرا.. كدت أموت جوعا! .

فريدة

أيقظها صوت ضجيج صفارات سيارات الإسعاف والشرطة، كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحا ليوم شتوي معتدل . تملكها الفضول لمعرفة ما يحدث في الخارج فوضعت وشاحا على رأسها وهي تتقدم ناحية الشباك لتلقي نظرة للخارج علّها تستشف ما يحدث . صُعقت به واقفا أمامها وكأنه كان ينتظرها . أجفلت لوهلة قبل أن يقطع جمودها قائلا بجدية مفرطة :

_ سيارات الشرطة تملأ الحي، وقعت جريمة قتل ليلة البارحة. وُجدت جثة في الخَرابة التي على أطراف الحي منذ ساعة . لا تغادري البيت اليوم، وأوصدي بابك ما دمت بمفردك .

سهمت قليلا بكلماته المفجعة ثم راحت تجترها وتعيدها في عقلها. انتابها الفزع فلم تجد حتى الوقت لتشكره على اهتمامه . أوصدت نافذتها وبابها جيدا ثم تهالكت على أقرب كرسي لها. لم تنم جيدا ليلة البارحة، والساعة تجاوزت موعد استيقاظها بكثير . وها هي تصحو على كارثة، “بئس المكان هذا الحي” . فرغم مرور قرابة الشهر على رحيلهم له لم تستسغه مطلقا، وهاهي تبدو محقة في ذلك . دمدمت بتلك الكلمات ورأسها يكاد ينفجر من الصداع، فنهضت لتصنع كوب نسكافيه تخفف به وطأته . وفيما كانت ترتشفه طفت صورة عمار في ذهنها . شيء مميز في ذلك الشاب جذبها . كلا.. ليست وسامته اللاّفتة بل لمعة وبريق عينيه حين تعانقان عينيها . وكأنها تحدثها بأنه معجب بها، هذا ما يخبرها به حسّ الأنثى لديها . اختلج فؤادها بمزيج من المشاعر جعلتها تتساءل : ” أيكون هو الشمس التي ستدفئها في شتاءِ عمرها المثلج؟ . والبسمة التي ستعود لترتسم على شفاهها بعد أن جافتها لسنين؟ .

اقرأ أيضا :المنعطف الخاطئ

2

” رغم حطام قلبك، سيزهر الحب فيه ويرممّه “

عمّار

كانت الفرحة تطلّ من عينيه وتنطق بها كل حركاته وهو عائد نحو بيته . لقد تحدثت معه بنفسها منذ دقائق .

استوقفته على مبعدة من البقالة لتشكره بخجلٍ على تحذيره لها منذ أيام . أجابها بأنه واجب الجيرة ثم تردد قبل أن يضيف :

_ بصراحة، أنا معجب بك، هلا تعارفنا .

رمقته بنظرة عتب امتزجت بالخجل . ثم رحلت بعد أن رمته بكلمتين سرعان ما أدركَ ما وراءهما .

– Farida flower

سعادته كانت عارمة بتجاوبها معه، لقد كان معجبا بها حقا، بل ربما أحبها أيضا، أثناء مراقبته لها اكتشف أنها كانت فتاة خجولة، حيّية، جميلة وابنة عائلة محترمة، ماذا يريد الرجل أكثر من ذلك ؟ .
أسرع نحو بيته ليفتح حاسوبه ويلج صفحته على الفيس بوك . أدخل اسمها على محرك بحثه سريعا لتظهر له عدة خيارات اختار منها الأقرب إلى إحساسه . وقد صدق إذ وجد بعد جولة داخله صورا عديدة لها على صفحتها رفقة فتيات أخريات داخل مبنى الجامعة . أظهر تاريخ نشرها أنها التقطت منذ أربع سنوات . تأملها جيدا ليلاحظ الألق والتوهج اللّذان كان يشعان منها . عكس الوقت الحاضر الذي خف فيه إشراقها ليزاحمه ألم استشفه على تعابيرها، وإن ظلّت بوجوده جميلة . ” مؤكد أن وفاة والدتها هو السبب “، هكذا علِم من بعض سكان الحي حين يتحدثون عن العم سعيد، الساكن الجديد بالحي . ظلّ يقلب بين المنشورات لوقت طويل ثم أرسل لها طلب صداقةٍ باسم ” عمّار دوستويفسكي” وظلّ متسمرا أمام الحاسوب منتظرا القبول بشوق .

فريدة

وحيدة كنت قابعة.. بين ذكريات وورود ذابلة . أفكر في الغد كيف سيكون وأنا محطمة حائرة . لافرح يلوح في الأفق، لا أمل يبعد عني الأرق . أعد أيامي وسنيني الآفلة .
وفجأة ظهرت كالشمس بعد غياب . كالمنارة بين الضباب . لتحيي في قلبي أحلاما كانت غافية، وتجلب معك سعادة كانت لاهية . كاد العام أن يكتمل وأنا أنتظر، فأين أنت يا من بتُّ أرى الدنيا من خلال عينيه . أطاب لك أن تكون بعيدا عني أم شغلك عني حبيب جديد؟ . هل أنت حقيقة أم كذبة من صنع خيالي زائفة ماعدت والله عارفة؟! .” *

كتبتها ثم نشرتها على موقع التواصل الاجتماعي لترسل لها صديقتها وداد سريعا :

_ أنت عاشقة! .

_كلاّ!،  مجرد خاطرة مرت على بالي .

_ لاتنكري!، كلماتك تتحدث عنك، اعترفي بسرعة .

_ حسنا، أنا لا أعرف تحديدا هل ما أمر به عشق أم لا، لكنه يعجبني، هو وسيم، مثقف، بارع بالكلام ويحبني أيضا .

_ هل اعترف لك بذلك؟ .

سألت وداد لتجيبها :

_ أجل ، منذ شهر تقريبا ومن حينها وأنا دائمة التفكير به، عندما أتحدث إليه تسيطر عليّ سعادة لامتناهية، كلماته تبعث السعادة في نفسي . تجعلني أكاد أرقص طربا . لا أتصور أن يمر يوما دون أن نتكلم، عندما يغيب تراني قلقة متوترة . أتعلمين أصبحت أراه ليلا في أحلامي! .

لم تمر ثوان على كلامها حتى ردت وداد ساخرة :

_ أوه، كل هذا ولا تعلمين إن كان عشقا أم لا؟، هل قابلته وحادثته أم أن كل هذا الهيام على الهاتف فقط؟ .

_ ليس بعد، أفكر في زمان ومكان مناسبين .

_ لا تقلقي.. الحل عندي .

عمّار

ارتدى أفضل ما عنده، وقبل خروجه من بيته ألقى نظرة أخيرة على المرآة . لطالما آمن أن الإنسان بجوهره لا مظهره، لذا كانت الملابس آخر همه . والآن وهو يرى بساطة هندامه ندم لأنه لم يشتر شيئا يليق . حز ذلك في نفسه، كاد أن يتصل بها ليؤجل الموعد لكنه عدل عن ذلك . لقد أرادها أن تعرفه كما هو دون تزييف .

في حديقة عامة، وعلى أحد الكراسي المنتشرة هناك جلس بمحاذاتها، وبدل أن يجيبها عن سؤالها، فضّل أن يثمل في بحر عينيها، أخفضت عينيها خجلاً وقالت :

_ عمار.. ماذا اتفقنا؟! .

_ أن ألزم حدودي .

_ إذن، فلتفعل! .

أطلق ضحكة ملؤها السعادة وقال :

_ حسنا التزمت، والآن أعيدي سؤالك لأني لم أسمعه .

_سألتك عن مستقبل علاقتنا يا عمار، نحن نعرف بعضنا جيدا ليدرك كل واحد فينا ما الذي يبتغيه من الآخر .

أجابها وهو يضع يده فوق يدها :

_ أنا أحبك .

_ أعرف .. وأنا كذلك .

كانت تنطقها لأول مرة، قالتها بسرعة دون أن تفطن أنها جهرت بها .

_ وأخيرا ! .

هتف بها عمار مهلّلا، احمر وجهها وأطرقت رأسها خجلاً وقالت :

_ لكني فتاة محافظة، لست ممن يُلهى بهن .

_ وأنا لست من العابثين كذلك، اطمئني .

لمست غضبا طفيفا يعلو وجهه فبررت قائلة :

_ أعلم، لكن لابد لنا أن نضع النقاط على الحروف .

تردد قليلاً قبل أن يجيب :

_ وضعي صعب يا فريدة أنت تعلمين، لا أملك إلا أن أعدك بأن أبذل قصار جهدي .

ركز عينيه على عينيها قبل أن يكمل :

_ حتى أتزوج بك يا فريدة، يا حبيبتي فريدة .
 
الفصل الثاني

1

” سامحني .. على حبي – لإتلافك بحبي ”

فريدة

ثلاث سنوات كانت عمر أملها بالارتباط منه، تحججت خلالها بألف حجة كي لا تقبل بأحد الخاطبين الذين يجلبهم والدها، تخرج عبد الرحمان فيها من الجامعة، و يكاد عامر ينهي دراسة الطب العام ليتخصص بعده، بل حتى والدها ينوي الزواج لولا قلقه الدائم عليها، لا يريد لها أن تحزن وتشعر بأنها باتت أقل قيمة لديه . هي تعرف ذلك، أحيانا تلعن نفسها وقلبها الأحمق الذي دفعها لترتبط عاطفيا وتجعل تلك العلاقة محور حياتها، تفكر أنه كان يجب عليها أن تستمع لكلام والدها .. وتكمل دراستها بالجامعة وتنشأ مستقبلا مستقلا لها بدل أن تترك نفسها رهينة حب رجل ربما يكون أحبها حقا، لكنه لم يتحرك للأمام خطوة واحدة . كان على نفس الحال الذي عرفته عليه منذ سنوات . دردشات ومكالمات، ابتسامات خفيّة ومواعيد رومانسية . حب وغزل ووعود وعهود، لم يتغير شيء البتة .

أحيانا كانت تتساءل بصدق في قرارة نفسها أكانت أحبته لو لم يأتِ بوقت كانت فيه وحيدة، بأمس الحاجة فيه للاهتمام العاطفي؟ . ثم سرعان ما تزيح تلك الهواجس عن خاطرها فقد بكَت احتمال فراقه مرارا . ولا تبكي امرأة رجلاً لا تحبه، ومع ذلك شيء تغير في قلبها ناحيته في الآونة الأخيرة . شيء من الفتور والملل يجتاحها كلما تكلمت معه أو التقته، لم تعد تشتاقه كما كانت تفعل قبل سنة واحدة . قلّ عتابها له وكأنها لم تعد تهتم أن تخسره . وكأنها استنزفت كل مشاعرها آنفا ولم يبق من النّار إلا الرماد .

_ هو السبب .

تحدث صديقتها ِوداد ثم تردف :

لا أنكر.. هو لم يعدني وعودا كبيرة، قال أنه سيسعى جاهدا ويعمل ليرمم البيت ويجمع المال لنتزوج، ثلاث سنوات ولم يفعل شيئا البتة، يقول لي كل مرّة أنه يحبني .. لا يتصور زوجة أخرى غيري وأن عليّ أن أصبر فقط .
عن أي صبر يتحدث لك وهو الذي يقضي وقته متسكعا بين الغابات والكهوف!، ويمضي اللّيالي غارقا في الكتب أو ساهرا بين أصدقائه .كيف سيجمع المال؟. فعلى رغم كونه دهانا محترفا يمتعض من العمل في المجال مبررا ذلك برائحة الطلاء التي تسبب له حساسية أغلب الظن أنها من بنات أوهامه؟ .

_ هل واجهته بذلك؟ .

_ فعلت، وذلك كان سبب شجارنا الأخير، هددته إن لم يتحرك فسأتركه للأبد .

_ وهل ستفعلين حقا؟، رأيتِ ما حصل لك المرة السابقة .

ضغطت على حروف لوحة المفاتيح بقوة لتكتب :

_ أقسم أنني سأفعلها، ودون أن أذرف دمعة واحدة .
 

عمّار

مع اقتراب تواري الشمس خلف الأفق توجه عمار حيث دكان الحي أين كان صديقه كريم جالسا، كان شاردا يتفحص الطريق والمارّة حينا.. ويلقي نظرة على هاتفه حينا آخر حين باغته بصيحة هزت أركانه .

_ أخيرا يا كريم .. أخيرا . 

_ بئس العادة يا عمار، سيكون موتي يوما ما على يديك .

ضحك الآخر وهو يسحب الكرسي الثاني ويجلس عليه، يضع رجلا فوق أخرى ويتحدث بفخر :

_ ستكون ميتة شريفة . لأنك ستموت على يد أحد أبرز كتاب عصرك .

رفع كريم حاجبيه ورد ساخرا :

_ وكيف ذلك؟، لم أعلم أنك تكتب رواية ما، لا تخبرني فقط أن أحد أرواح صاحبك الروسي سكنت جسدك .

_ اسخر كما تشاء . وسترى ما أنا قادر على فعله، لقد كتبت رواية وشاركت بها في إحدى المسابقات الأدبية . وقد اختيرت ضمن أفضل خمس روايات ترشحت للنهائي .
 
قالها وهو يمد يده للإبريق الماثل على الطاولة الصغيرة أمامه ليسكب فنجانا من الشاي ويردف :

_ وسيحصل كاتب الرواية الفائزة على مبلغ كبير إضافة إلى فرصة طباعتها ونشرها ….. ماهذا!! إنه بارد! .

قطع كلامه منتقدا مذاق الشاي لينطق كريم متجهما :

_ أبهذا كنت تضيع وقتك الأشهر الفارطة!، لست ضد أن تبرز مواهبك يا أخي، لكنك بحاجة إلى عمل فعلي .

_ إني أعمل، ألا ترى ذلك .

_ تعمل أياما لتمكث أسابيع، دفتر دينك بالدكان على وشك الإمتلاء، والدي يضغط عليّ كل حين وآخر لأجبرك على سداده، لقد دفعت نصفه من جيبي الخاص فقط من أجلك .

وقف متأهبا ونطق غاضبا :

_ هل تمن عليّ أن أقرضتني قرشين يا كريم، سأعيد دينك قريبا .
رد الآخر بهدوء :

_ لست أقصد ذلك وأنت تعلم، ما أريد أن أوضحه لك أنه يلزمك جدية أكثر في حياتك، لا تنسى أن هناك من ينتظرك يا أخي .

تركه عمار وذهب ملوحاً بعصبية، فيما وقف كريم يرقبه مغادراً و هو يفكر بأي حال سينتهي إليه صديقه .


 

فريدة

” عمّار.. إنها النهاية، وما موقفي هذا إلا نتيجة لتراكمات أنت سببها، تغافلك، تهاونك، استسهالك لما بيننا، إهمالك لبناء مستقبل لنا . كيف أربط حياتي بك وأنت لا تكافح من أجلي؟،  بصراحة بدأت أقتنع أنك لا تستحقني!، لا تستحق ما بذلته من مشاعر وتنازلات حتى أحافظ على ما بيننا، مللت العتاب والغضب والخصام وحتى الغفران !!! . أنت واقف مكانك وتأبى أن تتزحزح، وليس السبب الواقع المر الذي نعيشه، بل الخيال التعس الذي تعيشه بمفردك، الخضوع والاستسلام يهدمان حتى أقوى المشاعر وأصلبها، وأنت وسمت حبنا بالخيبة والخذلان، فأخمدت نار عشقك في قلبي، وعكرت صفوه باللاّمبالاة وبالانهزام للعقبات فمحوت كل ذكرى جميلة جمعتنا من عقلي، كنت أعلم منذ البداية أنك والمسؤولية لا تجتمعان، ولكني أوهمت نفسي أنك ستتغير، سيعلمك الحب المسؤولية لأنهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يكمل الآخر، إلا أن كان مفهومك للحب مفهوما ثانٍ . أقولها لك مع الأسف أن الطبع غلاب، وخذها مني صراحة ودون مواربة أنت لا تصلح لا للحب ولا للزواج ولا لإنجاب الأبناء، ربما أنت مختلف، مميز، يخبئ لك القدر طريقا غير الذي يسير فيه الكثير من الناس الذين أنا منهم، لذلك قررت أن أتحرر منك وأغادر عالمك، وعلّ النسيان لا يضلّ طريقه لكلينا ” .

” إن أفضل لحظة للتعارف هي تلك اللّحظة التي تسبق الفراق ” .
 أليس ذلك ما قاله صديقكَ دوستويفسكي؟! .
 

عمّار

أسند كلتا يديه على رأسه وهو يقول بألم :

_ غبي، أنا رجل غبي، استنفدت عواطفي نتيجة سذاجةٍ مني . هي لا تستأهل، لا تستأهل أبدا مشاعري التي جعلتها وقفا لها طيلة العمر .

ربت كريم على كتفه، وسأله بنبرة هادئة :

_ اهدأ يا عمار، وأخبرني مالذي حصل .

_ تركتني يا كريم، تلك الجاحدة تركتني بعد سنوات حلمت فيها أن تصبح يوما ما زوجتي .

_ اهدأ وأجبني ما السبب الذي جعلها تفعل ذلك؟ .

وقف عن كرسيه وراح يذرع الصالة ذهابا وإيابا ويصيح قائلاً :

_ أتصدق أنها دعتني بالانهزامي، المتواكل! ، قالت أنني كسول، خامل، أنتظر معجزة من السماء لتنتشلني من وضعي البائس .  لتنهي رسالتها بجملة حطمتني تماما، أنني شخص لامسؤول، لا أصلح لا للحب ولا للزواج ولا لإنجاب الأبناء! .. أنا.. أنا …!!!! .

احتار كريم بما يرد على صديقه، فصداقته له تحتم عليه مواجهته الحقيقة وإن كانت مرّة :

_ عمّار.. هي معذورة، انتظرت ثلاثة سنوات، أنت لم تحرك ساكنا خلالها، هي على مشارف الثلاثينيات، أنت فقط وعدت، هي لم تر شيئا ملموسا .

_ وهل تراني قصّرت! .

صاح بها عمّار في وجه صديقه ليتابع :

_ أنت تعلم أني قدمت ملف سيرتي الذاتية لكل شركة تطلب موظفين، حظي التعس يجعلني أفشل في مقابلة العمل في كل مرّة .

بهت قليلا ثم أردف :

_ لا ليس حظي، بل لأنني لا أملك واسطة كأبناء الأثرياء والمسؤولين، ألا لعنة اللّه عليهم أجمعين .

_ عمار، شهادة البكالوريوس في المحاسبة التي تحملها لن تكفي لوحدها في هذا الزمن، أخبرتك مرارا أن تتعلم لغات جديدة ،أو برمجة الحواسيب وغيرها لتعزز بها ملفك .

رد صاحبه بامتعاض :

_ النتيجة واحدة .
 

“معزاة ولو طارت”، فكّر كريم وهو يحاول إيجاد كلمات مناسبة لسؤاله التالي :

_ ماذا عن عمل الدِّهان؟، أنت موهوب ومحترف . بإمكانك عيش حياةٍ كريمةٍ إذا ما واضبتَ عليه بانتظام .

رمقه عمّار بنظرات ملؤها الغضب ثم أجابه قائلاً :

_ هل تريد لي الموت مختنقا؟ .

كانت الجملة التي أسكتت كريم، وجعلت الصمت مخيما على الجو، لم يقطعه سوى دمدمة عمار بين أسنانه :

_ ستدفع الثمن، أقسم أنها ستفعل .

2

” إذا ضمن أحدهم قلبك سيضمن مغفرتك، وإذا ضمن مغفرتك سيؤذيك بلا رحمة “

فريدة

كان صباحا ممطرا كللّت فيه الغيوم الرمادية سماءه . ألقت فريدة نظرة من خلف زجاج النافذة فشعرت بشيء من الكآبة تتسلل لداخلها . الحي شبه خال في هذا الوقت فجميع سكانه إما بالعمل أو المدرسة، ارتدت معطفها ووضعت حجاب رأسها على عجل . ثم تناولت حقيبة يدها الصغيرة وفتحت الباب لتسارع نحو الدكان لابتياع ما تريد قبل أن يزداد المطر غزارة، وجدته منتصبا أمامها فشهقت . كان قد نال نصيبه من البلل، التقت عيناهما فرأته يتطلع إليها بطريقة غريبة لم تألفها منه :

_ عمّار؟!، ماذا تريد.. اذهب بسرعة قبل أن يراك أحد .

دون سابق إنذار دفعها للخلف ثم أسرع وأوصد الباب وهو يقول  :

_ يجب أن نتحدث .

ألجمتها الصدمة للحظات ثم تمالكت نفسها وتصنعت الشجاعة قائلة بتحدٍ :

_ أخرج من هنا الآن وإلا…

_ وإلا ماذا؟، إن صدر منك أي صوت فالفضيحة الناتجة ستكون لكِ أنتِ وليست لي، بل بالعكس سيزوجك والدك لي بسرعة دون أيّة شروط .

اتسعت ابتسامته قليلاً ثم أكمل :

_ أي أنني الفائز في النهاية يا حبيبتي، لذا فاجلسي ودعينا نتحدث بهدوء .

ابتلعت ريقها وهي تتفرس ملامح اللؤمِ على وجهه، كأن شخصا آخر من يتكلم وليس رجلاً أحبته لسنوات، تراجعت للخلف وظلّت واقفة مستندة على الحائط .

_ أسرع وقل ما لديك، قد يعود والدي في أي لحظة .

_ كلانا نعلم أنه لن يأتي قبل الساعة الثانية ظهرا .

تقدم خطوات نحوها ثم ابتسم ومدّ يديه ليمسك بيديها، انتابتها رعشة خفيفة لم تعتدها . كانت لمسته باردة على عكس ما تعودت عليه فيها من دفءٍ وألفة . استجمعت شتات أفكارها وسحبت يدها قائلة :

_ أخبرتك أن كل شيء قد انتهى .

أطلق ابتسامة هادئة على وجهه وهو يرد :

_ لا.. لم ولن ينتهي، مرحلة صعبة وسنمر بها، أنتِ غاضبة فقط وهذا حقك، أعدك أنني سأتغير للأفضل .

_ أعلم أنك لن تفعل مثل كل مرة .

دنا منها أكثر : 

_ جربيني .. أعطني فرصة .

تراجعت للخلف :

_ لا أريد .

أمسك ذقنها بيده وقرب وجهها إليه :

_ فريدة.. أنا أحبك .

دفعته بأقصى قوتها ثم أطلقت جملتها مثل قذيفة في وجهه :

_ وأنا يا عمّار لم أعد أفعل! .

اقرأ أيضا : صلوات الشيطان


 بعد مرور عدة أيام ..

” أنا آسف لأنني سيء بالحب لكنني أحببتك بكل ما أملِك من سوء “

عمّار

كاد يكسر الباب وهو يصيح بصوت عال :

_ عمّار .. افتح لي الباب.

_ عمّار، أعلم أنك هنا، افتح وإلا سأكسره، أقسم أنني سأفعل .

هنيهات فقط وفُتح الباب ليطل منه شبح رجل، منفوش الشعر، شاحب الوجه، تغطي ذقنه لحية خفيفة متسخة . ترك الباب مفتوحا وعاد أدراجه أين لحق به كريم نحو الصالة مذهولا، مصدوما للحال الذي آل إليه صديقه، ولكن ذلك لم يكن شيئا أمام حال بيته، وكأن زلزالا ضربه فلم يترك شيئا في مكانه . كان الأثاث مقلوبا باستثناء الأريكة التي ارتمى عليها، أكواب قهوة فارغة وقوارير زجاجية متناثرة على الأرض وفوق المائدة، تناول إحداها متخوفا من أن تكون …..

_ خمر!!!، خمرٌ يا عمار، هل جننت!!! .

صرخ في نفس اللّحظة التي اتجهت عيناه فيها ناحية المكتبة لتتسع دهشة فاقت كل ما سبق . أين ذهبت كل تلك الكتب؟، سأل مبهوتا بصوتٍ خفيض وهو يتقدم نحو عمّار الذي بدا ساهما وكأنه في عالم آخر . تمعن فيه قليلاً ثم حاول تمالك نفسه وسحب كرسيًّا جلس عليه مقابلا له وسأله بنفاذ صبر :

_ عمّار .. ما الذي يحدث؟، وأين ذهبت كتبك ورواياتك والتي كنت تعتبرها ثروة لا تقدر بثمن !!.

تجاهله.. كان سارحا وكأن أفكاره كانت تطوف بعالم آخر تماما .أعاد السؤال عدّة مرات ولكن لا حياة لمن تنادي، مما جعله يفقد أعصابه ويثور، ودون تخطيط رفع يده وهوى على خدّ صديقه بصفعة لم تحرك فيه ساكنا . وإنما أطلق فقط كلمتين قالهما بهدوء مريب :

_ اتركني وشأني .

_ لن أفعل قبل أن أعرف ماذا أصابك، أكل هذا من أجل فريدة؟! . الحياة لا تتوقف عند أحدٍ يا أخي .

تغيرت ملامح الأخير فور سماعه اسمها، أجفل للحظات، ثم اغرورقت عيناه دمعا وسرعان ما رفع يديه وغطى بهما وجهه وأجهش ببكاء مرير .

لم يعرف كريم ما يفعل، فلأول مرة يرى عمار يبكي، هل عشقها لتلك الدرجة؟! . مد يده وربت على كتف صديقه قائلا بصوت مخنوق :

_ لا تيأس.. هناك أمل أن تسترجعها، سأحادثها إن تطلب الأمر ذلك .

رفع عمار رأسه وحدق بكريم قليلا قبل أن يتكلم :

_ ” يلقى ذو الضمير العذاب حين يقر بذنبه، ذلك هو عقابه “.

_ عن أي ذنب تتحدث؟! ، هل هذا وقت اقتباساتك؟ .

_ لقد اغتصبتها .

_ هل تمزح؟، اغتصبت من؟ .

_ اغتصبت فريدة .. حبيبتي فريدة .


 كريم

فتح تطبيق الفيس بوك على هاتفه، ثم دخل مباشرة إلى صفحتها، فاجأه أنها نشرت منشورا جديدا، كانت عبارة عن صورة قلبٍ أحمر غرز بسكين في منتصفه لتتناثر دماؤه هنا وهناك، علّقت عليه بجملة مقتضبة لن يعرف الكثيرون ما وراءها، كان الوحيد الذي يدرك مغزاها، “لا شيء يؤلم أكثر من خيبة أمل تأتيك من شخص ظننت أنه لن يؤذيك أبدا” …
كان يشعر بالألم لألمها، بنار تحرق صدره وتعذبه لأنه تغافل عن حمايتها . كيف لا وهي حب حياته الأول؟، كيف لا وهي حلمه المستحيل الأوحد؟ . منذ عرفها أثارت اهتمامه، ابتسامتها العذبة، هدوءها المحاط بهالة من رزانة ووقار، جمالها البسيط اللاّمتكلف . كل ذلك وأكثر جعله يقع في غرامها، ولكونه خجولاً.. عديم الخبرة، كان غير قادر على الإفصاح عن مشاعره وجها لوجه . فقرر أنه سيختار الطريق الأنسب والأسلم، سيجعل والده يتقدم لخطبتها من أبيها، كان هذا قبل أن يستفيق على ضربة قضت على كل آماله حين أخبره عمار عن العلاقة التي تربطهما . ابتلع غصته، وأوصد على مشاعره داخل قلبه، تكلّف الابتسام والسعادة لسعادةِ صديقه وفي داخله ألف جرح وحسرة، سنوات عدة مرت.. واليوم هاهو يرى علاقتهما التي ذبحته تتداعى، لتخرج منها حبيبته محطّمة مكسورة على يد صديقه، ما الذي ينبغي عليه فعله؟، كاد أن يقتله عندما أخبره بما ارتكبه في حقها .
محاولا السيطرة على أعصابه، على رجفة يديه وضربات قلبه التي تتسارع بقوة كتب قائلا : ” أعلم ما مررتِ به، بإمكاني المساعدة ” .. أرسلها رسالة خاصة، ثم أتبعها بطلب صداقة لها .. أغلق الهاتف وتمدد على سريره متخيلاً عدّة سيناريوهات ناتجة لما أقدم عليه .
 

فريدة

_ وأنا يا عمار لم أعد أفعل! .

بوحشية لم يسبق لها أن رأتها فيه، أبصرت يده تمتد إلى قميصها لتفتح أزراره بقوة ثم تدفعها لترتمي على الأريكة، دفاعاتها، صرخاتها، توسلاتها، لم تفد شيئا .كان مثل ذئب مسعور انقض على فريسته ناهشا لحمها حية دون أدنى رحمة.. وما إن أشبع جوعه حتى وقف عنها تاركا إياها تنزف جسدا وروحا ودون أن ينبس بأي كلمة عدّل هندامه وانسل خارجا من البيت .
ذلك كان المشهد الذي أبى أن يراوح مخليتها في يقظتها و استحال كوابيس في منامها . انقلب حالها، شحب وجهها، هزل بدنها وغارت عيناها من هول ما كابدته وحيدة، فلمن تشكو ولمن تلجأ؟ .إن عرف إخوتها أو والدها فسينتهي الأمر بجريمة وهي لا تريد أن تتسبب في ضياع مستقبل أحدهم . يومها أسرعت بلملمة شتاتها . قاومت مشاعر الذل والهزيمة التي ألحقت بها ثم وأسرعت لتغتسل وتزيل عنها آثار دنسه مااستطاعت . كظمت دمعها وأخفت جرحها وتظاهرت بأنها طبيعية قدر الإمكان . أحيانا تتساءل من أين واتتها كل تلك القوة لتفعل ذلك؟ . ثم تعود وتنحب كرامتها المهدورة وشرفها الضائع على يد قذر ظنته إنسانا فأحبته . فما ألفته إلا حيواناً وشيطانا مريدا .

الجميع يظنها مريضة . عرض عليها والدها أن يأخذها إلى الطبيب فأبت، مرددة أنها بخير وكل شيء على مايرام، تكمل أشغال البيت لتلتجأ إلى غرفتها . ثم تبكي لها ما شاء أن تبكي، كانت تلوم نفسها، تجلد ذاتها، ترى نفسها المسؤولة عما حدث لها . عندما يشتد تأنيبها لنفسها تثور فتلطم وجهها أو تشد خصلات من شعرها، أو تلج الحمام لتفرك جسمها بالصابون بشدة، كانت قد كرهت جسدها، فهي تشعر أن بصماته طبعت للأبد عليها . عدا عن رائحة عرقه وأنفاسه التي أبت إلا أن تعشش في أنفها . تشمها على ملابسها، في وسادتها، في طيّات فراشها .

عندما تنهك وقد احمر جلدها وتورم ترتدي ثيابها وتجفف شعرها . ثم ترمي بالمنشفة غاضبة في كل مرة وتلعن عمار ونفسها والرائحة التي لم تزل معلقة بأنفاسها . تجلس أمام حاسوبها، تبحث على الشبكة في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل، لربما عن شيء تعالج به روحها المكلومة، وتجبر به قلبها المتهتك . تبحث دون أي غاية أو هدف، حتى وقعت عيناها ذات ليلة على رسالة خاصة . عندما فتحتها وقرأتها انتابها الفزع في البداية .. لكنه تداخل مع شعور غامض كان يخبرها أنها ربما وجدت أخيرا ما تبحث عنه .

عمّار

كان يمشي هائما دون أي غاية في شوارع المدينة، تلفح رياح الشتاء الباردة وجهه فلا يبالي، تتجمد يديه العاريتين من البرد فلا يكترث . كان الندم يقطع أوصاله، يدمي فؤاده، يحطم كل ذرة من كيانه، كره نفسه وأنانيته وغضبه . غضبه الذي أعمى بصيرته حينها هو ما أوصله لأن ينال من براءة صبية كان ذنبها أنها أحبته يوما ولم تعد تفعل . يتذكر اللّحظة التي انزاح غشاء الغضب عن عينيه وأبصر عينيها . كل شيء رآه فيهما من هلع وخوف ورعب وانكسار، إلا شيئا واحدا.. أنهما كانتا عيني فريدة .
قام عنها وانسل خارجا فلم يجد بما يبرر، ولا ماذا يفعل . الطامة قد وقعت ولا فائدة ترجى من أي كلام. تركها تبكي عرضها وتندب حظها وأسرع نحو بيته، انزوى بأحد أركانه، ضرب رأسه بالحائط، صرخ، وبكى كما لم يبك قبلا . ثم قام وانهال على أثاث بيته بالتحطيم، التفت للمكتبة، سحب الكتاب تلو الآخر ورماه أرضا، لم يبق فيها شيئا ولم يذر . لملم كل الكتب في أكياس ثم أخذ قارورة بلاستيكية من خزانة المطبخ . خرج من بيته واتجه ناحية الربوة التي وراءه، أفرغ الأكياس أرضا ثم سكب عليها قارورة البنزين . أخرج قداحة من جيبه ثم رماها عليها وراح يتفرج على النار تحرقه قبل أن تحرق تلك الأوراق . ذلك كان انتقامه من نفسه . ظن أنه سيرتاح بعدها فما زاد ذلك صدره إلا لهيبا، بعدها عافت نفسه الأكل، جافاه النوم ليلا.. وإن أغمض عينيه تنتابه الكوابيس فيقوم فزعا، فكر في الانتحار .. أراد الهرب من ظلماءِ حياته . فكر أنه قد يريح تلك القابعة خلف النوافذ المغلقة بموته . لكنه كان أجبن من أن يفعلها . فما بقي له حلا سوى قارورة “إكسير الحياة”  كما يسميها صديقه سليم تهكما، فلعلّها تعينه على الراحة أو حتى النسيان .

اقرأ أيضا : جاءتنا امرأة

الفصل الثالث

1

“حتى وإن تجاوزت كل ما يؤلمني لم أعد كما كنت”

كريم

 شهران مرا منذ حديثهما الأول، في البداية غضبت وثارت بعد أن عرفته حين ظنته مبعوثا من طرف عمار . ولم تصدقه إلا بعد أن حلف لها طيلة أيام عبر الرسائل وبأغلظ الأيمان أنه ومنذ عرف بفعلته لم يكلمه . شيئا فشيئا لانت معه .. كسرت حاجز الصمت الذي نهش روحها لفترة طويلة .  وكأنها وجدت أخيرا إلى من تفضي همها دون خوف، قالت أنها لا تستطيع أن تؤمن أحدا على هكذا سر . سمع كريم مأساتها، كان يحترق مع كل كلمة تكتبها . أحس بألمها وتمنى لو كان بجانبها ليخفف عنها . اقترح عليها أن تلجأ للعدالة لتستعيد حقها وينال عقابه . لكنها رفضت رفضا قاطعا معللة ذلك بالفضيحة التي ستلاحقها وعائلتها طيلة العمر . تحادثا طويلا وفي الأخير وجد الشجاعة أن يطلبها للزواج وقبل أن يفاتحها أرسلت له بما هو بمثابة صاعقة له . “عمار جاء لطلب يدي” .
أجابها مبهوتا :
 

_ وهل وافقتِ؟ .

_ كلا .

أحس أنه بدأ يستعيد توازنه وقال :

_ كنت ستحلين مشكلتك .

_ أفضل البقاء دون زواج على الزواج بذلك الوغد .

شعر ببادرة أمل تلوح في الأفق فكتب إليها بحذر :

_ هل توافقين على الزواج بي إذن؟ ..

مرت دقائق قبل أن ترد :

_ لماذا؟ .

تردد، لم يدر ماذا يقول؟، الحقيقة أم خلافها، تبعثرت مشاعره وأفكاره، ترى هل تسرع؟ . أراد أن يجيبها ويخبرها أنها حب حياته، حلم شبابه، لكنه خاف . خاف أن ترفض فيُكسر في نظرها ونظر نفسه، امتدت يداه لتعانق لوحة المفاتيح ويكتب إليها جملة احتار من أي زاوية من عقله انبثقت :

تبادل مصالح .

عمّار

المئات من الرسائل النصية ومثيلاتها على مواقع التواصل لم تجعلها تحرك ساكنا حتى، اعتذر وتأسف بكل مرادف للأسف في اللغة ولم يجد معها شيئا، كان نادما، يائسا، مستعدا ليصحح خطأه فقط مقابل إشارة منها وسيهرول راكعا تحت قدميها . انقلبت حياته رأسا على عقب بعد ذلك اليوم، تهاوى عالمه.. نسي طعم الطمأنينة . ولم يبق سوى صراخ فريدة الصامت عالقا في ذهنه يتردد عليه كلما أغمض جفنه ليعيده للشراب مرة أخرى .
حتى صديقه كريم نبذه، جافاه، طرده من حياته بأقسى العبارات بعد اعترافه الصادم . كان يستحق ذلك لكنه احتاجه بجانبه.. ليكسر وحدته ويعينه على شرّ نفسه .

ذات صباح ما إن فتح عينيه حتى استذكر شيئا قرأه لدوستويفسكي منذ فترة طويلة” إن العذاب هو المصدر الوحيد للإدراك “. قد جعله عذابه يدرك أنه نادم حقا لكن ليس خائفا، الخوف لعنة الإنسان وهو لن يسمح لنفسه أن تكون ملعونة، لقد أذنب.. نعم؛ هو يعترف لكن عليه السعي لتصحيح أخطائه، أن يحاول إصلاح ما أفسده في قلب وجسد حبيبته . لقد قرر، سيعيد لملمة أشلاء حياته ويقدمها قربانا بين يديها علّها تحن وتهب له صكّا من صكوك الغفران .

ترك شرب الكحول وحاول خلال أسابيع قليلة أن يعيد رسم حياته القديمة مجددا، عاد عمار ظاهريا كما كان، وما اختلف أنه كان يعمل ليل نهار بلا كلل ولا ملل حتى استطاع جمع ثمن خاتم للخطبة . طار به بعد أيام إلى منزل فريدة متأملاّ مستبشرا ليطلب يدها من أبيها، رحب به الرجل وأهلّ وسهل .. واتبع ما تفرضه الطقوس والعادات والأعراف .. ثم ودعه ووعده خيرا . ولم يمض نصف يوم حتى اتصل به ليصيبه في مقتل، لقد رفضته فريدة .

على سطح بيته كان جالسا، يراقب النجوم في سماء ليلة صافية غير آبه للهواء البارد الذي يتسرب إلى صدره ليعانق الخيبة المتفشية في داخله . هاهو ذا بهندامه المبعثر وربطة عنقه المرخية وشعره المنكوش يدرك أنه انهزم وخسر آخر فرصة تعيده للآدمية من جديد .

نزل إلى الأسفل ووقف أمام مرآة غرفته وظل مستويا لفترة يراقب صورته المتمثلة فيها، ليس الندم ماكان ينضح من تقاسيم وجهه هذه المرة بل هو شيء مختلف . كان يفكر أن كيف وصل به الحال لهذه النقطة . شيئا فشيئا بدأ يستنتج أنها هي من دفعته بلامبالاتها لفعلته الشنيعة تلك . لقد أحبها حتى بات ضعيفا والضعف يولد الأخطاء . ليتها حاولت فهمه، ليتها استوعبته، ويا ليتها ساندته وفهمت ماذا يعني أن تكون الحب الأول في حياته . ماذا يعني أن تتفتح براعم قلبه على صوتها وأنفاسها، هو ليس مذنبا بقدرها . هو لم يقس، لم يخن، لم يخذل، هي فعلت، هو  كان يستحق فرصة أخرى .. لأجل الحب لأجل المواقف لأجل الذكريات .

هكذا أقنع نفسه وهو يسحب ربطة عنقه ليلقي بها بعيدا، أما شعوره بالذنب فبدأ يتلاشى رويدا رويدا ليحل محله الغيظ والغضب وربما الحقد .

اقرأ أيضا : بــــلا عـــنـــوان.. (الجزء الأول)

فريدة

لماذا؟، ألم تجد سؤالا أفضل لتطرحه!، كلا بل كان الأحرى بها أن ترفض فورا . فبخلاف أبيها واخوتها عافت نفسها كل ذكر يتحرك على الأرض . ففي المرات القليلة التي تضطر فيها للذهاب إلى السوق وسؤال الباعة ومجادلتهم تبتلع ألف غصة وغصة محاولة الابتعاد عنهم قدر الإمكان . رائحتهم، أصواتهم، أشكالهم، أصبح لديها رهاب من كل ما يتعلق بهم . فكيف لها أن تتزوج بأحدهم ! .
أرادت بل واحتاجت زيارة طبيب نفسي يساعدها على تجاوز محنتها علها تستطيع التطلع للمستقبل مجددا . كانت لا تريد الرضوخ لمأساتها والاستسلام رغم بعض الأفكار الإنتحارية التي باتت تطغى على تفكيرها بين الحين والآخر .

بددت سحابة أفكارها وعادت تفكر في كلام كريم . تبادل مصالح .. قال أن والده يريد أن يزوجه فإما أن يختار فتاة أو سيجبره على فتاة هو سيختارها، تلك مصلحته أما هي فبإمكانها مواصلة حياتها دون القلق من شيء .
كريم كان شهما وطيبا ونبيلاً، لكن موافقتها على طلبه وإن كان فيه حلاّ لمشاكلها هو استغلال واضح له هي ترفضه . عدا أنه كان صديق عمار المقرب . الأمر كان حساسا للغاية وكان لابد لها من التفكير العميق .

كريم

في حالة من عدم الإطمئنان والتوتر كان جالساً أمام مكتبه بالبلدية وهو يستعد لكتابة رسالته إليها، بعث إليها بكلمات مقتضبة : “رأيت عمّار اليوم، سنتحدث لاحقا”..

الكثير من الأعمال المكتبية كانت في انتظاره وإلا فإنه لم يطق صبرا ليحدّثها فورا بما حدث . كان قد قابله صباحاً في طريقه إلى مكتبه في دار البلدية حيث يعمل، حاول تجاهله لولا أن عمارا أمسك بذراعه على عجل وهتف قائلا :

_ هل تهرب مني يا كريم .

_ رد كريم بثبات :

_ أبعد يدك عني يا عمّار ودعني أمر .

سحب يده عن ذراعه قائلاً :

_ علينا أن نتحدث، ليس على صداقة سنوات أن تنتهي هكذا .

أشاح كريم وجهه عنه وهو يجيب :

_ بل انتهت منذ أن أصبح صديقي حيوانا .

_ الجميع يخطىء، ثم إن الذنب ليس ذنبي بالكامل .

قالها بغلاظة وبرود جعل كريم يجفل مكانه، فقبل أشهر عديدة كان عمار يتلوى من مشاعر الندم والذنب، وهاهي عباراته الآن تخلو من أي أثر لها . رفع رأسه ليحدق به، فحصه من رأسه وحتى قدمه، كان مختلفا، ليس كما عهده، ليست تلك روح عمار الذي صادقه لسنين.. رد عليه ببطء وحذر :

_ هل أنت تهذي؟ .

_ كلا لست كذلك، بل الآن اتضحت الرؤية .

_ أي رؤيا؟ .

هز كتفيه مجيبا :

ما فعلته وإن كان خاطئا لكنه ردة فعل طبيعية على الغدر وانعدام الوفاء .

_ هل تصدق كلامك يا هذا! .

صاح بها كريم غير مصدق لما ينبثق من فاه صديقه ليردف :

_ كان ينبغي أن تكون في السجن الآن وليس هنا تتبجح بفعلتك الشنعاء .

لم ينتظر ليسمع المزيد رغم أن عمارا حاول إيقافه، تركه على عجل ليكمل طريقه نحو محطة الحافلات .

عندما يسترجع في لحظتها ماحصل يذهل لقدرة البشر على التحول . على تحويل أنفسهم من مجرمين إلى ضحايا . لقد خاف صديقه، خاف على فريدة، على نفسه والأهم على عمار ذاته، فما رآه بعينيه لم يكن يبشر بالخير .

2

إنك لن تستطيع أن تتصور كم عذبوني جميعاً جميعاً، الأعداء والأوغاد والأصدقاء، حتى الأصدقاء عذبوني أكثر من الأعداء”

عمّار

خلف الستائر المتواري خلفها وقف متأهبا بكامل ملابس خروجه يراقب باب المنزل المقابل له . ويرتشف من حين لآخر فنجانه الصباحي من القهوة . فجأة أحس بقرقرة الجوع تفتك بأمعائه لكنه تجاهلها . “ليس وقت الطعام الآن” . هكذا حدث نفسه ليأخذه تفكيره بغتة إلى صديقه سامر، السمين العاشق للأكل، نمّت عن ثغره ابتسامة لم تظهر منذ زمن على محياه وقد استرجع ذكرياته الجميلة مع أصدقائه، منذ الحادثة حاول الجميع الإتصال به وزيارته لكنه تجاهلهم . تدهور حالته النفسية حالت دون أن يقدر على التواصل مع أحد . وشيئا فشيئا انشغل كلّ منهم ونأى بنفسه عن الآخرين، لقد جرفه الحنين للماضي واشتاق شلّته حقا . عليه أن يسترجع كريم والبقية، لكن الوقت غير مناسب الآن . لن يستسلم لفيضان مشاعره حتى يفعل ما يريد فعله ويضع نقطة النهاية لقصته بنفسه .

مع اقتراب الساعة العاشرة شاهد ما كان ينتظره، بحجابها الأسود وهيئتها البسيطة خرجت من منزلها، تحمل حقيبتها في يد وتغلق الباب باليد الأخرى، انتظر للحظات حتى ابتعدت قليلاً ثم أخذ كتاباً عن الطاولة وأسرع ليتبعها بهدوء وهي تسير من زقاق إلى زقاق حتى صارت خارج الحي . أخذت تمشي في الطريق المؤدي للسوق، تلك كانت وجهتها المعتادة . تبعها ببطء ليحول دون أن تلاحظه . أراد أن يستفرد بها للحظات، لم يكن يبيت نية سيئة تجاهها . كان متأملاً أن تسمعه فقط .

بقي وراءها حتى حادت عن الطريق الرئيسي واتخذت سبيلا آخر، ظلّ يتبعها حتى لاحت له وجهتها، كانت الحديقة التي اعتادا أن يجتمعا فيها، شيء من السعادة تسلّل إلى داخله وهو يخمن أنها تشتاقه، ولذلك تزور ذكرياتهما داخل عش حبهما القديم .

بعد لحظات قليلة سرعان ما انطفأت شعلة السعادة وهو يراها تجلس إليه، لم يصدق نفسه، كذب عينيه . أراد أن يرى كل مشاهد السّوء في العالم إلا هذا المشهد . كان يقف من بعيد مختفيا بين أشجار الحديقة يشاهدهما معا.. صديقه وحبيبته سويا! . أي خيانة تلك التي ابتلي بها، أكان كل ما عاناه وعاشه بسبب الغدر؟، بسبب طعنة صديقه في الظهر؟ .

نظر إلى الكتاب الذي في يده لهنيهات متأملاً اسمه البارز على غلافه، ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة ثم رماه أرضاً داهساً إياه تحت قدميه . تحامل على نفسه ليعود أدراجه . لقد انكسر، واغتيلت فرحته في مهدها . لم يكن قادرا لحظتها على المشاهدة ولا على المواجهة، لقد طُعن في الصميم، وكتب عليه القدر أن يتعذب لبقية حياته . لكنه بالمقابل أقسم وهو يغادر أنهما لن يهنآ بعيشهما طالما بقي له نفس على قيد الحياة .

اقرأ أيضا : السطح

فريدة

كان لابد لها من لقاءه، حتى تسمع منه أولاً حديثه المهم عن عمار ولتخبره ثانيا أنها ترفض عرضه . هي ليست في موضعٍ يسمح لها بالارتباط تحت أي مسمى في الوقت الحالي، عليها أن تتعافى أولاّ، أن تقف على قدميها . ألا تلقي بحياتها تحت ظلّ رجل مرة أخرى، عليها أن تكون قوية، شجاعة، وسيّدة نفسها بنفسها .

قابلته في الحديقة، ذلك المكان المشؤوم الذي لم ترد قط أن تعود إليه مرة أخرى لولا الضرورة . لا تفضل لقاء المطاعم والمقاهي . تخاف أن يراها شخص تعرفه فتمسي في دوامةٍ من المشاكل كانت في غنى عنها .

_ تفضلي واجلسي .

قال لها بابتسامته البشوشة ليردف مازحا :

_ ظننت أنك لن تأتي، خيبتِ توقعاتي .

أطلقت ابتسامة هادئة قلّما زارتها في الأشهر الأخيرة وأجابت :

_ لأسمع منك وتسمع مني كان لابد من مقابلتك، الحديث على الهاتف لا يكفي .
_ أخبرها عن مخاوفه وشكوكه تجاه عمار، طلب منعا أن تنتبه جيدا لنفسها .

بعد أن سمعت منه وأمنت على كلامه نطقت بغتة ودون مقدمات :

_ آسفة يا كريم، إني أرفض عرضك للزواج .

حدق فيها للحظات ثم نطق متعجبا :

_ لكن لماذا؟، إني أود مساعدتك وانتشالك من الموقف الصعب الذي تعيشين!! .

حدثته عما تفكر به، عما تحلم به . عما تريده، زيارة معالج نفسي، إكمال دراستها، أن تجد عملا وتقف على قدميها من جديد .

ثم إنك تستحق حياة حقيقية وليست مزيفة . علاقتنا مصيرها الزوال مع الوقت فلا أنا أحبك ولا أنت …

_ بل أفعل .

قالها متعمدا، واثقا، دون أي ضغوطات، يكفيه دفنا لمشاعره، ليبح وليكن ما سيكون .

رفعت إليه رأسها وقد جحظت عيناها، لم تصدق ما سمعت، أرادت أن تنطق فلم تستطع . لكنه قطع عليها دهشتها وهو يقص عليها بما وارى عنها من مشاعر وأحاسيس تجاهها عششت داخله لسنوات .

_ أحببتك بصمت من كل قلبي، وماكان يحول بيني وبين التقرب إليك هو عمار والآن لم يعد موجودا . أعيدي التفكير ثانية . واطمئني فلن أكون عائقا أمام طموحاتك ما حييت .

_ سنتحدث مجددا .. إلى اللقاء الآن .

قالتها مغمغمة بشفاه مرتجفة وهي تقوم مسرعة لتغادره متجنبة النظر في عينيه . كانت كلماته وإن بدت صادقة تحرك ذكريات بعيدة داخلها . لتعيدها إلى زمن مضى سمعت فيه حديثا مماثلاً تحاول قدر الإمكان نسيان تداعياته وتجاوزها .

كريم

كان اللّيل قد أسدل ستاره، لزم معظم الناس بيوتهم وخَفّت الحركة في الحيّ حين نهض العم رشيد عن كرسيه وأمر ولده قائلا :

_ وضب الدكان وأغلقه يا ولدي، إني ذاهب إلى المنزل .

أومأ برأسه موافقا وفيما هو مستعد لتوضيب السلع راح يفكر في ردة فعل فريدة، كان مرتاحا أنها لم تكن قاسية . بالعكس فصمتها وهروبها المستعجل يجعلاَن حظوظه في قبولها الزواج منه أقوى .

أغلق الدكان ومن ثم وضع يديه في جيبه وراح يسير باتجاه منزله الهوينى . يستنشق هواء الليل الندي ويمنّي نفسه بأيام سعيدة مع حبيبته حين اعترض عمار طريقه . زفر كريم وقد استحالت طمأنينته غضبا :

_ ألا تدعني وشأني يا هذا، لقد ضقت درعا بتصرفاتك .

_ تعال معي إلى المنزل يا كريم أريد أن نتحدث .

_ لاشيء لنتحدث عنه، ابتعد عن طريقي .

_ رجاء يا كريم إني في أمس الحاجة لمشورتك .

لمس كريم نبرة الحزن والانكسار في صوته عكس ما كان يبديه من تبجح وغلاضة منذ أيام فأجابه محذرا :

_ لكنها ستكون آخر مرة .

تنهد عمّار بحرقة وهو يجيبه :

_ اطمئن يا صديقي، لك وعد مني أنها ستكون آخر مرة .

اقرأ أيضا : ضحايا الحب

الفصل الأخير

“لم يعد في وسعي التحمل، أعطني البندقية”

“ماالذي ستفعله؟، الإنتحار خطيئة! “

“أيّ انتحار أيها الأبله، سأقتل الجميع”

فريدة

كانت الساعة تقارب منتصف اللّيل حين كانت تمسك بهاتفها النقال وتذرع الغرفة جيئةً وذهابا، كانت تغرق في دوامة أفكار تتطاحن فيها ذكريات الماضي؛ وما يفرضه عليها الحاضر؛ وما تأمله من المستقبل . كل شيء كان مشوشا داخل رأسها، كانت تريد اتخاذ قرار يناسب حياتها ولن تندم عليه آنفاً، يكفيها ما لحق بها نتيجة قرارات لم تحسب حساب نتائجها .

قطعت سلسلة أفكارها صوت رنة الإشعارات الخاصة بهاتفها، كانت رسالة على الفيسبوك من حساب غريب لم تعرفه قبلا.. فتحتها لتجدها صورة لكل من كريم وعمّار، تملكتها الرجفة وهي تلاحظ فوهة بندقيّة الصيد الخاصة بعمار موجهة على رأس كريم، لم تستطع رجلاها حملها على الوقوف فهوت جالسة على الأرض، وضعت يدها على فاها وكتمت صرخة كانت ستفضح أمرها، تملكها الرعب والهلع، لم تعرف ماذا تفعل، كان هذا قبل أن تعاجلها الرّسالة القاضية ” تعالي إلى هنا وإلا مات حبيبك” .

سقط الهاتف من يديها، وضعت كلتا يديها على وجهها وراحت تنشج نشيجاً صامتا حارقا، لقد انتهى كل شيء، سيقتل كريم، وسيقتلها هي . لقد عرفته جيدا لتدرك أنه لا سبيل للفكاك منه، حدثتها نفسها ألاّ تذهب، فتكاد تقسم أنها تسمع تحذيرات كريم يصيح بها ألاّ تأتي، لكن كيف ستتركه وتتخلى عنه وكل ما يحدث له كان بسببها !! .

لم تترك الحياة مصيبة إلا ومَنتها بها، تخرج من حفرة لتسقط في حفرة أعمق، حاولت الرضا، التقبل، لكن قسوتها فتكَت بها، دمرت كيانها، وألقت بها في قعر هوة اليأس . أمسكت هاتفها وردت باقتضاب ” أنا قادمة ” ثم مسحت دموعها وتأهبت واقفة لتغيّر ملابسها وتتسلل بهدوء خارج المنزل فلم يعد لديها ما تخسره .

كريم

_ أخبرتك ألا شيء بيننا، دعها وشأنها، ألا يكفيك ما فعلته بها يا أخي ! .

صاح بها كريم غاضبا في وجه عمار، فلا حيلة له غير محاولة التفاهم معه بالكلام طالما أنه يسدد بندقيته في وجهه مهددا اياه بالقتل فورا في حال حاول الفرار .

كان عمار يمسك ببندقيته متأهبة ويطوف في أنحاء غرفة الجلوس، يراقب صديقه بعينين ثاقبتين، يزدرد جرعة من قارورة الشراب تارة، ويلقي عليه وابلاً من الأسئلة تارة أخرى ..

_ منذ متى تلتقيان؟، هل أحبتك مثلي؟ قبلي أم بعدي؟، هل خنت صداقتنا لأجل امرأة؟، لماذا فعلت يا كريم؟.

تأكد كريم ساعتها من أن صاحبه ألّمَ به شيء من الجنون :

_ أنت تهذي يا عمار، ضع السلاح واسمعني .

تجاهله الآخر وراح يضحك ملء فمه قائلا :

_ لا تتعب نفسك، ستأتي حبيبتك وسأعرف منها كل الحقيقة .

من الواضح أنه كان ثملاً، هكذا فكر كريم . أي أن فرصته لسحب السلاح من يده قوية إن ركز قليلا .

دُق باب المنزل دقات خفيفة، عرف كريم أنها هي فهتف :

_ لماذا يا فريدة، لماذا؟ .

كانت شاحبة، مصدومة وخائفة، مبتعدة قدر ما استطاعت من عمار تقدمت إلى حيث كان وأسرعت لتقف إلى جانبه .

عضّ على شفتيه قائلاً بصوت خفيض :

_ ستموتين، هل هذا ما تريدينه؟ .

والرعدة تسري بأطرافها أجابت :

_ أصبحنا اثنين .

_ إذن من منكما يريد أن يقصّ القصة؟.

قالها ساخرا وهو يوجه السلاح نحو فريدة .

_ عمار، أخبرتك أنك تتوهم .

_ اصمت أنت ! .

زجره بعنف ثم توجه بكلامه نحو الأخرى وهو يترنح يمنة ويسرة غير قادر على الاستقامة :

_ ألم تجدي غير صديقي؟، هل ضاقت عليك الدنيا بما فيها من رجال؟ .

حدجته بنظرة حادة، ثم نطقت بكلماتها المشحونة بالكره والحقد والغضب والمرارة :

_ ليس كل من فيها رجال .

فهم ما ترمي إليه، لقم البندقية فارتعشت خوفا وتمسكت بذراع كريم الذي أمسك يدها لطمأنتها ثم التفت وصاح بوجه صديقه :

_ لا تتهور .. أقسم أنك ستندم ! .

قربهما في تلك اللّحظة أوقد نيران الغيرة في قلبه، أراد أن ينتقم منهما ويستفز كريم، رمى القارورة من يده وحاول أن يتوازن موجها السلاح نحوه قائلا :

_ هل تذكر يا كريم، منذ عدة أشهر أخبرتك بشيء واضح أنك نسيته .

ابتلع كريم ريقه وهو يسدّد نظره على السلاح خائفا من طلقة طائشة تودي بحياة أحدهم فيما استرسل عمار :

_ هل ترى الفتاة التي تقف إلى جانبك؟، الفتاة التي أغلب الظن أنك تريد الزواج منها؟ .

أطلق ضحكة صاخبة ثم أردف :

_ لقد حصلت عليها، على جسدها، لقد لمستُ كل شبر فيه .

_ أصمت أيها القذر .

قالتها عاجزة عن الوقوف أكثر فجلست أرضا وراحت تبكي بحرقة .

عمّار

استغل كريم الفرصة لحظة شرود عمار واندفع غاضبا نحوه محاولاً سحب البندقية من يده . اشتبكت أيديهما للحظات والأخير يكافح ليستلها من يد صديقه، وعن غير قصد ضُغط على الزناد لتنطلق رصاصةٌ اخترقت جسد كريم ليختل توزانه ويسقط هامدا في حِجر فريدة .

صمت عمار لدقائق قليلة وهو ينظر إلى دم صديقه يسيل ليخضب يدي وملابس فريدة التي كانت تبكي وتصرخ صراخا عاليا هستيريا محاولة إيقاظه . كانت الدموع تغالب قسوته لتفرّ أخيرا من عينيه، أطلق تنهيدة عميقة ثم أعاد تلقيم البندقية مرّة أخرى، وضع فوهتها على رقبته فيما تدحرجت عبرات مُرّة على وجنتيه . أغمض عينيه وهو يضغط على الزناد ببطء، فكر بحياته وبفشله فيها . وألا شيء مما مرّ به كان حقيقيا وثابتا وكأنه كان يعيش حلما آن له أن يستفيق منه .

” لايمكنك أن تشفى في نفس البيئة التي جعلتك مريضا.. غادر”

رفعت فريدة رأسها ناحيته فهدأ عويلها فجأة، كانت قد لاحظت ما كان يفعل، لم تنتظر ثانية أخرى لتطلق صرخة مدوية هزت نوافذ وجدران المنزل القديم :

– عمّار، لا تفعل !! .

فتح عينيه ثم أطلق ابتسامة خفيفة وهو يناظرها . وفي نفس الوقت اندفع دوي الرصاصة لتخترق عنقه وتفجره، ويخرّ هو صريعاً على الأرض .

خاتمة

” سوف تحترق، وستخبو، وستُشفى وتقف على قدميك من جديد “

دفعت العربة أمامها برفق فيما كانت تراقب الطريق أمامها بحذر خشية أن تتعثر، فالطريق المؤدي للحديقة كان متربا، وعرا وغير معبّد . وصلت إلى البوابة الرئيسية وراحت تدير وجهها يمنة ويسرة باحثة عنه لتصطدم به عيناها قادما بسرعة من بعيد، كان عرج رجلِه واضحاً إلى جانب الإبتسامة البشوشة التي كانت لا تفارق شفتيه قط، تلك أحد الأسباب التي جعلتها تتمسك به رغم كلّ ما مرّ عليهما من مصائب ونوازل .

وقف أمامها أخيرا وهو :

_ هل انتظرتِ طويلا؟، آسف فالعمل اليوم كان كثيفا .

نفت برأسها أن لا، ربت على كتفها ثم انحنى ليطبع قبلةً على الصغيرة النائمة وسط العربة ويردف :

_ لندخل الآن ونتجول، الطقس ربيعي لطيف، سنستمتع .

أخذ عنها مقبض العربة وراح يدفعها للداخل وهي تتبعه، كانت تنظر إليه ممتنةً وهي تفكر في تلك الأيام البعيدة التي مضت، وكيف خرج كِلاهما منها معطوبين، معطوبي أجساد وأرواح، فقدت صوتها، وفقدَ طبيعية ساقِه، لكنهما وضعا الندم والانتكاسة والخيبة والحزن الذي جمعهما في نفس السلّة وقررا أن يحملاها سويّا ويواجها بها الدنيا معاً على قلبٍ واحد … غير قابل للكسر .

ملاحظة :

*خاطرة أهدتها لي “نوار” مديرة التحرير السابقة منذ سنوات، أردت إدراجها في القصة كتعبير عن امتناني لها .

الإقتباسات للكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي .

وفاء

الجزائر
guest
58 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى