أدب الرعب والعام

واختفى كل شيء

بقلم : رنا رشاد – المغرب

تربعت على عرش من الثلج تبتسم بثقة وكبرياء
تربعت على عرش من الثلج تبتسم بثقة وكبرياء

حين يتساقط الثلج مدرار تخرج هي , فتجمد بسحرها كل من وقعت عليه عيناها .. وعلى قمة الاطلس تربعت بكل كبرياء .

* * * * *

يمكنك البدء بالعمل منذ الغد .
كبتت ريم ابتسامتها بصعوبة غير ان نبرة صوتها المبتهجة عكست مدى سعادتها بالخبر , وبكلمات منتقاة بعناية قالت
– شكرا لك ياسيدي .

اومأ الرجل الكهل برأسه بصمت فاستأذنت ببضع كلمات وخرجت من غرفة المكتب برزانة سرعان ما تلاشت فبدأت قدماها ترقصان بها يمينا ويسارا وضحكاتها ترن بين جدران المتحف العريق غير عابئة بنظرات الاستغراب و الاستنكار التي رشقها بها الزبائن

هاهي اخيرا وبعد ثلاث سنوات من التشرد ذاقت فيها اشهى اصناف العذاب تلامس بيدها النعيم وهاهي تتخذ اول خطوة نحو باب جديدة , انها تصعد الدرج الان وماعليها سوى الاستمرار .ان لذة الانتصار اشهى من كل انواع الفطائر المحلاة التي عرفها العالم وهي لن تتوانى لحظة للحصول على قضمة تلو الاخرى حتى وان تخلل طعمها بعض المرارة !

بقلب يطير فرحا خرجت إلى الشارع ومنه إلى غرفتها الصغيرة بإحدى الاحياء الجانبية , قد تكون غرفة قذرة رطبة وباردة , وتمتلئ بالصراصير لكنها تبقى افضل من ظلام الليل الموحش وادفئ من برودة الشارع القارسة . بها لوح خشبي يمكن اعتباره سريرا وقاعدة اسمنتية تشبه مايطلق عليه بالمطبخ الصغير وغير ذلك فهي مطلية بلون اخضر باهت وتمتلئ ببضع خرق بالية وكومة من الملابس الرثة .

انها غرفة مثالية ; لفتاة لازالت في بداية طريقها نحو الثراء , فتاة بدأت للتو مغامرتها لاكتشاف العالم الواسع .

اول مافعلته هو تفقد رزمة المال الصغيرة التي كانت تخفيها في أحد تلك الثقوب التي تزين الحائط , جذبت الاوراق البالية بيد ترتجف لتجد ان رأس مالها لايتعدى مئة درهم كانت قد سرقتها فيما مضى من امراة عجوز . جلست على السرير منهكة وهي تتامل الورقة البرتقالية الرطبة ودت لو تشتري ثوبا جديدا لتداوم به عملها الاول غير انها ان صرفت المال على الثوب ستبقى بلا طعام طوال الشهر وهي لن تتلقى راتبها الاول إلا بعد خمسة عشر يوما من الآن هذا إن استمرت بالعمل ولم تطرد ,كادت الدموع تفر من عينيها لكنها عزمت على سجنها في فيروزيتيها وأسرعت تعيد الورقة إلى الثقب وتتفقد جيوبها لتخرج منها بضع دراهم متفرقة لم تتعدى الخمسة والنصف تبقت لها من أجرة السيارة .

لابأس .. لأباس ياريم أنت قادرة على البقاء والاستمرار، مجرد ثوب مهترئ لن يغير شيئا من خططك .. لابأس.

بهذه الكلمات الخافتة شجعت نفسها على الاستمرار ثم اتجهت لتسخين بعض العدس المتبقي لها من الغذاء الحقتها سريعا بسيجارة رخيصة وهكذا انتهى يوم آخر من أيامها الرتيبة أخذا معه أعوامها الاثنين والعشرين بلا عودة
——————————–

بعيون تفيض أدمعا اخذت ريم تقلب الاوراق الزرقاء بين يديها .الف درهم !نعم هذا راتبها لهذا الشهر الف درهم مكونة من اوراق زرقاء لامعة لاتزال رائحتها نفاذة وجميلة , انها من عرق جبينها , من تعبها , لم تسرقها ولم تتسولها يالله كم هذا الشعور جميل , انها على الطريق الصحيح بلى هي كذلك وستستمر .

ركضت سريعا إلى أقرب محل لتشتري لنفسها فستانا أزرقا وشالا وحذاء جديدا بمئتين وخمسين درهما لم تندم أبدا لصرفها فهي تاقت لهذه اللحظة طويلا .
بعدها اتجهت لتحضر لنفسها بعض الدجاج والفواكه التي زقزقت معدتها طويلا لأجل تذوقها , ثلاثون درهما لابأس بصرفها ايضا !لابأس بها ايضا .
يوجد حلي جميل هنا مصنوعة من النحاس وهي رخيصة جدا , احتاج شيئا يوقظ انوثتي من غيبوبتها !
رباه هل ذاك يبيع غزل البنات ؟
البرد قارس ذلك المعطف الاسود يبدوا جميلا !
اوه هل هذا الخف الوردي مصنوع من القطن !
يقول ان نصف كيلو من السمك بسبع دراهم !
لا لن اقاوم تلك السكاكر تبدوا شهية جدا وهي بدرهمين فقط !
تلك وتلك .. ورباه تلك ..!
اوه لقد نسيت علبة السجائر ! والصابون ايضا …و…. و … سأعود لجلبهم .

حين استفاقت ريم أخيرا من سحر المال والتسوق الغير منتهي وجدت نفسها قد صرفت كل ما تملك باستثناء ثلاثون درهما لاتعرف كيف استطاعت الحفاظ عليها , كان الامر اشبه بصدمة فأمامها شهر بطوله تحتاج لتطعم نفسها فيه كما انها يجب ان تدفع ثمن الايجار المقدر بمئة وستين درهما , ماذا ستفعل ؟

بعصبية رمت الأكياس من يديها واشعلت سيجارة , فإثنتان دخنتهما بشراهة وهي لاتتوقف عن التفكير , هل عليها ان تسرق مجددا كي لاتطرد من مسكنها ؟ هل عليها ان تعود لنفسها القديمة .. لا لا يمكن لن تفعل , بينما هي غارقة في تفكيرها لسعتها نار السيجارة المنتهية فاطلقت انة خافتة قبل ان تمتم وهي تسحقها تحت حذاءها الممزق
انت ايضا عادة سيئة .. تعيدنني لذاتي القديمة , يجب ان اتخلص منك وإلا فإني لن اعيش بسلام
بعزم امسكت بقايا السيجارة والعلبة الرمادية لترميهم خارجا وتغلق نافذتها الصغيرة مانعة دخول الباعوض والذباب .

ذهابا وإيابا جابت غرفتها الصغيرة ثم أمسكت كأسا مسجورا من الماء أفرغته في حلقها دفعة واحدة حتى كادت تشرق به .

وأخيرا اومضت فكرة سريعة في عقلها خلصتها من همومها فرمت جسدها المنهك على السرير بارتياح واغمضت عينيها لبضع ثوان بينما تراقصت بسمة على حمرواتيها , سريعا ماستبدلت ذلك الخمول الذي اصابها بالنشاط فعكفت تتفقد مشترياتها بحماس طفلة صغيرة وتتذوق الحلوى التي اشترتها بنهم , فهذه بطعم الليمون الحامض المنعش وتلك شكلها يشبه سمكة هلامية صغيرة ..انها لذيذة جدا .
——————————

خطوة للأمام وأخرى للخلف , التردد والتوتر ينهشان كبدها نهشا , ترى هل سيوافق على اقراضها البعض من المال ام انه سيطردها من مكتبه ,وربما من العمل كله .
وقفت امام الباب البني الضخم وطرقته بأدب غير انها احست بصدى تلك الطرقات يتردد بالجدران التي أمامها كموجة كهربائية مما جعلها ترتجف اكثر عن ذي قبل .

– أدخل ..

تناهت إلى مسامعها تلك الكلمة الخافتة فدفعت الباب ببطء ليصدر صريرا ذكرها بأفلام الرعب ، سحب الرجل رأسه من بين اوراق الملفات المتكدسة على مكتبه وركز عينيه الضيقتين على ريم وعدل عويناته ليقول :
– نعم يا آنسة ؟ ماطلبك؟

تردد ثم قالت بصوت متلعثم
– أتيت إليك ياسيدي لأطلب قرضا من المال .

– تعلمين أنك تعملين لدى متحف وليس بنكا..

تشتت أفكارها فجأة فقالت :
– أعرف … لكني صرفت المال كله ولم اعد املك شيئا .
أعاد رأسه لأوراقه قائلا بلا مبالاة :
– لايهمني ..

– أرجوك ياسيدي أرجوك سأطرد من شقتي ولا املك مكانا يأويني … أرجوك ياسيدي ..
صمت قليلا ثم قال بتنهيدة :
– كم ايجار الشقة ؟
– مئة وستون درهما..
همهم ثم أخرج من جيبه ورقة من فئة مئتي درهم وقال :
– خذي هذا المبلغ سددي به ثمن شقتك .. لكنك يجب أن تعلمي أن المبلغ سيقتطع من راتبك الشهر المقبل ..

شعرت بالحزن لذلك لكنها أجابت بإذعان
– لابأس ياسيدي أنا موافقة.

بعدما استلمت المال غادرت المكتب بسرعة لأن الرجل بدى انه لايطيق وجودها أكثر من ذلك . وحين وصلت لغرفتها ذهبت لغرفة صاحبة المنزل واعطتها المال دون اي كلمة ومن ثم عادت لغرفتها لتغرق بالتفكير وهنا شعرت برغبة عارمة للتدخين لم تستطع كبحها وحين بحثت عن علبة سجائرها لم تجدها فتذكرت انها قد سبق و رمتها لتنتابها نوبة غضب شديدة على إثرها جلست تشد شعرها بجنون حتى كادت تقتلعه من جذوره ،كيف فكرت انها بإمكانها التخلص من إدمانها بتلك السهولة ؟ ربما تكون قد تخلصت من التشرد وحياة الشارع القذرة لكن إدمانها رافقها مايزيد عن الأربع سنوات ولايمكنها ان تتخلص منه بين ليلة وضحاها .

أمسكت فجأة دراهم معدودة واسرعت تخرج من غرفتها بجنون وحين وصلت لأقرب بائع شعرت بالخوف والتردد , فهل ستعود للتدخين مجددا بعدما وعدت نفسها بالتغير كليا , ماذا تفعل , ماذا تفعل ؟
لانت منها التفاتة لتجد بضع مصاصات يقفن شامخات بجوارها وبدون وعي منها اشترت منهن عشر حبات كاملة ودفعت ثمنهن ثم عادت لغرفتها مسرعة قبل ان تقدم على اي ذنب تندم عليه فيما بعد.

طوال تلك الليلة ظلت ريم تدس داخل فمها مصاصة تلو الأخرى لعل ذلك يطفئ رغبتها الجنونية بالتدخين ، ولكن ذلك كان صعبا جدا ففي الغد والأيام التي بعده داهمها الصداع بشدة وأصبحت سوداوية المزاج مع الكل حتى انها إفتعلت شجارا سخيفا مع أحد زائرات المتحف ووقع بينهما شد وجذب ولم تندم أبدا على ذلك حين رموها في قبو مظلم يتصل بالمتحف , بل شعرت بالنشوة وهي تحدق بالدماء التي تغطي يديها وقد أنساها ذلك صداعها لثوان قليلة ولكنه مالبث أن عاد بقوة يطرق رأسها بشدة وكأنه وحش كاسر يريد أن يتحرر من شبكة أعصابها ليخرج للعالم ويفضي بشره إليه .

ركعت على قدميها وأمسكت رأسها بقبضة محكمة تضغطه بشدة لعل الألم يخف ولو قليلا لكن هيهات لقد تفاقم الألم وازداد فبدأت تجوب الغرفة الضيقة ذهابا وإيابا , تصرخ ملئ حنجرتها , وتأخذ أنفاسا سريعة امتزج هوائها برائحة الغرفة العفنة .

لقد كان ذلك أشبه بالجحيم حبات العرق تتأرجح على جبينها وتنحدر على أنفها الطويل لتسقط على الأرض مصدرة صوتا رتيبا , جل ما تريده الآن سيجارة واحدة فقط و كل أعضائها تصرخ بذلك الطلب البسيط لكن لامجيب .

فجأة اتجهت نحو أقرب حائط إليها وكالمغيبة بدأت تضرب برأسها على الجدار محاولة طرد ذلك الوحش من عقلها بالقوة لكن ودون سابق إنذار سقطت إحدى الأجورات عن الحائط فتراجعت ريم بهلع وبدهشة لامتناهية تحسست جبينها المدمى وقطعة الياجور الحمراء التي سقطت على الأرض وانكسر بعضها إلى أشلاء , وبصوت خشن مختنق تمتمت
– اوه ! يا الهي ماذا فعلت ؟

حركت عينيها بين الفراغ بالحائط وبالاجورة النائمة أرضا ثم عادت تتحسس رأسها من جديد
– اوه ! هل أنا من فعل ذلك فعلا ؟

تقدمت بشرود نحو الحائط ولمسته وماكادت تفعل حتى سقطت اجورة أخرى مصدرة دويا أكبر من أختها فتراجعت خائفة واستدارت تنظر نحو باب القبو بحذر وأنفاس منقبضة , لكن ملامحها ارتخت مجددا فتقدمت بفضول أكبر نحو الحائط ودست رأسها بالفراغ لترى مايوجد بالداخل , كان كل شيء مظلما فلم تلمح شيئا لكن حين حركت بؤبؤها قليلا بأرجاء الغرفة لمحت بلورة صغيرة نائمة بهدوء على مخدة بيضاء ناصعة , جذبها الشعاع الازرق الخافت الذي كانت تصدره فأخذت تزيح الياجور بحذر وتضعه أرضا حتى صنعت فتحة أكبر استطاعت الدخول منها .

وقفت أمام الحائط للحظات تجول بعينها في الظلام وتتفقد الغرفة التي كانت فارغة إلا من تلك البلورة الصغيرة , تقدمت نحوها بخطوات مترددة ولكن حين وقفت أمامها بدت مسحورة بجمالها البراق .

كانت الكرة الصغيرة تقف على عامود اسمنتي طويل وتنام كطفلة وديعة على تلك المخدة البيضاء الناعمة وهي تصدر ذلك الضوء الازرق الخافت , لمحت شيئا يتحرك داخلها وحين ركزت نظرها تبينت رياحا ثلجية تتحرك بخفة داخل تلك البلورة الصغيرة وتوجد بتلة ثلج زرقاء تتمايل يمنة ويسرة مع تلك الرياح العاصفة

خطف المنظر لبها فمدت يدها نحو تلك الكرة تتحسها , كانت باردة كقطعة ثلج ولكنها ناعمة في نفس الوقت كقطعة من الحرير , بقيت لثوان لاتعرف امدها مسحورة بمنظر الكرة الفضية تمرر يدها عليها و تداعبها كطفلة بينما ضوءها الازرق ينعكس داخل عيون ريم الفيروزية فيشكل تناسقا لامثيل له .

فجأة أحست ريم بشيء يلسعها فأبعدت يدها عن الكرة وأصدرت أنة خافتة وحين نظرت ليدها وجدت شكل بتلة ثلج ينحت على راحة يدها وماكادت عملية النحت تنتهي حتى سمعت صوت رياح هادرة تعصف بعقلها ومرت بجسمها قشعريرة باردة جعلتها تحتضن نفسها بقوة طلبا للدفئ
وشيئا فشيئا تلاشت البرودة وتدفئ جسمها من جديد واختفى معها صوت الرياح .

عادت ريم ببصرها إلى الكرة الصغيرة التي أصبحت خالية من اي حياة بل أصبحت كرة شفافة كأي خردة أخرى تشبهها وكرد فعل طبيعي نظرت ليدها اليمنى حيث نامت تلك البتلة الصغيرة بأمان .

شعرت بالخوف فلمست الكرة من جديد وكأنها تريد أن تعيد لها الحياة التي سلبت منها ولكن البلورة الزجاجية ضلت ميتة وبلا روح فأسرعت ريم تغادر الغرفة بخوف وبسرعة جهنيمة أعادت الياجور إلى الجدار وأغلقت الفتحة من جديد .

هلاوس وأفكار عدة هاجمتها من كل حدب وصوب
ماذا حدث؟ لما أصبحت تلك الكرة خردة كئيبة لانفع منها بعدما كانت تشع بالحياة ؟ ماقصة تلك البتلة التي تسكن يدي اليمنى ؟ وماالذي ستفعله بي ؟

آه يالهي آه يا إلهي ! ماكان علي أن أنساق وراء فضولي وأجني على نفسي مصائب لا أدري كنهها , آه يالهي ليتني بقيت أصارع صداعي في صمت وماتقدمت نحو ذلك الجدار الملعون , الآن ستغرقني المصائب من كل جهة , إني في ورطة يا إلهي , لابد انها لعنة ستغرق البشرية جمعاء في شرورها وسأكون أنا السبب في ذلك , آه يا إلهي ماذا أفعل ماذا ؟

ماذا عن مديري ؟ لابد انه يعلم بأمر تلك الكرة اللعينة ؟ وما ان يعلم أنها اختفى بريقها حتى يطردني من عملي او ربما يجرجرني في المحاكم … ماذا ان فكر باقتلاع تلك البتلة من يدي ؟ آه رباه لا ياربي لا !

ومضى عقلها المتعب يصور لها ابشع طرق القتل والتعذيب التي عرفها العالم فارتجف كيانها وعاد صداعها – الذي كانت قد نسيت أمره – يعصف برأسها لتطلق صرخة الم مدوية تزامنت مع تحرك الرياح بغرفتها وانفتاح باب القبو بقوة .

كانت ترتجف بشدة , صداعها امتزج بصوت رياح عاصفة صدحت بعقلها فاصطكت أسنانها بقوة وسقطت أهدابها السوداء على عينيها لتمنع عنها الرؤية ولم تعي أبدا ذلك المعطف الذي القي فوق كتفيها طاردا البرد من عظامها ولا بتلك اليد القوية التي حملتها كريشة لاوزن لها .

كانت تهذي بكلمات لامعنى لها وصفير الرياح اشتد اكثر فكاد يفجر أذنيها لذا لم تجد حلا سوى ان تستسلم لتلك العاصفة الهوجاء التي تناديها وتنغمس بالظلام .. ليختفي كل شيء

—————–

صحراء بيضاء تمتد على مد البصر وهي وحدها ضائعة هناك , تصرخ فلا تسمع سوى صدى صوتها يتردد بين تلك الكثبان الثلجية , البرد تخلل عظامها والرياح تضرب جسمها الصغير بقوة فتترنح قدماها بها مع كل خطوة تخطوها نحو المجهول .

انها يائسة , متعبة وتشعر بالبرد , ياترى اليس لهذه الصحراء نهاية , اليس هناك ضوء بآخر النفق , رباه إني عاجزة أجبني رباه أجبني !

صوت ما ناداها من بعيد لتستفيق , لتستيقظ ولتعود للحياة , بدأت تدور حول نفسها تصرخ
استيقظ من ماذا , هل هذا حلم ياترى ؟
– ريم استيقظي

– من أنت ؟ آه انا أعرفك لكني لا أتذكر .

الصوت بدأ يخبوا ويبتعد فدبت حرارة مفاجئة في عروقها دفعتها لتركض بأقصى قوتها لتلاحق ذاك السراب لعله يكون خلاصها وماكادت تفعل حتى هبت رياح ثلجية قوية جذبتها للإتجاه المعاكس فلم تنفع مقاومتها ولاحتى صراخها وحين خفت الصوت تماما واختفى اسلمت ريم جسدها لتلك الرياح الباردة وتركت الثلج يلتصق بها وهناك تحت تلك الكثبان الثلجية دفنت حية بينما تردد صوت جهوري قوي طغى على صوت الرياح : 

-“أنت ملك لي … وستبقين ملكا لي للأبد , هيا نامي ياملكتي نامي فقريبا جدا سنصبح جسدا واحدا وسنحتل هذا العالم “.

————-

همسات متداخلة وأصوات غريبة داعبت آذناها ببطئ , فتحت عيناها ليقابلها ضباب أبيض لانهاية له ورأت بين طياته أشباحا تتمايل هنا وهناك أغلقت عيناها من جديد مستسلمة لسلطان النوم..
– لقد عادت للنوم من جديد , دعوها ترتاح.
تمتم الطبيب الكهل وهو يدفع شابا طويلا خارج الغرفة .

بعد سماعها لصوت الباب يغلق علا صوت الرياح بداخلها فتفحت عيناها مرعوبة , لوهلة لم تميز انها تقبع داخل مشفى بل أخافها البياض المحيط بها فقفزت جالسة على سريرها وأخذت تصرخ مستنجدة لعل أحدا يسعفها ويطمئنها بكلمات ولو كانت قليلة .

وبينما هي في صراخا وعويلها
إقتحم الغرفة دون سابق إنذار شاب قوي البنية , فالتفتت إليه ريم لتصتدم بعينيه الكحليتين , وعلى حين غرة تدفق سيل من الذكريات إليها فعلمت على الفور أن ذلك الشاب ليس إلا زميلها في العمل حسام , لطالما تتبعته بعينيها الخجلتين وهو يشرح للزبائن تاريخ المتحف ويشرح لهم أهمية كل قطعة وعظمتها . لكم أعجبت بجمال الكلمات وهي تتدفق من فمه كالزبد الطري وأعجبت بروح النكتة التي كان يزين بها معلوماته التاريخية حتى لا يسأم منه الزبائن ويفقد إنتباههم وأكثر ما كانت تتطلع إليه بعد كل فسحة كوب القهوة التي كان يشاركها إياه بعد كل ظهيرة , لقد كان حسام الشاب الذي حاز على إهتمامها وكاد يسيطير على قلبها نعم كان هو حسام .

كل تلك الذكريات عادت إليها في ثوان ولكنها أبدا لم تستشعر جمالها وعذوبتها , بل أحست أن تلك الذكريات ليست ملك لها , ربما هي لشخص آخر لكنها ليست لها . إنها تحس وكأنها خلقت من جديد , أنا جديدة , أجل إنها ليست ريم التي كانت عليها البارحة , إنها ريم جديدة ولم تشعر بالألم لذلك بل بارتياح ليس له مثيل .

تقدم الشاب منها بخطوات سريعة وسألها بكلمات صادقة عن شعورها وسبب صراخها فأجابت بهدوء وهي تعود لتسترخي فوق سريرها:
– حلمت أني دفنت في الثلج لذا خفت من بياض الغرفة , هذا كل شيء .
اغتصبت إبتسامة وأردفت
– شكرا لسؤالك .. ياحسام .

قرأت نظرات حائرة بعينه وسمحت له بتفحصها باستغراب دون أن تبدي أي إنزعاج , وبعد ثوان جذب كرسيا ليجلس قربها وقال بلطف :
– يسرني أنك تخلصت من ذاك الكابوس .
وصمت قبل أن يردف :
– هل أنت متأكدة أنك لاتعانين من أي ألم ؟ كنت ترتجفين من الحمى حينما أحضرتك لا بد أن عقوبة المدير كانت قاسية جدا عليك .

هزت كتفيها بلا مبالاة
– كل شيء مضى ولن يعود ..
كانت تعني بذلك شيئا غير الذي فهمه لكنه وافقها بسذاجة قائلا :
– نعم مضى ولن يعود.. أحمد الله أني أسرعت إليك ما أن علمت بقرار المدير من أحد زملائي الثرثارين , أنا أعمل مدة طويلة بالمتحف لذا أعرف قساوة القبو خصوصا بهذا الجو المريع ..

ومضى يثرثر عن عمله بالمتحف وقساوة القبو , غير أن ريم لم تكن منصتة إليه بل ركزت على صوت الرياح التي عادت لتعصف داخلها وعلى غير ما توقعت وجدت نفسها تنغمس بها وتشعر بالأرتياح لسماعها بعدما كادت تقلب المشفى رأسا على عقب قبل لحظات بسببها , وكان هذا شيء عجيب جدا لذا هزت رأسها للجانبين بصمت وارتسمت إبتسامة عذبة على شفتيها وهي تحس بالبرد يتدفق عبر شرايينها بعدما كادت أنفاسها أن تضيق بسبب حرارة الغرفة المعتدلة , كان شعورا رائعا لذلك ابعدت الملاءة عنها لتسمح للبرد ان يتغلغل داخلها اكثر فأكثر , كانت قد نسيت وجود حسام بجانبها ولكن الحرارة التي كانت تتدفق من جسده أزعجتها فنظرت إليه بجبين متقطب ولكنه لم ينتبه لإنزعاجها منه بل مضى يكمل ثرثرته وحينها انتبهت ريم أنه إنتقل من التحدث عن القبو إلى طموحاته وأحلامه وكم أدهشها ذلك غير أن حرارته التي بدأت  تتسرب إليها منعتها من الإنجراف وراء دهشتها و أفكارها فزحفت خطوات قليلة مبتعدة عنه قبل أن تسعل للحظات محاولة لفت إنتباهه لكنه لم يعرها انتباها وربما لم يسمعها من الأصل لذا وضعت يدها على يده لينتفض برعب وتوقف عن الكلام , فطالعته بدهشة
– مابك ؟
أمسك يديها بين يديه ليقول بهلع
– يداك متجمدتان
رفعت حاجبها باستغراب وقالت وهي تحاول سحب يديها من قبضته :
– وهل من المفروض أن يكون هذا مخيفا ؟
نظر إليها وقال :
– ماذا ؟ بالطبع حرارتك منخفضة جدا وهذا قد يعني الموت .

استطاعت أخيرا أن تسحب يديها من يديه , لقد كانتا محمرتين بشدة وتؤلمانها , لابد أن هذا حصل بسبب حرارة يديه .. هذا خطير
وبسخرية تمتمت وهي تقرب يديها من فمها
– هئ .. الموت !

كورت يديها على شكل قبضة ونفخت فيهما لتبردهما بأنفاسها , غير أن تلك الحركة ظنها حسام محاولة تدفئة لذلك أسرع يغطيها بالملاءة البيضاء وهو يقول معاتبا :
– ما كان عليك رمي اللحاف بعيدا عنك .
رفع رأسه عن جسدها قليلا ثم تساءل
– متى فعلتي ذلك أصلا ؟ لم أكن منتبها !
– كنت مشغولا بالتحدث عن طموحاتك ورغبتك ان تكون ديناصورا…شيء من هذا القبيل..

لم يقل أنه يريد أن يصبح ديناصورا لكن ريم تناهى لسمعها تلك الكلمة فعلقت بذاكرتها .. حسنا سيكون ديناصورا جميلا … لكنها تفضله تمثالا ثلجيا سيكون ذلك لطيفا جدا ..

تجاهل حسام هذيانها وكلماتها التي بدت له غريبة وتحمل خبثا دفينا في طياتها , وهو رجل لم يجد يوما فن التعامل مع النساء وانشغل يحاول تثبيت جسدها ودفنه تحت الغطاء الأبيض الصوفي
وبعد ذلك تناول جهاز التحكم بالمكيف ورفع حرارة الغرفة درجات أخرى , شعرت ريم بالإختناق وبدأت بالتعرق فالحرارة كانت لاتطاق خصوصا وأن حسام جلس بجانبها يحضنها إليه ويفرك يديها محاولا بذلك تدفئتها ومانعا إياها التخلص من الغطاء الذي يلفها ولم تكن تستطيع التخلص منه لأنه أقوى منها لذا جلست قربه تعاني بصمت .

آلام حادة انتشرت بكل جسمها , حبات العرق الغليظة ملأت وجهها وانفاسها احتبست برئتيها , راحة يدها اليمنى كانت تحترق حرفيا , الحرارة تغزوها حتى أنها تحس بالذوبان , تريد قطعة ثلج واحدة ومهما كانت صغيرة , حركت رأسها للنافذة حيث كان الثلج يتساقط بهدوء ولكم تمنت لو أنها أسفله لكن أمنيتها بدت بعيدة جدا .

شيئا فشيئا بدأت قواها تخبوا لذا كمحاولة أخيرة بدأت تترجى حسام بكلمات لا معنى لها لم يفقه منها شيئا غير أنه ربت على يدها قائلا بمواساة :
– اهدئي , حرارتك ارتفعت مجددا … لقد زال الخطر , اتعلمين أن أمي كانت تفعل معي نفس الشيء حين كنت أصاب بانخفاض درجة الحرارة .. تلفني بالبطانية وتضمني إليها و ..
وأختفى صوته وتلاشى , إنها تريد الثلج تريده بشدة فليساعدها أحد , إنها تموت ببطئ إنها تتألم وتعاني… إنها تموت ..

وبينما تتأرجح بين اليقظة والإغماء صدح صوت في أعماقها قائلا :
– أنت ملكي … أقري بذلك .. قولي أنك ملكي ..
همست بضعف
– الثلج..
رأت كيانا يقترب منها شبحا يتمايل بعظمة وغرور .. وحين تبينته وجدته تنينا يلمع جسده بوهج أزرق فاتن والأهم أنه كان يقف وسط صحراء ثلج لا نهاية لها وجناحاه مفرودان يتمايلان بعنف مع حركة الرياح , ابتسمت لمرأى الثلج فكرر التنين بإصرار عجيب : “قولي أنك ملكي “..

أغمضت عيناها وتخيلت نفسها تلعب بذاك الثلج والبرودة تتدفق عبر أوردتها فتنعشها , شعرت بالنشوة فأغمضت عيناها مستسلمة للظلام بينما فمها ينطق بتؤده
“أنا ملك لك” .

في تلك الغرفة المظلمة وقف رجل عجوز قرب مدير المتحف الشاب وهو يطالع البلورة الزجاجية بتفكير عميق وقد التقت حواجبه من شدة التقطيب , بينما وقف المدير قربه وهو يرتعد خوفا ويصرخ

– ماذا سنفعل الآن يا سيدي … أجبني ؟

سنموت جميعا … آه يالهي سنموت جميعا .

استدار إليه العجوز ورمقه بنظرات صارمة

– منذ أجيال عدة توارثت عائلتي حماية بلورة التنين من كل يد بشرية حتى نحمي بذلك النسل البشري من الإنقراض , وسأضل وفيا لعهدي ولو دفنت تحت الأنقاض ..

صمت لهنية ثم أردف بلهجة قاسية محملة بإمارات العتاب

– كم مرة أخبرتك أن تبقي البلورة بعيدة عن الجميع , وألا تدع أحد يقترب من القبو , هل كان عليك أن تخالف أوامري أيها الشاب الغبي ؟

كاد المدير الشاب يتبول في سرواله غير أنه لم يحر جوابا بل بقي يرتجف في صمت , أومأ العجوز قائلا:

– أخبرني الآن أيها الأحمق , من رميت في القبو من جديد ؟

بكلمات متعثرة أجاب المدير :

– فتاة اسمها ريم , انتقلت للعمل معي منذ شهر ونصف الشهر … لقد تشاجرت مع إحدى الزبونات وتعدت عليها , فكان لابد لي من معاقبتها .

صمت العجوز يفكر ثم سأل بغتة :

– ومن تكون ريم هذه ؟ أقصد أين تعيش ومن أين أتت ؟

– انها يتيمة عاشت في الشارع لثلاث سنوات وقاست العذاب وعندما تقدمت لي بدت جادة في التغير فوافقت على تشغيلها معي وكمكافأة اعطيتها ألف درهم كراتب مقدم و ….

صرخ العجوز

– كفى , لاتعرض علي أعمالك وحسناتك ركز في المهم …. أين هي الفتاة الآن ؟

ازدرد الشاب ريقه

– أخذها حسام للمشفى كانت تعاني من البرد ..

همهم الرجل وحمل البلورة ثم قال بجدية:
يجب أن نسرع فسيعاني العالم أجمع… هلم بنا يجب أن نجد الفتاة ونعيد روح التنين إلى القنينة قبل أن تسيطر عليها وتستعبدها بشكل كامل ..

ابتلع العجوز ريقه وهو يفكر بالقادم

– فتاة يتيمة .. قابلة للتغيير وحاقدة على البشر … اي رياح منحوسة القت بتلك البريئة هنا .. انها في خطر … كلنا في خطر … أسرع .. أسرع  ..

بدا كلاهما يحث الخطى ولكن ما كادا يبلغان الباب حتى انكسرت البلورة إلى شظايا عدة بين يدي العجوز مصدرة دويا قويا … وبصراخ جلجل الجدران هتف العجوز

– لقد فات الأوان …. حلت نهاية العالم

ومن ثم سقط يسبح في دماءه أمام قدمي المدير بعدما أخترقت شظية قلبه فاردته ميتا, ركع الشاب قربه يبكي وهو يحاول إيقاف النزيف

– أرجوك يا سيدي تماسك .. تماسك نحن بحاجة إليك ..

نظر إليه العجوز وقال :

– لقد مكنته الفتاة منها …. كلنا إلى الهاوية .. سنموت ..

اجهش المدير ببكاء مرير

– أرجوك ياسيدي لاتقل ذلك .. أعلم أن لديك حلا .. أنقذنا أرجوك أنت أملنا الأخير ..

إتسعت عينا العجوز قائلا بلهفة  :
– أجل هناك حل … هناك حل ..

رفع الشاب عينيه الدامعتين إليه:
– ماهو بالله عليك أخبرني ؟

– اسمعني جيدا يا حمزة

– أمرك سيدي

– أنصت … ستستعبد الفتاة الكثير وتجمد الكثير … وتظن أنها ملكة متوجة … ستتخلى عن أحلامها وعن نفسها وستستعبدها قوى الظلام … لكنه سيخونها سيقتلها في ليلة البدر المكتمل ويشرب دمها حتى تتحرر قواه الكاملة وحينها ستنقرض البشرية جمعاء … عليك يا بني أن توقفها .. يجب أن تنقذ البشرية ..

أصر الشاب بلهفة
– طوع أمرك ياسيدي كيف أفعل ذلك ؟ ….. . سيدي … سيدي

ولكن العجوز لم يلبي النداء هاته المرة , غادرت روحه لبارئها وظلت الكلمات عالقة في الهواء , فوضع المدير رأسه على صدره المدمى وأجهش بالبكاء وكلمة واحدة تتردد داخله وتفرض نفسها على أفكاره

“سنموت .. سنموت … لقد هلكنا “

وهنا تناهى إلى مسمعه صوت مفرقعات نارية فابتسم بسخرية وهو يجذب عقيقة من مسبحة السيد ويضعها في فمه منهيا حياته ..

أهلا 2020 .. حللت أهلا ووطئت سهلا !

——————-

انتبه حسام إلى أن ريم مغمضة العينين فظنها نائمة لكنه فجأة أحس بهواء بارد يلف الغرفة , نظر إلى النوافذ المغلقة بحيرة ثم ضغط بجسده على ريم أكثر ليمنع البرد من الوصول إليها بينما كان هو يرتجف بشدة كورقة بمهب الريح.

فجأة وجد نفسه ملتصقا بالحائط على حين غفلة وانتشرت آلام رهيبة بكل أنحاء جسده المتيبس بردا , بينما ريم تقف أمامه بلباس المرضى ويدها اليمنى تشع بقوة , ضحكت من تعابير وجهه الهلعة وقالت :
– اه كم يسرني منظر الرجال الضعفاء ..

نظر حسام إليها بخوف وقد علقت الكلمات في حلقه فلم يحر جوابا لكن نظراته فضحت مدى دهشته وخوفه .

كانت ريم تحس بقوة كبيرة تتدفق عبر أوردتها شعور جديد أحتلها فثملت من لذته , وبينما هي غارقة في أفكارها وحسام مثبت للحائط يحاول تحريك أضلعه رنت في الكون صرخات وضحكات قوية تزامنت مع إنفجار العاب نارية في السماء .

إنها السنة الجديدة .. لقد حلت سنة جديدة ..هذا ما تبادر لذهن الإثنين في نفس اللحظة التي انعكست فيها الأضواء الملونة على وجههما .

اتسعت إبتسامة ريم فيما حرك حسام رأسه للجانبين وهو يتذكر عائلته التي طلبت منه العودة قبل منتصف الليل لأجل الإحتفال , لكنه نسي ذلك في غمرة الأحداث .. الآن عليه أن يتساءل أن كان سيستطيع العودة؟

صدرت تنهيدة طويلة عنه لفتت إنتباه ريم فنظرت إليه قائلة :
– سنة جديدة .. ريم جديدة .. وقريبا عالم جديد ..
أمالت رأسها للجانب تفكر قبل أن تردف بخبث :
– لا أظن أنك تريد أن تشارك في كل هذا ياعزيزي .. الست محقة ؟ دعنا ننتهي منك سريعا فأمامنا عمل طويل ..

لم يفقه معنى تلميحها لكنها أسرعت تشرح له , ففي لحظات كانت قد وضعت يدها قرب فمها فخرجت رياح ثلجية من بين شفتيها أحاطت به وجعلته تمثالا جليديا في ثوان .

شعرت ريم بالنشوة وهي تحدق بعيني حسام اللتان اتسعتا هلعا فتقدمت إليه لتطبع قبلة خفيفة على شفتيه الزرقوتان وقالت
– أن لعبة الحب خطيرة جدا ياحبيبي … وليس لي رغبة بخوضها فلدي لعبتي الخاصة التي تنتظرني .

ابتعدت عنه بضع خطوات ونظرت إلى يدها اليمنى التي تشع بقوة , فتمتم صوت بداخلها
“لقد حان الوقت” 

أسرعت ريم تفتح النافذة وتخرج منها وحين وقفت أخيرا حافية القدمين على الثلج شعرت بشيء داخلها يجذبها لتعود للداخل وصوت مألوف صدر من أعماقها
“عودي ياريم .. ألم تكوني قد قررتي التغير؟ , ألم تعدي نفسك بأن تقلعي عن هاته الأعمال ؟ … عودي ياريم “

أغمضت عيناها بألم ولوهلة كادت تعود.. إلى ذاتها القديمة .. إلى ريم المندفعة الطائشة , إلى تلك الفتاة التي تشردت سنوات ثلاث وعانت من برد الشوارع القارس , أرادت أن تعود إلى حيث تنتمي …لكنها أخرست ذاك الصوت للأبد وبينما تمزق ثوبها الأبيض الشاحب أخذت تكرر :
– لن أعود .. لن أعاني من جديد , سأباشر طريقي نحو التغير , لايهمني ان كان هذا التغير سيئا للبشرية المهم أنه جيد لي , سأذيق الجميع البرد الذي عشته , سأسمعهم صوت الرياح الذي نغص عيشتي … ومنعني من تذوق طعم الهناء .. لقد تعبت, اثنتان وعشرون سنة مرت من حياتي وأنا لازلت أتسول الناس طلبا لشفقتهم , سأدعهم يجربون ذاك الشعور … سأفعل ما يحلو لي .. نعم سأتغير ..

حين انهت محاضرتها اسرعت تمشي بخطوات واثقة على الثلج البارد وهي عارية , ومع كل خطوة تساقطت ذكرياتها تلو الأخرى , آلامها اختفت , أحلامها تبخرت …. كانت واعية أن أحدا يتحكم بها , شخص ما يمسح ذاتها ويغيرها , لكنها لم تقاوم لم ترد التراجع وفي تلك اللحظة التي أغمضت فيها عينيها إختفى كل شيء .. في تلك الليلة الظلماء ولدت فتاة جديدة وروح جديدة . كان الهواء يلفح جسدها الغض وحبيبات الثلج تلتصق وتتجمع عليها لتصنع لها ثوبا فخما يليق بعظمتها وهيبتها .

ثوب أزرق طويل يشع ويلمع تحت أضواء المفقرعات وعلى جبينها تربعت بتلة ثلج ضخمة أنارت الأرض ومافيها .

جناحان أزرقان تزينا بحراشف ذهبية خرجا من حيث لايعلم أحد أما شعرها البني فتحول لجدائل بيضاء ناصعة يضاهي طول قامتها الرشيقة .

حين ارتفعت عن الأرض توقفت كل الأعاب وحدق الجميع بها مسحورا وتوقف الزمن عند تلك اللحظة , كل من رأها ثمل بحبها , كانت فتنة تمشي على الأرض … حسنها فاق كل النساء ونورها غطى كل البقاع .. بالنسبة لكل من رأها كانت ملاكا ولكنهم بعد ذلك لم يستفيقوا من سحرها أبدا . كل من حدق بعينيها الزرقاء ركع لها معلنا السمع والطاعة تاركا الحياة وما فيها ومصبا بلعناته على جميع النساء ومن حدثته نفسه بالتمرد كان مصيره التجمد برياح قارسة خرجت من بين شفتيها الحمرواتين ..

في الدول المجاورة .. انتشرت شائعات عن عاصفة ثلجية هزت المغرب العربي وتداولت الأخبار صورة فتاة آية في الجمال تجمد كل من في طريقها وتستبعد من النساء والرجال ما يحلوا لها .

قال البعض انها لعنة أصابت البشرية والعلماء دحضوا وجود أي فتاة وارجعو ذلك لتغيرات المناخ في القطبين وعملو بجد على إيجاد حل يحقق التوازن في العالم من جديد .

أما البقية فعلموا أنها نهاية العالم وأن غضب الألهة لحق بهم …. ولم يعلم أحد بحقيقة السر المدفون .

ماكادت سنة 2020 تغلق أبوابها حتى كانت كل البشرية تقف في صف واحد متحدين متضامنين على كلمة واحدة وقد إجتاحت الأرض عاصفة ثلجية قوية أطاحت بالأخضر واليابس ولم تشرق الشمس بعدها .. أبدا

وعلى قمة جبال الأطلس تربعت هي بحلتها الزرقاء البهية على عرش من الثلج تبتسم بثقة وكبرياء وفوق رأسها حلق تنين أزرق لمعت عيناه بخبث دفين بينما القمر توسط عرش السماء وانعكس ضيائه الفضي على القمم البيضاء ….

النهاية …

rana rachade

تاريخ النشر : 2021-01-22

رنا رشاد

المغرب
guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى