أدب الرعب والعام

قيود الروح

الفصل الأول

صوت ارتطام الكأس بالأرض وكسرهِ أيقظه من شروده، رفع رأسه المطأطأ على طاولته في ركن مقهى عتيقٍ والذي كان شاهدا على ليالي طويلةٍ من الأرق والسّهاد، كانت تحمل فوقها أكواب قهوة فارغة، ومرمدة مكتظةٍ بأعقاب السجائر. جال ببصره من حوله ليتعرف على مصدر الصوت، وهناك في الزاوية المقابلة له رآها وهي تحاول لملمة شظايا الزجاج المتناثر على الأرض بيديها، لم يبصر وجهها، فقط خصلات شعرها الأسود الداكن المسدل على كتفيها المغطيين بشال بني وهي تنحني لجمعه. ضم شفتيه متبرما ثمّ عاد ليسند رأسه على الطاولة ويغمض عينيه، محاولا الغرق في دوامة أفكاره من جديد، لكن عبثا، فقد وجد نفسه غير قادر على تجاهل ظلّ الفتاة المنعكس على الجدار.

-1-

ليت ..

من شرفة منزلها البسيط كانت تتأمل المنظر الصباحي الخلاب للقرية، حيث تنتشر الأزهار البرية بألوانها الزاهية على جانبي الطريق الضيق المؤدي إليها، وتغرد العصافير بألحانها العذبة، معلنة بداية يوم جديد، بينما ترسم أشعة الشمس الذهبية لوحة فنية انعكست على بركة مياه ضحلة توسطت حديقة بيتها لم تبعد عنها كثيرا شجرة زيتون ضخمة.

كان نسيم الصباح البارد يداعب خصلات شعرها الأسود الطويل ويلفح وجنتيها، مما جعلها تغمض عينيها الواسعتين للحظة، كل شيء يبدو جميلاَ متناغمًا في قريتها تلك، لكن حزنها ذلك اليوم طغى على كل شيء في نظرها، إن عليها أن تتحمل ألما وحده الله يعلم ثِقله.

تركت شرفتها وارتدت فستانها على عجل، ثم نزلت الدرج بخطوات خفيفة، متجهة نحو باب المنزل متوارية عن عيني والدتها التي انشغلت بتحضير الفطور ونحو محطة الحافلات في القرية حيث ينتظرها “عليٌ” ركضت بسرعة، بقلب يرفرف وتزداد نبضاته مع كل خطوة تقترب فيها من لقائه.

جانب مقاعد الانتظار وقف يحمل حقيبته ويلتفت يمنة ويسرة بملامح متوترة، كان يرتدي قميصًا أبيض ناصعًا يبرز عينيه السوداوين وشعره الفاحم. ومن بعيد رآها قادمة فاستحال توتره لابتسامة عريضة. كانت تسرع بخطواتها دون وعي، وتتلاشى كل الأصوات من حولها حتى لم يبق سوى دقات قلبها.

تسمرت أمامه بعينين دامعتين وقالت بصوت مشحون بالألم:

_ لا تذهب!

أمسك يديها بلطف وقبلها، ثم وضع كفيه على وجهها ورمقها بنظرات عميقة تحمل بين طياتها ألف كلمة وكلمة، لم ينطق منها سوى بواحدة:

_ سأعود.

انهمرت دموعها لتخضب يديه، فمسحها وعاد ليمسك يديها من جديد ويقول:

_ انتظريني يا سمر.

وهمس بصوت يكاد يكون مسموعًا، محاولًا طمأنتها بكلمات تبعث الأمل فيها:

_ سأفتقدك كل لحظة، ولكن عليّ الذهاب الآن. إنه الواجب الوطني ولا يمكنني تجاهله، أعدك أنني سأعود إليك بأسرع وقت.

تنهدت سمر بحزن، وأطلقت يديه ببطء، وهي تحاول جاهدة أن تبتسم له، تلك الابتسامة التي تخفي وراءها ألم الفراق وخوف الانتظار. وبينما كان يبتعد، تمتمت بصوت خافت:

_ كن بخير لأجلي.

وقف هو للحظة، نظر إليها من بعيد، حفظ ملامحها في ذاكرته، ثم استدار ومضى، تاركًا وراءه قلبًا ينتظر وعودًا تتطلع للتحقق. وفي الأفق، تلاشت صورته، ولكن بقيت كلماته تتردد في أذنيها، تمنحها القوة لتواجه الأيام القادمة.

-2-

لقاء الأقدار ..

مرت دقائق، ولم يزل صدى صوت الزجاج المنكسر يتردد في أذني عمر. فتح عينيه ببطء، ونظر مرة أخرى نحو الزاوية حيث كانت تجلس الفتاة. كانت قد انتهت من لملمة الشظايا وجلست بعد أن طلبت كأس عصير آخر، كانت تحدق في الفراغ بعينين حائرتين. شعر عمر بشيء غريب يجذبه نحوها، شيء لم يعتد عليه ولم تألفه طبيعته. قرر أن يتجاهل ذلك الشعور، لكن جسده خانه ووجد نفسه يقف ويتجه نحوها ..

_هل أنتِ بخير؟ أتحتاجين أي مساعدة؟

سألها بصوت خافت، وهو يقف بجانب طاولتها.

رفعت رأسها ببطء فالتقت عيناهما. لاحظ أن عينيها مليئتين بالأسى..

_ أنا… أنا بخير، شكرًا لك، أنا معتادة على التعامل مع الكَسر.

قالتها بصوت مرتجف.

شعر عمر بالحرج للحظة، ولكنه جلس أمامها بغتة وقال:

_ يبدو أنك تزورين هذا المكان أول مرة، توترك يشي بذلك، ثم إني لم أركِ هنا من قبل.

ضيق عينيه وسأل مازحاً:

_ هل تخفين شيئا؟

_ ها؟

قالتها وقد استبد بها الجزع لتستطرد:

_ لا.. لا، أنا أحاول إيجاد شخص ما فقط.

رد بنبرة ساخرة:

_ لا وجود للأشخاص في هذا المكان، هي أرواح ضائعة تتخذ من المكان محطة انتظار لشيء لا تدري كنهه.

ندّت دمعة من عينيها ووقفت، وضعت ورقة من المال على الطاولة، ثم تناولت حقيبة يدها من فوقها وقالت بهدوء:

_ شكرا على اهتمامك يا سيّدي، سأغادر الآن.

وقف عمر مشدوهًا للحظة، يتأمل الورقة المالية التي تركتها على الطاولة. لم تكن مجرد ورقة نقدية، بل أسئلة كثيرة تتردد في ذهنه، لم يكن يعرف لماذا شعر بأن خلفها قصة عميقة بعمق عينيها الكسيرتين.

-3-

وعود منسية ..

مرت الأيام والشهور بطيئة وثقيلة ومتشابهة على سمر، كانت تزور المكان نفسه الذي ودعت فيه عليا، تجلس على مقاعد الانتظار الباردة وتتساءل في قرارة نفسها، أكان يجب أن تمنعه من المغادرة؟ لكنها ما كانت لتستطيع، فواجبه الوطني يحول دون ذلك، لكنه وعدها، وعدها أن يراسلها ولا ينساها.. ماسر اختفاءه يا ترى؟

انتفضت فجأة، وصبت جام غضبها على الحرب اللّعينة في الدولة المجاورة، والتي جعلت حكومة بلادها تستنفر وتستدعي جميع الشباب ممن بلغوا سن الخدمة الوطنية، وإن كانوا وحيدي أهلهم عكس ما هو مفروض.

أطلقت تنهيدة عميقة:

_عليٌ المسكين، كان وحيد والديه.

وقفت عن المقعد، تقدمت نحو الكشك القريب من المحطة لتجد صاحبه العجوز عثمان جالسا على الكرسي يستمع للمذياع الذي كان يبث أغنية فيروز ..

“حلفتك يا حبيبي ..
لا تنسى يا حبيبي ..
لما بتسمع هالغنية ..
فكر فيِّا يا، يا حبيبي ..”

انتابتها قشعريرة عندما تناهت كلمات الأغنية لأذنيها، كانت تتذكر وقتا كان فيه عليٌ يأتي راكضا إليها ملوحا بأحدث أشرطة فيروز، فرحا جذلا كأنه أحضر لها الدنيا، فتُحضر المسجّلة القديمة، ويجلسا سويا ليطربا بكلماتها العذبة.

طردت عنها صور ذكريات لا تنفك تبرح أفكارها، وألقت التحية على العم عثمان وسألته للمرة الألف متأملة:

_ ألم يتصل يا عم؟

أشار لها برأسه أن لا، فأطلقت ابتسامة صغيرة ممتنة وعادت أدراجها الهوينى نحو المنزل.

استقبتلها والدتها، “السيدة نبيلة” بعينين تقدحان نارا وقد قرأت فيهما سمر ” الموّال المعتاد”. جلست على أقرب كرسي لها ورفعت إليها رأسها لتسألها بنبرة ملُولة:

_ ماذا يا أمي؟

_ ألم تملي من انتظار الوهم؟ لقد مرت أكثر من سنة!

_ عليٌ ليس وهما يا أمي، سيعود.

علت نبرة الغضب بصوت والدتها:

_ كيف؟ هو لم يتصل منذ رحيله سوى مرة واحدة، ولم يرسل سوى بضعة رسائل ….

قاطعتها سمر بانفعال:

_ هو لم يرسل لوالديه حتى! .. رجاء يا أمي، لا تزيدي عليّ همي!

لم تشأ السيدة نبيلة رغم غضبها أن تكسر ابنتها، أو أن تخبرها أنه لربما كان خطيبها في عداد الأموات، فحسب ما سمعت، خدمته كانت على الحدود الشرقية، وهي منطقة مليئة بالصراعات بين المهربين والحكومة، ناهيك عن نيران الحرب المشتعلة من البلد المجاور .. لكنها لا تريد لها أيضا أن تُحرق بجمر الانتظار!

-4-

البوح ..

بينما كانت سمر تغادر المقهى شعرت بثقل يسكن قلبها، كان هناك شيء مألوف في نظرات ذاك الشاب، وكأنها لمحته قبلا، لكنها غير متأكدة من الأمر.

في اليوم التالي، وجدت نفسها مرة أخرى داخله .

_ لماذا عدتِ؟

نظرت إليه بدهشة، كان الشاب نفسه الذي حادثها بالأمس. راقبته وهو يتقدم نحوها واضعا كلتا يديه في جيبي بنطاله بطريقة استعراضية، أرادت أن تبتسم لكنها كتمتها. شيء ما غريب في ذاك الشخص، لكنها لم تكره وجوده، كان هناك شيء مريح في نبرة صوته.

_ أبحث عن إجابات.

أجابته وكفى، فربما يساعدها بطريقة ما. هي بأمس الحاجة للمساعدة، ولا تعرف أحدا بالمدينة، لكنها لن تثق به حتى تعرفه.

_ اجلسي.

جلس كلاهما وطلب عمر كأسي عصير بارد ثم سأل:

_ لا تبدين من هذه المدينة، هيئتك تدل على أنك قروية.

_ أجل، أنا من قرية بعيدة في الجنوب، هذه أول مرة لي هنا.

فضوله ازداد لمعرفة قصتها، لكنه لن يسأل كثيرا حتى يجعلها تشعر بالارتياح.

مرت لحظات من الصمت قبل أن تكمل:

_ جئت باحثة عن خطيبي، مرت أكثر من سنة على استدعائه للخدمة العسكرية على حدود هذه المدينة، لكنه توقف بعد شهرين فقط عن الاتصال وإرسال الرسائل، لقد انقطعت أخباره، ولا أحد يأتينا بالخبر اليقين.

يتأملها عمر قليلاً، يقرأ في عينيها قصص القرى البعيدة والأحلام المؤجلة، يشعر بكل حرف في حكايتها، ويدرك أن وراء كل سؤال قصة، ووراء كل جواب حياة بأكملها.

يرد عليها بحذر، محاولا انتقاء كلماته، فهو أمام فتاة لا تعرف من المكان الذي انتهت إليه سوى الوحشة والغربة:

_ أفهم ما تمرين به، إن ما فعلتِه بمحيئك هنا يتطلب شجاعة لا تُوصف، لكن لماذا اخترتِ المقاهي للبحث عنه؟

تتنهد سمر، تنظر إلى الكأس نصف الفارغ أمامها وتجيب:

_ مررت صدفة من هنا، عليٌّ كان يحب الموسيقى والأغاني، كان دائماً يقول إن المقاهي تحمل روح الموسيقى والحياة.

_ سأساعدك في البحث عنه.

يقولها بثقة، وفي عينيه وميض من الأمل. تنظر إليه سمر نظرات امتنان، فلأول مرة منذ وصولها تشعر بأنها ليست وحيدة في تلك المدينة الكبيرة.

-5-

الرحيل ..

في منتصف ليلة مقمرة، تحمل نسمات باردة لتلفح وجه الفتاة النائمة بمحاذاة نافذة مفتوحة، تحركت سمر قليلا ثم بدأت بالهمهمة بكلمات غير مفهومة. فتحت فجأة عينيها وقامت عن وسادتها لتجد دموعا ساخنة تنهمر على خديها، لقد رأته، رأت عليّا. وضعت كفيها على وجهها، ودخلت في نوبة بكاء صامت، ليتها لم تفق من نومها، إن كانت ستجمعهما الأحلام فهي على استعداد للنوم ما دام فيها النفس.

مرت عليها ذكريات بعيدة من طفولة لملمت أوراقها ورحلت، حين توفي والدها وهي بعمر السادسة. مرض خبيث أصابه اكتشفه في وقت متأخر قضى عليه، ليتركها وحيدة مع أمٍ ذبلت زهرة شبابها قبل أن تتفتح، وراتب حكومي تسيّران به أمورهما كيفما اتفق.

كان عليّ هو زميل المدرسة، وصديق الطفولة، ابتدأت قصتهما بمشاعر بريئة، وانتهت بحب متوقد أحرق كليهما. قصة حب عادية ولكنها صادقة، كُلِّلت أخيرا بخطبة ووعد بالزواج، لكن للقدر دوما كلمة الفصل في النهاية.

مسحت سمر دموعها، والتفتت نحو النافذة وهي تدير الخاتم الفضي الماكث ببنصر يدها اليسرى، فرأت القمر مكتملا يتوسط سماء الليل الصافية المرصعة بالنجوم. تزاحمت الأسئلة في رأسها، كيف ستجد الأجوبة لأسئلة تقض مضجعها؟ هل ستعتنق الانتظار مذهبا؟ إلى متى ستبقى على هذه الحال؟

هو قرار اتخذته وأبت أن تضع له بديلا، ستغادر، سترحل للمدينة الشرقية، ستبحث عن علي بنفسها، لن تنتظر أخباره من أي أحد.

وقفت أمام والدتها بخوف ممزوج بالعناد ..

غضب عارم سيطر على السيدة نبيلة، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تصيح:

_ كيف تفكرين حتى في ترك بيتكِ وأمك؟ هذا جنون!

محاولة تهدئتها، تنطق بكلمات هادئة:

_ أمي، أنا… أنا أحبه، أحتاج أن أعرف ما حدث له.

_ وماذا عني؟ من أفنيت حياتي لأجلك؟ هل ستتركين كل شيء خلفك من أجل وهم؟

تنفلت دموع سمر رغما عنها:

_ليس من السهل عليّ، ولكن قلبي يتألم، أرجوكِ، حاولي أن تفهمي.

بكلمات ساخرة أجابتها:

_ أفهم؟ أن تركضي وراء سراب؟ لا، لن أسمح لكِ بذلك.

_ حتى لو لم تسمحي، سأذهب، لا يمكنني البقاء هكذا!

_ إن خرجتِ من هذا الباب لا تعودي، لا تتوقعي مني أن أقبل بكِ مرة أخرى.

_ سأتحمل تبعات قراري.

_ اذهبي إذًا، ولكن تذكري أن الحياة في الخارج لا ترحم ..

ثم تشيح بوجهها عنها.

تفهم سمر أمها، هي محقة، لكن المنطق يغيب حين يحضر القلب. تمسك بحقيبتها وتتقدم نحو المخرج. تلقي نظرة أخيرة على والدتها وتمتم بصوت مسموع:

_ سامحيني.

في طريقها للمحطة فقط بحقيبة تستند إليها، مرت على منزل قديم يقع في ضواحي القرية، وقفت أمامه تراقبه لهنيهات وقد عصَر الحنين قلبها عصرا، خُمّ الدجاج المنتصب بجانبه كان ملعب طفولتها، والشجرة القائمة على مقربة منه كانت مربط الأرجوحة التي بدأ فيها كل شيء.

تهم بالتقدم إلى بابه بخطوات متثاقلة، لكنها لا تريد أن ترى الحزن المرتسم على وجه العجوزين المسكينين، فمصيبتهما بابنهما أكبر من مصيبتها بأضعاف مضاعفة. تعود أدراجها وتكمل طريقها لمحطة الحافلات، تدخل كشك العم عثمان لتشتري منه زاد طريقها، يلاحظ العجوز الحقيبة فلا يسأل، تعطيه هي المال قائلة:

_ أراك على خير يا عم.

بإيماءة من رأسه يجيبها، ثم يعود لكرسيه ويفتح المذياع فيتناهى لأذنها الصوت المعتاد يغني..

” كان عنا طاحون ع نبع الميّ ..
قدامه ساحات مزروعة فيّ ..
وجدي كان يطحن للحي، قمح وسهريات ..”

تتنهد بحسرة، ثم تلقي سمر نظرة أخيرة على القرية قبل أن تصعد إلى الحافلة، لن تعود إلا وعلي معها أو على الأقل ستملك إجابات تريحها. ثم تبدأ رحلتها نحو غياهب المجهول، إلى المدينة الشرقية.

-6-

شعاع أمل ..

ترجلت من الحافلة أخيرا، بثوب بسيط وحقيبة متواضعة. فأبصرت عالما آخر لم تألفه من قبل، هي مرة وحيدة وطأت بها خارج حدود القرية للمدينة التي جاورتها، لكنها لم تكن كتلك بعماراتها الشاهقة وأضوائها اللامعة ومركباتها الصاخبة وضوضاء الناس وزحامهم.

راحت تتجول بعينين باحثتين حذرتين، تتنقل بين الأزقة والشوارع والميادين، تبحث عن عليّ في كل وجه تراه، تحت سماء رمادية عكست حالة الغموض التي تكتنف مصيره.

ظلت تسأل عن مكتب بريد حتى وجدته. مكتب طُبع ختمه على ظرف آخر رسالة تلقتها من علي، رسالة اهترت ورقتها الوحيدة لكثرة ما تلمستها وقرأت كلماتها.

وقفت أمام مكتب البريد، البناية العتيقة التي تحمل في طياتها آلاف القصص والخبايا. تنفست الهواء العابق برائحة الحبر والورق وهي تتأمل الظرف المهترئ في يدها، الشاهد الأخير على وجود علي.

بخطوات مترددة، اقتربت من النافذة حيث كانت تُسلم الرسائل وتُستلم. نظرت إلى الموظف الذي يبدو عليه الانشغال، وسألته بصوت يحمل خليطاً من الأمل والخوف:

_ هل تذكر هذا الختم؟ هل تعرف من أرسل هذه الرسالة؟

ينظر الرجل إلى الظرف، يتأمل الختم الباهت.. يشير إلى سمر أن تنتظر، ثم يختفي خلف الأبواب الخشبية القديمة.

تقف سمر هناك، تحت السماء الرمادية، تراقب الناس وهم يمرون بجانبها، كل منهم غارق في أفكاره ومشاغله. تشعر بأن الزمن قد توقف للحظة، وأن العالم كله ينتظر معها جواباً.

بعد دقائق بدت كساعات، عاد الموظف حاملاً سجلات قديمة. فتحها بحذر وراح يبحث بين الصفحات المصفرة، ثم نظر إلى سمر وتكلّم:

_هذه الرسالة أُرسلت من قاعدة عسكرية قريبة من هنا. لا أستطيع أن أعطيكِ معلومات أكثر من ذلك.

خيبة أمل كبيرة اجتاحتها، لكنها في الوقت نفسه شعرت بأنها اقتربت خطوة نحو الحقيقة. شكرت الموظف وخرجت من المكتب، وفي قلبها عزم على الوصول إلى ذلك المكان.

-7-

ذكرى ..

عاد عمر إلى شقته الصغيرة، تلك الزاوية الهادئة في قلب المدينة الصاخبة. كانت ملجأه وملاذه من عالم لم ولن يفهمه.

جلس على الكرسي الخشبي المتهالك، يتأمل النافذة التي تطل على الشارع المزدحم. الأصوات المتداخلة من الخارج تصل إليه كأنغام موسيقية بعيدة. لكن عقله كان مشغولاً بسر يحمله في قلبه، سر لم يكشفه لأحد. كانت الورقة التي خطت بها سمر اسم قريتها واسم خطيبها الكامل تحمل أكثر من مجرد معلومات، كانت تحمل مفتاحاً لماضيه الذي حاول جاهداً نسيانه.

في تلك القرية البعيدة، حيث كتبت سمر اسمها، كان عُمر قد عاش أحداثاً لن ينساها. أحداثٌ وُشمت بخلايا ذاكرتِه وجعلت منه الشخص الآخر الذي أضحى عليه. إنه يجد نفسه مرتبطا بالاثنين بطريقة لم يكن يتوقعها أبدًا! فهل تكون يا ترى فرصة للتكفير عن خطيئته، فلّعله يجد في مساعدتهما طريقًا للخلاص والسلام الذي طالما بحث عنه؟

-8-

السراب ..

في غرفة فندق صغير جلست تأكل بعضا من الخبز والجبن، يكفيها أن تسد رمقها وحسب، فهي لا تدري إن كان المال الذي كان بحوزتها والذي ادخرته على مدار سنتين لأجل جِهازها وما أضافت إليه من ثمن حليّ لها باعتها لجارتها سيكفيها أم لا.. عليها أن تحسب ألف حِساب للأيام وتترك ثمن تذكرة العودة.

وضعت رأسها على وسادتها تفكر في تلك المرة الوحيدة التي غادرت فيها القرية، يوم نجاح عليّ وتخرجه من الجامعة. وقتها كانت برفقة أمها وأهله. ولشدة سعادتها وعدها حينها أنه سيجوب بها البلاد طولاً وعرضا، وعدها أن يكون لها سندا وعضدا، وعدها أن يكون لها حصنا وملجأ، كم كان الكلام سهلا!

هي لم ترد شيئا من الحياة سوى أن تنعم بأسرة صغيرة وبسيطة، تتساءل، هل طلبتِ المستحيل؟

انكمشت على نفسها تحت الغطاء مقاومة خوفا يحاول التسلل إليها، عليها أن تكون قوية فالغد سيكون مختلفا.

مع تلاشي غيوم الأمس الرمادية وتحول لون السماء إلى زرقة صافية، كانت تسير بثبات نحو الأطراف البعيدة للمدينة، حيث تقع القاعدة العسكرية. مرت بجانب الحقول والمصانع المهجورة قبل أن تصل إلى البوابة الرئيسية ووقفت هناك، تتأمل الجنود وهم يؤدون واجبهم، وتتساءل كيف يمكنها أن تجد طريقها إلى الداخل.

بينما هي تفكر في خطة ما، اقترب منها جندي شاب. نظر إليها بفضول، وسألها عن سبب وجودها هناك. شرحت له قصتها وأظهرت له الرسالة الأخيرة من علي، ثم أخبرته عن معلومات تخصه.

_لا أستطيع أن أدخلكِ إلى القاعدة، لكني سأحاول البحث عن معلومات حوله.

تركها ودخل، بينما كانت تنتظر هي بقلب يملؤه الأمل والترقب، قبل أن يعود أخيرًا بالأخبار، عليّ سُرّح من الخدمة منذ أكثر من سنة، ولا أثر له بالداخل.

عادت أدراجها وقد ألجمتها الصدمة، سارت ببطء نحو اللاّهدف ممسكة بالشال الذي يتدلى من حول كتفها بيدها. ألف فكرة وفكرة كانت تدور كالدوامة داخل عقلها. حاولت أن تقنع نفسها أنه ربما يكون قد أخطأ! تلبس عليه الأمر؟ كيف يكون قد سرّح من الخدمة؟ إذن أين ذهب؟

فجأة دق سمعها لحنٌ يشتت زحام الأسئلة والأفكار، توقفت فوجدت نفسها أمام مقهى عتيق، تتأمل واجهته قليلا ثم لم تجد نفسها إلا وقد دخلت إليه.

الفصل الثاني

داخل مبنى قديم متهالك، وقف الشاب وحيدًا في غرفة مظلمة، النافذة الصغيرة الوحيدة تسمح بدخول خيط رفيع من الضوء، يكسر ظلام الغرفة ويكشف عن وجهه الفتيَّ المتعب.

نظر حوله بحذر، تأمل الجدران الخشنة التي تحيط به، واستمع إلى الأصوات البعيدة التي لا يمكن تمييزها. كان يبدو أنه ينتظر شيئًا.

فُتح الباب فجأة، ودخل شخص ما، تبادلا نظرات مليئة بالمعاني، ثم تقدم الشخص القادم نحو الشاب ووضع أمامه صحيفة، أشار إلى خبر ما وغادر دون أن يترك فرصة للحوار.

نظر إلى الصحيفة وقرأ الخبر الذي يحمل اسمه، ظهرت على وجهه علامات الدهشة والإدراك، فيبدو أن الأحداث تتحرك بسرعة خارج تلك الجدران الصامتة، وهو مجبر على البقاء خلفها.

-1-

في الصباح الباكر، خرج من باب شقته الصغيرة، يحمل في يده كوب قهوة ساخنة. تنشق عبق الصباح الذي ملأ صدره بالهواء النقي، وتأمل الشارع الذي بدأ ينبض بالحياة.

وعلى الرصيف المقابل، كانت تحمل حقيبتها الصغيرة وتنظر إلى الخريطة في يدها. تبدو ضائعة قليلاً، تبحث عن عنوان في هذا الحي الذي لم تزره من قبل.

التقت أعينهما للحظة، فأرسل لها تحية وهو يتقدم نحوها، شعر بأن كل خطوة إليها تقربه من ماضيه الذي حاول الفرار منه.

أما هي، فلم تكن يوما تثق بأحد، لطالما أخبرتها والدتها أن مِن الناس وحوشا لا ترحم، لكنها تشهد لها أيضا بمهارتها في تمييز الخبيثِ من الطيّب. لقد قابلت عمر الشاب الثلاثينيّ عدّة مرات قبل مجيئها هذا، وفي كل لقاء تدرك أنها أمام رجلٍ تجرع من الأيام مرارة وحرمانا، يتيمٌ أذاقته الحياة صغيرا ذلّا وهوانا قبل أن يحاربها ليثبت جدارته بالعيش فيها.

ستمنحه فرصةً وتثق به ..

_ صباح الخير يا سمر، هل وجدتِ صعوبة في العثور على المكان؟

ردت بابتسامة صغيرة:

_ صباح النور، لقد تهت قليلا، لكني وجدت من يدلني.

_ هيا بنا إذن، سأريكِ الملحقَ الذي أخبرتك عنه.

يسيران معا إلى البناية التي يقطنها، تمعن سمر النظر فيها فتنتابها مشاعر الحنين لقريتها. لم يمض على مجيئها للمدينة أكثر من أسبوعين، لكنها تشعر بالغربة. كانت وكأنها ترتدي ثوبا غير ثوبها.

لقد أقنعها عمر بأن تسكن في الملحق الصغير الخاص به، فنظرا لإمكاناتها المادية لن تستطيع تحمل أجرة غرفة الفندق أكثر من بضعة أيام، ورحلة البحث عن علي تزداد صعوبة كل يوم.

فكرت أن تعمل لتكسب قوتها ومصاريف يومها، لكن من قد يرضى بفتاة قروية لم تدرس الجامعة؟ إن مستوى الثانوية العامة الذي تملكه لن تفعل به شيئا هنا! لعنت قرارا أحمق اتخذته بعدم إكمال تعليمها رغم إلحاح والدتها عليها لتفعل .

_ شقتي في الطابق الأول، أما الملحق ففي الطابق الأرضي هيا بنا.

استفاقت من شرودها على كلمات عمر التي قالها وهو يشير لها أن تصعد معه.

كانت الغرفة صغيرة ومرتبة ومضاءة بمصباح واحد معلق من السقف أضفى جوا من الدفء للمكان. والجدران مزينة بلوحات فنية ملونة تعكس ذوق عمر الفني.

جلس على كرسي، وضع من يده كوب قهوته، ثم أشعل سيجارة سرعان ما نفث دخانها في الهواء. ابتسم بلطف وهو يشير إلى الأريكة الوحيدة مقدمًا لسمر مكانًا للجلوس. بدت الأخيرة مترددة قليلاً، كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا وتحمل حقيبتها الصغيرة بإحكام، نظرت حولها بفضول، وتأملت المكان بعينين تعبران عن إعجاب.

_ أعلم أن الأمور قد تبدو مختلفة هنا، لكني أريدك أن تشعري بالراحة، هذا المكان هو ملجأك الآن.

ردت بابتسامة خجولة:

_ شكرًا لك، لا أعرف كيف أشكرك على كل ما تفعله من أجلي.. أشعر أنك هدية من السماء إلي، لولاك لكنت عدت للقرية.

يضع عمر الكوب على الطاولة وهو يرد:

_ لا داعي للشكر، إنه مغلق بجميع الأحوال، مرت سنوات طويلة منذ أجّرته آخر مرة.

أخبريني إن كانت لديكِ فكرة للبحث عن علي. قلتِ أن الجنود في الثكنة أخبروكِ أنه سرح من الخدمة، إذن هناك احتمالان: الأول أنه محقون، والثاني أن هناك سرا آخر.

بعد جلوس سمر على الأريكة، وضعت حقيبتها جانبًا وردت:

_ ما هو؟

_ لا أعرف، لكن لدي فكرة قد تساعدنا في العثور عليه.

_ أي فكرة؟ أنا مستعدة لأي شيء قد يقودنا إليه.

_ ماذا لو نشرنا صورته في الجريدة؟ يمكننا أن نطلب من الناس مشاركة أي معلومات قد تكون لديهم عنه.

بعينين تتلألآن ببريق الأمل:

_ هذا رائع! لكن هل تعتقد أن الجريدة ستوافق على نشرها؟

ثم سرعان ما تلاشى الأمل بعد هنيهات بعدما استفاقت على الواقع:

_ إن المال الذي عندي لا يكفي لذلك!

يقول بثقة:

_ لا تقلقي بخصوص ذلك، اتركيه لي. سأتحدث مع صديق لي يعمل في الصحافة، وسأنجز الأمور بسرعة.

بابتسامة مقتضبة أجابت:

_ شكرا جزيلاً لك يا عمر.

إن سمر التي رأت نظرات الدونية والاحتقار من الكثير ممن قابلتهم في هذه المدينة، إما بسبب لهجتها المختلفة أولباسها القروي البسيط تعي أن لا أحد أصبح يقدم خدماتٍ مجانية، وعمر وإن كان نوعاً ما موثوقا يخفي سرا، وهي مصمّمة على كشفه.

-2-

حنين ..

كان واقفًا بجانب النافذة يتأمل السماء، يفكر في سمر وفي أيامه ولحظاته معها. مشاعر الشوق والحنين أرهقته، كانت كسلاسل تقيد أنفاسه.

كان الهدوء يسود جو الغرفة، لا يقطعه إلا صوت خطواته الغريبة، فقد وضع كف يده على إحدى ركبتيه وراح يجر رجله اليسرى وراء اليمنى وهو يتحرك إلى المسجلّة القديمة ويضغط زرا أطلق أغنيّة لطالما بعثت السعادة وبثت الأمل في قلبه، ولكنها حينها أيقظت الألم ونبشت في عمق الجرح ..

” بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق ..
تكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق ..
بكرة بتشتي الدني ع القصص المجرحة ..
يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى .. “

تنهد بعمق، اتجه نحو الطاولة الصغيرة، فتح درجًا وأخرج رسالة قديمة مطوية بعناية، كانت من ماضٍ يخشى مواجهته. همّ أن يفتحها فخاف أن تنقلب عليه المواجع أكثر. كم يأسف لحالِ خطيبة تركها معلقة ووالدين لم يريا في الدنيا غيره، لكن الظروف أقوى منه.. ما بيده ليفعل! إن قدره أقوى من أي حلمٍ أو وعد! ليتهم فقط ينسون أمره ويتابعون حياتهم، ليتهم لا يذكرونه فيرتاح قلبه المهموم.

ألقى بجسده المنهك على الفراش، محاولاً إسكات زحمة أفكاره، لكن الذكريات كانت أشد إلحاحاً من أي محاولة للنسيان.

-3-

مِن الماضي ..

على رصيف تصطف على جانبه بنايات ومحلات قديمة تحمل آثار الزمن وحكايا الناس سارت سمر جنبا إلى جنبٍ مع عمر، كانا يوزعان على الناس ويلصقان على الجدران والأعمدة منشورات طبعَت صورة عليّ عليها وفي أسفلها رقم هاتف شقة عمر.

سألت بيأس وهي تحاول فتح علبة اللاّصق:

_ هل سيجدي هذا نفعا؟

_ بالطبع! .. كم من مفقود وجد بهذه الطريقة، لنسرع ثم نذهب إلى ذلك المقهى، نشرب شيئا باردا ونرتاح قليلا.

كان المكان مليئا بالزبائن، والجو مفعم بضجيج الأغاني والأحاديث المتنوعة، جلسا على طاولة في الزاوية، ثم طلبا كوبي عصير بارد.

_ حدثيني عن عليّ.

سألها عمر بغتة، فترددت قليلا ثم أجابت :

_ عرفته منذ عشرين سنة تقريبا، كنا صغارا حينها. لم يمضِ الكثير على وفاة والدي حين جاء مع أهلهِ إلى القرية، كنتُ فتاة متمردة كثيرة البكاء، لمحني يوما أبكي وأمي تجرني خلفها فتبعني، أعطاني تفاحةً وطلب مني أن نكون أصدقاء، كان الأمر بتلك البساطة!

كبرنا معا، لم ننفصل إلا أربع سنوات، كان يدرس بالجامعة. عند إنهاء دراسته تقدم لخطبتي واتفقنا على الزواج، وكان سيوظَّف مدرّسا بمدرسة القرية.

جاء النادل بالطلب فسكتت عن الحديث، رشفت من الكأس قليلاً ثم استرسلت:

_ عليّ كان شابا حنونا وحسّاسا جدا، يبكيه موت قطة في الشارع، كان يمقتُ الظلم كثيرا، لطالما افتعل مشاكل بدفاعه عن الآخرين. أحبّ الموسيقى والأغاني كثيرا، كان يعشق الاستماع إلى فيروز كل صباح ..

سأل عمر مشاكسا:

_ هل كان بهذه بالمثالية حقا؟

أجابت سمر بصدق:

_ لا أحد مثالي، لكل منا جانب مظلم، يظهر ويختفي حسب الظروف. عليّ كان عصبيا عند الانفعال، أذكر أنه عندما أنهى دراسته الجامعية لاحظت أنه عاد مختلفا قليلا عما عهدته، شيء فيه تغير لم أستطع تبينه، كان يضحك ويسخر مني قائلاً أني أتوهم، لكني لم أكن كذلك.

_ شيء مثل ماذا؟

_ لا أعرف .. عيناه كانتا مختلفتين، يسرح أحيانا وأجده يحدث نفسه أحيانا أخرى، يقرأ الصحف كثيرا ويركز على أخبار السياسة تحديدا.

ينتاب عمر بعض من القلق لكنه لا يبديه، يحاول أن يغير مجرى الموضوع فيسأل:

_ ألا تشتاقين لوالدتك؟

_ حاولت الاتصال بها في دكان القرية لكنها ترفض الرد، عزائي فقط أنها بخير.

نظرت إليه بريبة:

_ ماذا عنك؟ ما هي حكايتك؟ أشعر أنك تخفي شيئا ما.

يصطنع الابتسامة ويجيبها:

_ أنا أيضا أبحث عن إجابات.

-4-

أسرار ..

في صمت الليل الهادئ، كان يجلس وحيدًا، يتأمل السماء البعيدة. تتسلل ذكريات الماضي إلى عقله، تعود به إلى أيام الجامعة، حيث الأحلام كانت لا تزال مشرقة والآمال لم تخب بعد.

تذكر شلّته وأصدقاءه، تذكر كريم صديقه العزيز الذي كان يشاركه الضحكات والنقاشات الحماسية. كانا يجلسان تحت ظلال الأشجار، يتحدثان عن المستقبل، عن العدالة والحرية. كان كريم يحلم بعالم أفضل، يحلم بتغيير يمكن أن يصنعه الشباب.

تلك الأحلام تحطمت يوم مسيرة طلابية، حيث اجتمع الشباب بروح الثورة، ينادون بالتغيير، يهتفون ضد الظلم، لكن سرعان ما تحولت الهتافات إلى صرخات ألم. تدخلت الشرطة، والعصي والدروع تلمع تحت أشعة الشمس الحارقة. وقعت الاشتباكات، وسقط الدم على الأرض، ومعه سقطت أحلام الكثيرين.

تذكر علي وجه كريم، شاحبًا وغارقًا في دمه، تذكر صرخته الأخيرة. كانت تلك اللحظة التي تغير فيها كل شيء، اللحظة التي فقد فيها علي ليس فقط صديقًا، بل جزءًا من روحه.

أغمض عينيه، حاول أن يطرد الصور المؤلمة، لكنها ظلّت محفورة في ذاكرته. هو يعلم أن الحياة لن تعود كما كانت، وأن الجراح التي خلفتها تلك الأيام لن يشفى منها أبدا.

-5-

الندم ..

داخل غرفة الحراسة الصغيرة، حيث الجدران البيضاء، والنافذة التي تطل على باب الشركة الرئيسي، كان يرتدي زيه الرسمي، وشارة الأمن تلمع على صدره. يحمل بين يديه كتابا يقرأه ليخفف به وطأة الشعور بالملل، لكن فجأة مرت بذهنه سمر وتساءل عما تفعله وحيدة بالمُلحق.

أطلق زفرة عميقة، وفكر أنه لو يستطيع أن يخبرها بما يعتمل في صدره، ويعترف لها بالسر الذي يؤرق لياليه.

تذكر اليوم الذي قلب حياته، يوم كان يعمل شرطيّا مساعدا في إحدى القرى البعيدة. حين أتى اتصال عاجل لرئيس المركز الذي أخبر معظمهم فور انتهائه أن يتسلحوا و ينطلقوا للمدينة المجاورة، فالشرطة هناك تطلب الدعم لمواجهة مظاهرات غير سلميّة.

كان وقتها جزءًا من القوة التي وقفت ضد أصوات مطالبة بالتغيير. يتذكر الأوامر الصارمة، والنظرات المتوترة بين زملاءه. يتذكر أيضًا الخوف الذي كان يختبئ خلف الدروع، والشك الذي كان ينخر في قلبه.

تذكر الوجوه الشابة المليئة بالأمل، والهتافات التي كانت تصدح في الهواء، والعيون التي كانت تنظر إليهم بتحدٍ وإصرار. وعندما اندلعت الفوضى، وتحولت الكلمات إلى صراخ، والأمل إلى دماء، شعر عمر بشيء يتحطم داخله. رأى العنف يتفجر من حوله، والأيدي التي كانت تحمل اللافتات تصبح مرفوعة دفاعًا عن النفس.


تذكر أيضا اللحظة التي غيرت مسار حياته إلى الأبد، ففي غمرة الفوضى، أطلق النار دون وعي وهو يحاول إيقاف ما اعتقد أنه تهديد لحياته، لكنه لم يكن سوى شاب يحمل علمًا لا سلاحا، وقد سقط ميّتا دون حراك.

بعد ذلك اليوم الذي أريقت فيه دماء الكثيرين، لم يعد عمر كما كان، ترك الزي الرسمي والأسلحة والدروع وراءه، وحاول أن يبدأ من جديد. لكن الذكريات لا تتركه، فهي تلاحقه كظله. قرر أن يعمل حارسا ليليّا في شركة، بعيدًا عن الأضواء والأوامر، لكن الأسئلة التي أثارها ذلك اليوم لا تزال تبحث عن إجابات في عقله. يتساءل إن كان يمكن للإنسان أن يغفر لنفسه على أخطاء الماضي، وإن كان يمكن للجروح حقا أن تبرأ.

-6-

ضياع ..

في زحمة الأيام وضجيج المدينة، كانت تقف وحيدة، تحمل في قلبها أملاً يتضاءل مع مرور كل يوم. تتنقل من شارع إلى آخر، تسأل الوجوه التي تمر بها، تبحث عن أي خيط قد يقودها إلى علي، لكن دون جدوى.

كانت تشعر بالإرهاق، فكل يوم يمر يزيد من ثقل الغياب. تحاول أن تقنع نفسها بأن هناك أمل، بأن علي مازال هناك في مكان ما، ينتظر أن يُعثر عليه. لكن مع كل منشور تعلقه وكل رقم هاتف تتركه، تشعر بأن جزءًا منها يفقد الأمل.

تتساءل في صمت: “هل سأجده يومًا؟ هل سيعود علي إلى حياتي؟” لكن الإجابات تظل غائبة، والصدى الوحيد هو صدى صوت خطواتها على الأرصفة الباردة.

نظرت إلى السماء، بحثت عن إشارة، عن معجزة، لكن لا شيء. في قلبها تعلم أن البحث عن علي قد يكون بلا نهاية، لكنها لا تستطيع التوقف، فهو جزء منها، والبحث عنه هو بحث عن جزء من روحها المفقودة.

-7-

اليأس ..

في لحظة صمت، حيث الزمن يبدو كأنه توقف، رن هاتف عمر فتلقى الخبر الذي يشبه الصاعقة، صوت مجهول يخبره بأن عليا لم يعد بين الأحياء، وأن عليه أن يكف عن البحث. فتجمد الدم في عروقه، وتلاشت الكلمات في حلقه.

بكلمات كانت أثقل عليه من حمل الجبال نقل الخبر إلى سمر، فاستقبلتها بنظرات مشوشة وقلب مكابر.

_ هذا ليس وقت المزاح يا عمر!

يشعر أنها تزيد الأمور صعوبة عليه فيقول لها:

_ أنا لا أمزح، وردني اتصال من مجهول يقول ذلك.

_ هي مزحة ولا شك.. أي مجهول هذا! ربما أحد ما رأى رقم هاتفك فأراد المزاح.

كانت ترفض التصديق، ترفض قبول فكرة أن عليّا قد رحل دون وداع. دون أن يترك شيئا لها. وفيما يراقبها عمر بخوف ووجل استمرت هي بوضع مخططات أخرى للبحث عنه.

استمرت في البحث بإصرار. سألت الناس، المارة منهم والعمال وسائقي سيارات للأجرة، كانت تحمل المنشورات وتوزعها دون كلل أو ملل.

لكن مع مرور الأيام، بدأت الشكوك بالتسلل إلى قلبها، وبدأ الأمل بالتلاشي. لقد أفلست ماديا وعاطفيا، وخسرت كل ما تملك، ولم يبق لها سوى ثمن الحافلة التي ستأخذها للديار.

هو قرار لطالما تفادته، لكن لا بد لها من اتخاذه. العودة إلى القرية، إلى الأرض التي شهدت بداياتها مع علي الذي تدرك حق الإدراك أنه على قيد الحياة، لكن ماذا ستفعل؟ لقد أُغلقت الأبواب في وجهها و لم يعد بإمكانها سوى العيش على الذكريات التي لا تزال معشّشة داخلها.

-8-

الوجه الآخر ..

أمام طاولة خشبية قديمة، يتلألأ فوقها ضوء خافت ويتوسطها مذياع أسود اللون، ذو مقابض نحاسية براقة وأزرار دائرية أدار عليّ المقبض بحذر، وبحث عن التردد السري، الإشارة التي انتظرها طوال أشهر.

تكسر الإشارةُ الصمت، إنها الرسالة المشفرة التي طلبتها الاستخبارات الأجنبية، تنقل تعليماتها بلغة الأرقام والرموز، فسجل هو كلّ كلمة بحذر، يترجم الرموز إلى رسائل، ويحول الأرقام إلى خطط.

توقف المذياع فجأة عن البث، وعاد الصمت ليخيم على الغرفة. نظر عليّ إلى الرجل الذي فتح باب الغرفة بهدوء ليدخل فتجاهله، مسك الورقة التي بيده وأدخلها وسط ملف كان بحوزته. أغلقه ثم نظر للرجل نظرة ذات مغزى ويعطيه إيّاه، فأخذه الأخير ورحل.

تحت وطأة ضميره المثقل راح يتأمل الوجه الآخر لحياته، وجه لم يكشفه لأحد، وجه الجاسوس الذي يتخبط بين الوفاء والخيانة.

تذكر علي اللحظات التي اختار فيها طريق الظلام، طريق الحقد والانتقام. كانت الأسباب التي دفعته لهذا الطريق معقدة، متشابكة بين الغضب على مقتل صديقه والرغبة في تحقيق العدالة بطريقته الخاصة. لكن مع مرور الوقت، تحول الغضب إلى حقد، والعدالة إلى انتقام، والأمل إلى يأس.

اعترف لنفسه بأنه قد يُكنّى خائنا للوطن، لكنه برر أفعاله بأنها كانت الطريقة الوحيدة لمحاربة الظلم. تذكر اللّيالي التي قضاها في جمع المعلومات، والأيام التي أمضاها في تمريرها إلى أولئك الذين وعدوه بالتغيير.

نظر إلى رِجله ثم إلى صورة كريم المعلقة على الجدار، وتساءل إن كان صديقه سيفهم قراراته، أو إن كان سيُدينه على خيانته. شعر بالضياع، فقد أصبح الخط الفاصل بين الصواب والخطأ غير واضح في عينيه. يدرك أنه لا يمكنه العودة إلى الوراء، لكنه أمِل أن يجد طريقة ما تعيد إليه نفسه من جديد، وقف عن الكرسي وتقدم نحو الباب، لا يدري إن كان نادماً لكنه لن يستمر في ذلك، لقد آن أوان العودة إلى سمر.

الفصل الأخير

-1-

المفاجأة ..

في صباحٍ يتنفس برائحة الوداع، حملت سمر حقيبتها، تلك الحقيبة التي ضمت أحلامًا شتى وذكريات، واتجهت نحو شقة عمر. كانت خطواتها يثقلها وزر الإقرار بالهزيمة، وكل خطوة منها وكأنها تقرع طبول الرحيل.

طرقت الباب، ففتح عمر بوجه قلق، كانت عيناه تترجمان توترا ملحوظا، وصوته الذي كان دائمًا مصدر الأمان يرتجف قائلاً:

_ هل أنتِ راحلة؟

ابتسمت بحزن:

_ أجل.

_لا تذهبي يا سمر، البقاء هنا هو الخيار الأفضل.

طالعته بعيون يائسة:

_ لقد هُزمت يا عمر، هذا المكان لم يعد مكاني، قريتي البسيطة هي عالمي الآن، أما عليّ فسأتركه حيًا في ذاكرتي.

كان عمر يحاول أن ينطق بكلمات لكن الألفاظ خانته.

لاحظت سمر الصراع في عينيه فسألت:

_ ماذا هناك يا عمر؟

_ علي.. علي لا يزال على قيد الحياة.

فغرت فاهها دهشة، أحست بالقشعريرة تسري بجسدها وهي تقول بنبرة باكية:

_ لقد كنت أعرف ذلك، كنت أعرف أنه لم يمت، إن حدسي لا يخيب.

_ لكن.. لكن..

يتردد عمر قبل أن يكمل جملته:

_ لكنه في المستشفى.

-2-

اللّقاء

جلس علي على سريره في المشفى. كان قد تجاوز العملية الجراحية، لكن الجرح في قلبه أعمق. هو يعلم أن العودة لحياته القديمة صعبة، ولكنه لم يتوقع أن تكون بهذه الصعوبة.كان ينظر إلى السقف، ويتأمل فيما فعله. لقد كان يحمل أسرارًا خطيرة يدرك أنها ستكلفه غاليًا. لكنه لم يكن يعلم أنه سيكون الثمن الأغلى.

الحسرة كانت تملأ قلبه، كان يحلم بالعودة إلى قريته، إلى والديه وخطيبته، لكنه لا يرى نفسه الآن إلا شبحًا محاطًا بالأسلاك والأجهزة الطبية.

فجأة، فُتح الباب، تدخل سمر، ترتدي فستانها نفسه الذي ارتدته يوم وداعه، عيناها كانتا تلمعان بالدموع، بقيت متسمّرة لثوانٍ وهي تتفرس ملامحه، هو نفسه عليّ لكنهما ليستا عيناه.

سمع هو صوت انفتاح الباب، كان يظنها الممرضة، لكن وهو يدير وجهه ناحية القادم اصطدم بنظراتها التي كانت تعكس السعادة والخوف والكثير من الأسئلة.

بهت قليلا، انعقد لسانه، حُبست الكلمات في جوفه وهو يطالعها تتقدم نحوه، وتجلس على مقربة منه. ساد الصمت لفترة قبل أن تضع يدها علي يدهِ وتهمس:

_ هل أنت بخير يا علي؟

_ سمر؟، كيف عرفتِ مكاني؟

سكبت دموعا حاولت ما استطاعت تجنبها وردت:

_ أهذا هو المهم الآن؟

قال بصوت متحشرج:

_ لا تبكي يا سمر!

_ هل أحزنتك دمعتان؟ هذا لا شيء أمام دموع وأرق ليالٍ كنت أرجو فيها أن تكون بخير. فأين كنت يا علي؟ وكيف آل بك المآل إلى هذه الحال؟

نكس رأسه، لم يجد بما يجيبه ولا من أين يبدأ، هو سؤال لطالما خشي منه لكن لا مفر، إنه مدين لسمر بقول الحقيقة.

-3-

بين نارين ..

وقف عمر خارج غرفة المشفى، يتسلل صوت سمر الغاضب إلى أذنيه ممزوجًا بصوت آخر لم يتبينه. كان يفكر في الاتصال الذي قطع سكون نومه في الصباح الباكر، صوت ممرضة يخبره أن الرجل الذي يبحث عنه موجود هناك منذ أيام. وكأن القدر أراد أن يلعب لعبته، فقد وجدت الممرضة صورته ومعلومات عنه عندما كانت تبحث عن مجهولي الهوية في صفحات الجرائد.

تردد عمر، هل يخبر سمر بما علم؟ كانت سمر بالنسبة له كبحر صافٍ وهادئ، لكن هل ستظل مياهه صافية بعد أن تعلم ما قد يخفيه عليّ؟

لم يمض وقت طويل وهو يغرق في بحر أفكاره حتى دق الباب وقطعها.

فتحه ببطء، كان يرجو ألا تكون هي، لكن لا أحد يدرك كل ما يشتهي، كانت هي تحمل حقيبة تكاد تنطق أنه حان وقت الرحيل.

-4-

لهفة ..

في الطريق إلى المستشفى، كانت تسير بخطوات متلهفة، تتنازعها مشاعر متضاربة، الأمل يتسلل إلى قلبها بينما الخوف على عليّ كان يخنقها.

تنظر إلى عمر السائرِ جانبها بعيون ممتلئة بالدموع وتهمس متساءلة:

_هل سيكون بخير؟

بصوت متوتر، يحاول أن يطمئنها:

_ وضعه ليس سيئا، لقد تجاوز العمليّة منذ أيام.

تسارعت دقات قلب سمر مع كل خطوة تقربها من المشفى، الذكريات تتدفق في عقلها، كل لحظة قضتها معه، كل ضحكة وكل دمعة. تساءلت: هل سيكون هو نفسه؟ كما ألفَته وعرفته؟ إنها الآن تقف على أعتاب لقاءٍ حلمت به طويلاً.

وصلت إلى المستشفى، توقفت عند باب الغرفة، أخذت نفسًا عميقًا، ودفعتِ الباب ببطء.

-5-

صرخة ..

الدهشة تغمرها وهي جالسة على طرف الفراش، ترتعش يداها، تحاول استيعاب الواقع، وتقاوم الإيمان بما تسمعه، فكل كلمة تُقال تثقل كاهلها كجبل شاهق، تريد أن تصرخ، أن تحتج، أن ترفض.

استرسل علي في حكايته محاولاً تبرير ما حدث:

_ لقد أزهقوا روح كريم!

يشير إلى ساقه المصابة ويقول:

_ أصبحت أعرج بسببهم!

تنظر إليه بتساؤل فيرد:

_ لم يمر إلا شهران منذ بدأت الخدمة، أُرسلت للمرابطة على الحدود ليلةً. وحدثت مطاردة بين المقاومين وجيش العدو على الجانب الآخر من الحدود. أُصبت برصاصة طائشة وأنا أدافع عن أرضنا، تصوري، لم يُسعفوني إلا بعد انتظار طويل! وكانت النتيجة فقداني لساقي.

تم فصلي من الخدمة، وأُعطيت مبلغاً زهيداً كتعويض، وطُلب مني العودة لمنزلي! هل هذا جزائي؟ لم أعد أحتمل، الغضب المكبوت منذ أيام الدراسة الجامعية انفجر بداخلي، كان لا بد من التحرك.

أنا لم أخن بلدي، بل كنت أسعى لإنقاذ شعبي. حكومتنا ظالمة وديكتاتورية، قتلوا الأبرياء وأخرسوا الأصوات وداسوا على الحريات، إنهم يستحقون ما حدث.

هزت رأسها مُستنكرة:

_ هل هذه تبريراتك لأفعالك؟ هل هذه تبريراتك للخيانة؟ لا شيء يُبرر الخيانة، مهما كانت الأسباب.

يجيب مُدافعاً عن نفسه:

_ لم أختر هذا الطريق بسهولة، كنت أحاول القيام بالصواب في عالم يعج بالخطأ.

ردت بحدة وانفعال:

_ وماذا عني؟ ماذا عن الحب الذي أعطيتك إياه؟ ماذا عن الصبر؟ ماذا عن الوعود والعهود؟

مد علي يده نحوها، لكنها تنسحب إلى الخلف.

_لم أحب سواكِ يا سمر.

نظرت إليه بعيون ملؤها الدموع:

_ لكنك تخليت عني وخنت كل شيء، الحب، الوطن، الثقة.

_ سمر، أرجوكِ افهميني، سامحيني.

_ ربما في يوم ما سأفهم، وربما في يوم ما سأسامح، لكن اليوم ليس ذلك اليوم.. ليس ذلك اليوم يا علي.

تركت الغرفة وتركته محطما وراءها، لقد خسِر كل شيء.

-6-

حقائق ..

في غرفة علي المعتمة، جلس عمر على كرسي بجانب النافذة، يتأمل السماء الرمادية التي تحجب أشعة الشمس. كان عليّ مستلقٍ على السرير، ينظر إلى السقف بجمود فيما يستمِع إلى عتاب عمر:

_ لقد رأيتُ الألم في عينيها، الخيبة التي تشعر بها لا يمكن وصفها، فما فعلته لا يغتفر!!

يرد عليه بزفرة عميقة:

_ أعلم، وأشعر بالذنب تجاهها، فسمر بريئة ورقيقة، لكن الأمور ليست بسيطة كما تبدو!!

_لكنك خدعتها!!

_ أنا لم أكن أنوي أن أؤذي أحدًا، لقد وجدت نفسي محاطًا بظروف فوق طاقتي، ظروف دفعتني لاتخاذ قرارات صعبة.

_ الخيانة يا علي!! الخيانة؟! هل كانت الطريقة الوحيدة؟

رد بانفعال:

_ لم أكن جاسوسًا بمعنى الكلمة، كنت أفك شيفرات رسائلٍ وأكتبها فقط، لم يكن الوطن سيتضرر، فقط أولئك الذين يظنونه ترِكةَ آباءهم والشعب عبيدهم.

الديكتاتوريات بدأت بالانقراض منذ زمن، منذ أكثر من أربعين سنة، بعد موت هتلر وصاحبه موسوليني. وها أنت ترى أن السوفيات على الطريق. أما نحن، فمِن استعمار خارجيّ لآخر داخليّ أشد منه، إلى متى سنستمر على هذا الوضع؟

صمت عمر قليلاً، أدرك أنه على حق، فهو كان يومًا أداة من أدواتِ بطشهم، لكن الخيانة أبدا لم ولن تكون الحل، ثم قال لعلي:

_ وتبقى مبرراتك واهية، هل قرأت قبل اليوم عبارة ” ديكتاتورية خيّرة خيرٌ من ديمقراطية مزيفة”؟، ثم ماذا عن سمر؟ كيف لها أن تتفهم شيئا يُنكره الضمير وتنبذه الأخلاق!

يُغلق عليّ عينيه ويجيب:

_ لا أتوقع منها ذلك. لقد خسرتها، وهذا جزء من ثمنٍ أكبر أدرك أني سأتحمله طيلة حياتي، ثم .. هل أنت تمزح؟ أيّ ديكتاتورية خيّرة تتحدث عنها؟

يُدرك عمر أنه متناقض فيسكت عن الكلام. يمتد الصمت بينهما لفترة، وكأن الكلمات قد استنفدت، قبل أن يلتفت إليه عليّ فجأةً ويسأل بنبرةٍ مرتابة :

_ كيف لي أن أثق بك؟، قلتَ أنك صديقها، سمر ليس لديها أصدقاء، فكيف عرفتها إذن؟

يبتسم عمر نصف ابتسامة، يدرك أنه أمام شخص اتخذ من الشك حصناً. يعيد التحديق في السماء الرمادية وقد بدأت ترسل رذاذا من مطرٍ سرعان ما أصبح وابلاً، ثم يبدأ الحكاية.

-7-

الغفران ..

في ركن هادئ من المقهى الذي تعرفت فيه على عمر جلست سمر تحتضن فنجان الشاي بين يديها، وأغنية فيروز تعزف لحن الحنين في الخلفية ..

أنا صار لازم ودّعكن
وخبّركن عنّي
أنا كلّ القصة لو منكن
ما كنت بغنّي

غنّينا أغاني عَ وراقْ
غنية لواحد مشتاق
و دايماً بالآخر في آخر
في وقت فراقْ

كانت عيناها تتأملان البخار الراقص فوق الشاي، بينما كان قلبها وعقلها في معركة لاهوادة فيها. هل تمنح عليّا مفتاح الغفران أم تغلق بابه إلى الأبد؟

تذكرت الأيام التي ابتلعت فيها الألم مرا كالعلقم، تذكرت الخيانة التي لا تُغتفر، والأنانية التي لا تُبرر. تنهدت بعمق وقررت أن لا تخفض قيمة الغفران بتقديمه على طبق من ذهب لمن لا يستحقه، وعليٌّ كذلك. لقد آلمها، نقض عهوده معها، خانها وخان وطنا بأكمله، وهمّشها بإخفاء كل شيء عنها، فكيف ستثق به مجددا؟

ستعود إلى القرية، سترجع أخيرا إلى جذورها وماضيها.

-8-

غروب ..

وقفت سمر على عتبة الوداع، حيث امتزجت السماء بألوان الغروب. عمر الصديق الذي كان لها السند والدعم في رحلة البحث عن علي، يقف أمامها، وفي عينيه قصة لم تُروَ بعد.

نظرت إليه بامتنان:

_ عمر، لولاك لما وجدت عليّا، لولاك لما عرفتُ الحقيقة، إني مدينة لك بالكثير.

ابتسم عمر بمرارة، وفي صوته نبرة حزن خفية:

_ كان من واجبي أن أساعدك، صدقيني كنتُ أكبر المستفيدين من ذلك.

_ هل هناك شيء تخفيه عني؟

نظر عمر بعيداً، نحو الأفق حيث تغرب الشمس:

_ كل منا يحمل أسراره يا سمر.

_ لكن الأسرار هي ما جعلتني أفقد علي، لا شيء بشع كإخفاء الأسرار.

حدقت إلى عينيه، حاولت قراءتهما لكنها فشلت فقالت:

_ أنا أثق بك الآن، وأنا ممتنة حقا لكل ما فعلته.

_ ألن تعودي إليه؟ هو في أمس الحاجة إليكِ، ما مرّ به ليس سهلاً.

هزت برأسها أن لا وأجابته:

_ لا طاقة لي للمسامحة، الأمر صعب، والصدمة أكبر من أستوعبها، يلزمني الكثير من الوقت لفهم ما حصل.

ارتسمت ملامح ابتسامة حزينة على وجهه:

_ اعتنِ بنفسكِ يا سمر، ولنا تواصل في القادمِ من الأيام.

ودعته بحرارة، وافترقا عند الغروب، عادت هي إلى قريتها حاملةً معها إجابات تمنت لو لم تبحث عنها. وبقي هو واقفاً، ينظر إلى الطريق الذي اختفت فيه، وفي قلبه سرٌّ سيحمله معه إلى الأبد.

خاتمة

وطأت أرض القرية أخيرا، خطت على الدروب التي شهدت ضحكات الطفولة، وأحلام المراهقة، وطموحات الشباب، فاحتضنت خطواتها الثقيلة والمترددة.

مرت على كشك العم عثمان، كان يجلس أمامه مثل عادته، ومن وسطه تسللت نغمات فيروز من مذياع قديم، لتخترق الصمت الجاثم حوله ..

“راجعين يا هوى.. على دار الهوى
على نار الهوى راجعين
منودِّع زمان منروح لزمان
ينسانا على أرض النِّسيان
منقول رايحين.. منكون راجعين
على دار الحبّْ ومش عارفين”

توقفت سمر للحظة، أرخت سمعها للحن لامس شغاف قلبها. رفع الرجل عينيه عن الصحيفة التي قرأها فالتقت بعينيها. قرأ في نظراتها خيبة الأمل والخذلان، فأدرك أنها ذاقت من مرّ الحياة، حيّته بإيماءة خفيفة ثم تابعت طريقها. 

اتجهت نحو البيت العتيق، كانت تفوح منه رائحة الماضي، فتحت الباب بتردد، وطأت قدماها عتبة الدار. لم تكن والدتها في استقبالها، فقط الصمت يعانقها. تجولت في الغرف، تلمست الجدران، تحسست الأثاث، كل شيء كما تركته، لكن دون روح. توجهت نحو الحديقة، حيث وجدت شجرة الزيتون تقف شامخة، تحكي قصص السنين وأساطير الأولين.

جلست سمر تحتها، أغمضت عينيها، وتنفست بعمق. شعرت بالسكينة تتسرب إلى روحها، وكأن الطبيعة تحتضنها، تخفف من ألمها، تمسح عنها غبار الأحزان. فتحت عينيها لتجد والدتها تقف عند الباب تنظر إليها.

لا تحتاج اللحظة إلى كلمات، فالعيون تتحدث، والقلوب تتواصل. اقتربت السيّدة نبيلة من ابنتها وتلمست كتفها، ربتت على رأسها ومسحت على شعرها، بعدها عادت إلى الداخل تاركة الباب مفتوحًا على مصراعيه ..

النهاية ..

وفاء

الجزائر
guest
39 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى