أدب الرعب والعام

روح تستحق ..

ملحوظة: قد تتناول هذه القصة القصيرة طرحاً عنيفاً لمواضيع حساسة في المجتمع العربي، والقصة في مجملها عنيفة في أحداثها لذا هي لا تصلح لمرهفي الحس ولا تصلح للأطفال. يرجى الأخذ بالاعتبار أن ما يجري على لسان الشخصيات لا يعني اعتناق الكاتب لفكرهم أو دينهم. 

مسعود

خاسر أنا؟ لم تكن الصرخات تعذبني. لم تتردد في أذنيّ بين الحين والآخر. ولم أكن أستيقظ ليلاً ملبداً بالعرق. لا أرق ولا ندم، لا شيء سوى الحياة.

لمسني الإدراك بعد الجثة الخامسة عشر، وبدأ يتكلم بعد الجثة السابعة عشر، أما في الثامنة عشر فقد راح يصرخ فيّ كالمجنون، وبحلول الجثة الثالثة بعد العشرين كان قد بدأ يضربني حتى نزفت دواخلي. لم يكن شعوراً دون مغزى، ولم أكن سوى عبداً للغزائز والشهوات. الإدراك كان بسيطاً ومباشراً، وأتذكر أول كلماته لي.

“إنك يا مسعود يا عزيزي، يا من تظن نفسك أعظم بطل في تاريخ مصر، قد بدأت تفقد الشغف بالدم! لم تعد نفس القاتل المتسلسل الذي مشى بداية الطريق. الرائحة لم تعد تثيرك. الأحمر لم يعد لونك المفضل، والتوسلات لم تعد تضيء قلبك. ثم لا.. العَظْمة لم تكبر بعد، لا زلت في بداية الثلاثينيات. القلب صغر يا مسعود، لهذا فقدت الشغف”

الأمر طريف حينما أفكر به. توبة لم تكن لندم أو صلاح، توبة مُعنوَنة بالملل. أحياناً أتذكر الأسد. أن تكون ملك الغابة، لكنك في ذات الوقت تسمح للفرائس بالمرور من أمامك دون اصطيادها. المفترس الملول. القرش الذي لم يعد جائعاً.

أتذكر الجريمة الأولى. البدايات لا تُنسى أبداً. وقتها ظننت أنها الرسالة، ورأيت الحروف من نور في أحلامي. مشعة للغاية، واضحة لأقصى الحدود. الرسالة؟ المغزى والغرض؟ صوت الرب؟ طهّر العالم من الخطيئة. علّم النمل كيف يكون نملاً. هل الأمر يخصني؟ أم يخصنا جميعاً؟ هل الصلاح الذي سيعم على المجتمع سيفيدني وحدي؟ أم سيفيدنا جميعاً؟

امرأة. فارعة واثقة تمشي مع صبي قدرت أول ما قدرت أنه ولدها. تشبه أمي في تسلطها وجبروتها، ورأيت نظرة مألوفة في عيني ابنها ذو التسعة أعوام. نظرتي وأمي تضربني لأني أوقعت حبة أرز على الأرض أثناء الأكل، أو لأني عالة عليها هي الأرملة المسكينة. مشيت ورائهما وطوال الطريق كانت توبخه بسبب شيء لا أذكره. لمسني شعور قديم. شعور بالعجز والضعف. كلمات أمي التي تضربني فلا تذر فيّ إلا البؤس والكدر. احتقارها لي ونظراتها نحوي. شعوري بأنها تراني أحقر وأضعف وأرخص ما وُجد على الإطلاق. كان كل شيء يتجمع في رأسي وأنا أري مثيلتها تفعل المثل بابنها، فأصابني هياج سيطرت عليه. 

إقرأ أيضا: دردشة الدم

لما وصلا إلى بنايتهما أخيراً، توقفت عن تتبعهما، ووضع علامة في خارطة رأسي  على ذلك المكان. قلت لنفسي سأعود ولم أدر السبب، لكني بعدها عرفت أن الملائكة آنذاك كانت تهمس لي بأن الأوان قد آن. لأن شفتاي كانتا ترتجفان من فرط الأفكار التي كانت تعصف بي عما سأفعله بتلك المرأة. الآن ومع الذكرى، أعتقد أني كنت سأجن لو لم أفعل ما فكرت آنذاك. إني أبتسم الآن. أينك والشغف الذي كنت تملكه وقتها يا مسعود! هه! مزحة لعينة!

عرفت الكثير في الأيام التالية. مثلاً أنهما يعيشان في شقة رقم 5 في الدور الثاني. وأنها أرملة وتعمل في إحدى المعامل الطبية لتعيل ابنها قبل أن تأخذه من المدرسة في طريق عودتها للمنزل. علمت أيضاً أنها أحياناً تتأخر وتترك ابنها يعود وحده. وهنا كان يجب أن يسأل، مَن يفتح للولد؟

الأمر البدهي أنه ثمة نسخة معه، أو نسخة مخبأة في مكان سخيف مثل أسفل مشاية، أو أسفل إصيص نباتات. 

إجابتي كانت مع الطفل، وعرفت هذا لما استوقفته في إحدى المرات التي كان يعود فيها وحيداً. مسلسل سخيف وتمثيل أستحق عليه الأوسكار:

_ محمد؟

ينظر لي ببلاهة، أكمل:

_ محمد صحيح؟

_ لا… أحمد. 

أنزل لمستواه وأربت على رأسه:

_ صحيح نسيت… ما شاء الله كبرت عن آخر مرة. 

_ أنت تعرفني يا عمه؟

_ طبعاً.. أنا صديق قديم لماما، وماما بعثتني مخصوص أوصلك البيت. 

يبتسم في براءة، فأقف ونمشي سوياً دون كلام. أُخرج هاتفي وأجاهد نفسي في مكالمة وهمية فأتأخر عن الفتى، حتى لا يتم اعتباري مرافقاً له. الحمقى فقط يقعون في ذلك الفخ. كان بين الحين والآخر ينظر لي، وعلى الأرجح يسأل نفسه لماذا أسبقه أو أتأخر عنه، ولا أمشي معه. 

لما وصلنا تركته يصعد أولاً متحججاً بالمكالمة، قبل أن أصعد إليه بعد دقائق مرتدياً قفازات وغطاء رأس لبستهما على السلم. لما رننت الجرس فتح فوراً وكأنه كان بانتظاري. ابتسمت له ولاحظت أن نظره مثبت على رأسي بسبب الغطاء. 

_ شعري حساس حبتين. 

تركني أدخل ببلاهة الأطفال لما أعطيته عصيراً أعددته مسبقاً، مع جرعة لا بأس من منوّم ثقيل. أما الباقي فكان سهلاً. أضعه في سريره، وأختبئ في الحمام حتى أسمع صوت الباب يُفتح. أراقبها في صمت وهي تخلع حذائها قبل أن أداهمها من الخلف مكمماً إياها بلاصق قوي. أجرها جراً إلى غرفة ابنها، وهناك أقوم باغتصابها وصفعها على مناطقها الحساسة حتى تدمي. كله تحت أقدام الصبي النائم. كنت أسألها عن فائدتها في الحياة باستمرار، وعن مدى ندمي أني مضطر لاغتصاب امرأة لا قيمة لها مثلها، ولم تملك شيئاً سوى البكاء والنظر إلى طفلها. 

إقرأ أيضا: سرداب الموت

كنت أحاول إذلالها بشتى الطرق التي فكرت فيها، والتي تطورت فيما بعد لدرجات لم أكن أتخيل أنها موجودة بداخلي. 

في النهاية قطعت لحماً حساساً منها وسط صرخاتها المكتومة المتوسلة، ووضعته في علبة بحقيبتي لآكله بعد حين، قبل أن أخنقها حتى الموت بحبل غليظ. 

انهمكت بعد ذلك في قص أظافرها والاحتفاظ بها، وفي مسح آثار وجودي بحذر. 

اما الطفل فنقلته لغرفة نوم أمه، وحمدت الله أن مفتاح باب تلك الغرفة موجود به، فكان أن حبست الطفل داخلها، وتركت المفتاح بالثقب الخارجي. راجعت المكان كما أراجع أوراق امتحاني، قبل أن أخرج من الشقة بحذر منصتاً لأي أصوات صعود أو نزول. تركت باب الشقة مفتوحاً ليدخل الفضولي الذي سيتم اتهامه فيما بعد في أنه القاتل بعد أن يبلغ عن الجريمة التي رآها، وهبطت الدرج بخفة حاملاً حقيبتي إلى عالم جديد خارجي، وفضاء آخر داخلي. 

***

فوزية

رأيت كل شيء، في الواقع، الحلم، والخيال. لمست كل زهرة ذات رائحة جميلة. وطرت فوق كل مبنى تنبعث منه رائحة الطبخ. 

الأصوات كانت عالية، وأنا كنت ضعيفة، لكني تنفست وقاتلت، ثم استيقظت على الرصيف. تنهدت. حلم جديد أخذ دوره. 

لا أذكر الطريق. لا أذكر كيف انتهى بي الحال هنا. الذكريات ضبابية، والأجزاء الواضحة منها مؤلمة وتحرقني في كل حضور. على أنه لم يكن طريقاً مميزاً بكل حال. ولادة الشوارع. أب مجنون لا يعرف أين يُبقي على قضيبه. وأم رغم علمها صامتة لا تفعل شيئاً غير التسول. أسمع الناس يتحدثون عن حوادث الاغتصاب من الآباء والأخوة وأبناء الأعمام. يتحدثون ويتحدثون. يضربون كف بكف ويقسمون بالقبور أن العالم أضحى مكاناً لا يصلح للعيش. هكذا يدرك المرء أنه وبعد اغتصابه قضية رأي عام كبيرة مرمية على الرصيف، شريطة أن يكون من ضمن الطبقة المتوسطة أو العالية، غير ذلك، فقصتك التي تبيعها يا عزيزي الإنسان المغتصَب ليست مثيرة للشفقة. 

متى؟ من العاشرة وحتى السادسة عشرة. كنت صبورة حقاً. تزورني امرأ تشبهني في أحلامي وتقول إني استمتعت بتلك الاغتصابات المتكررة. أحياناً لا أفهم نفسي. لكن ثمة أضواء واضحة في كينونتي، وأفهمها فهم الدارسين. ضوء المال. ضوء السعادة. ضوء الحب. في قلبي وفي عقلي رأيت حقيقة واحدة فقط لا غير. السعي وراء تلك الأضواء. 

قرار الهروب لم يكن صعباً أبداً، فالعائلة لم تكن تقدم شيئاً لي سوى قيود تكبلني عن التنفس. وبكل حال آمنت أن الطريق سيكون رحيماً بي أكثر منهم، وقد كان حتى بدأت أرى الخيارات التي أملكها، لا للسعي ولا محاولة الوصول، بل الخيارات التي أملكها كي أعيش وأتنفس، كي أكون إنسانة ذات مشاعر وذات معدة شبعة. 

لا أذكر بالضبط كيف جُررت إلى ذلك العالم المظلم، لكني أذكر أن كل شيء بدأ في محطة قطارات. كانت لدي أفكاري ومشاعري حيال الأمر، نظريتي اقتضت أنه يوجد الكثير من الوجوه هناك، مما يعني المزيد من الشفقة. شيء عن الاحتماليات والأرقام. لم أكن سعيدة، لكني فعلت ما يجب فعله. 

إقرأ أيضا: قتلت حماتي

مرت أيام وأتى عليّ وقت تفطنت فيه لأشياء كثيرة. مثلاً إلى أنني يمكن أن أكون مثيرة في عيون بعض الرجال، أو إلى حقيقة أنه يمكنني فعل ما هو أكثر من التسول. 

كانت بوابة صغيرة، ولكنها تقود إلى عوالم أخرى مختلفة. عالم رأيت المال به ليس مشكلتي الأولى، وعالم نسيت فيه كيف أتنفس، وعالم ليس بعالم سوى المتعة… 

أما آخر ما توقعته حقاً، هو أن أدخل لعالم الحب عبر تلك البوابة. 

كان لا شيء ألفته أو عرفته في ذاك الحين أو بعدها، وكان كل شيء أحببته يوماً، وسأحبه على الإطلاق. هو بشعره النائم، وعينيه اليقطتين. أنفه الطويل وحنجرته البارزة التي عشقت تحسسها بداعٍ ودون داع في عالمنا المستقبلي. 

كنت أجلس أرضاً إلى أحد جدران المحطة حينما رأيته لأول مرة. الأصوات مختلطة وكثيرة، والناس يجيئون ويذهبون حولي بينما أنا الساكنة الوحيدة بينهم. خروج وجه عن دائرتهم ليأتي إليّ كان أمراً نادراً أحبه، فعندي كان ذلك يعني أنها صدقة لي أو أجرة، ولا شيء غير ذلك أمكن خيالي رؤيته للوجه الحزين القادم إليّ. 

تلاقت عينانا حيناً وطُرحت أسئلة صامتة خلاله. فوجئت أنه ينضم إليّ ويجلس بجانبي. طالعته بهدوء الغرباء، ولم أنطق بحرف إلى أن تكلم هو:

_ تسمحي لي بالكلام؟ لازم أتكلم وأحكي وإلا… وإلا الجنون. 

قدّرت أنه واحد من أولئك الزبائن البسطاء أصحاب المشاكل العاطفية، والذين يأجرونني لأجل الكلام. بابتسامة بسيطة أحدت نظري عنه:

_ دنيتك وعدت ولا وفت؟

حينها كانت أغنية سخيفة بهذه الكلمات ملتصقة برأسي، ولم أجد ما يقال سوى ذلك.

_ بالعكس. وفّت. 

_ والمشكلة؟

_ المشكلة فيّ. 

نظرت له بطرف عيني. كان يطالعني بشكل مباشر، فيدير وجهه كله ناحيتي. أقول وأنا أضم ساقيّ إلى صدري:

_ كنت فاكرة أن كلنا مشاكل. 

_ أكيد. وكلنا عايشين في حروبنا.. يوم ننتصر ونعيش، ويوم ننهزم ونموت. حياة شيكسبيرية ممتعة.

_ وحربك قتلتك؟

_ لا.. كسبتها لكن دفعت الثمن. 

_ أملك تكسب بدون دفع ثمن؟

_ ثمن فوز أكبر من ثمن خسارة..تخيلي!

_ مبالغة. 

_ يمكن.

_ طيب الثمن؟

_ مشاعري. 

_ ما لها؟

_ خسرت مشاعري. 

وقتها ضحكت كما لم أضحك منذ فترة طويلة. تعجب لي:

_ فعلاً؟

_ لا مؤاخذة يا بيه.. دنيا ودنيا. 

_ كل واحد يفكر في نطاق مشاكله.. صحّ الكلام؟

_ إلا الصح! 

_ اعتبريني مجنون.. لكن سايريني.

_ تفضل.

_ تفتكري لو بدلنا، هل من الممكن أن الأحلام.. أحلامنا.. تتغير؟

_ بدلنا؟

_ يعني أنا الفقير.. وأنتِ الغنية. 

ابتسمت:

_ لعبة يعني؟

_ حقيقة! 

قلت بنوع من نفاذ الصبر:

_ اسمع يا بيه. أنا يمكن بنت بسيطة، لكني غير أنك تلعب معيّ لعبة الأمل. معك حسنة كثّر خيرك.. غيره يفتح الله. 

_ اسمعيني أنتِ. يوم واحد في الأسبوع. تكوني امرأتي من غير الجانب الجسدي في الموضوع. نخرج نلف العالم ونرجع المحطة هنا ثاني. لكن يوم واحد فقط لا غير. 

إقرأ أيضا: مذكرات عاهرة

نظرت له وهممت باستكشاف مزحه من جده، فلم أر الهزل الذي توقعته. 

_ قلت لي أنك الفقير وأنا الغنية. 

_ أنتِ صاحبة القرار.

_ يعني؟

_ يعني تقرري نشتري ونأكل ونشرب ونلبس من أين. 

_ ببساطة؟

يهز رأسه إيجاباً:

_ فكّري. 

أغنية بعيدة بدأت تتعلق بمسامعي. لحن غريب وكلمات عن مدى روعة الحياة. 

يمد يده لي:

_ سامح بالمناسبة. 

أصافحه بتردد:

_ فوزية. 

***

مسعود

آخر جريمة لي قبل الاعتزال غيّرت آخر ما تبقى في تفكيري. ربما هي الجريمة التي أدركت بعدها أن لا شيء ممتع في القتل. ليس بعدها. 

حينما رأيته للمرة الأولى، قدّرت أنه رجل يتأرجح بين الشباب والكهولة، وزارني إحساس أن الطريقة التي سيصرخ بها وأنا أقطع أوصاله، ستكون ممتعة قياساً على صراخه المتعجرف في وجه فوزية المتسولة. 

في ظروف طبيعية، لم أكن لأهتم بالموقف، لكن فوزية امرأة جميلة تزاول مهنتها _الأولى_ عادةً في مدخل محطة القطار، وقد عرفتني وعرفتها منذ زمن طويل. ولما رأيت المتعجرف يحادثها غلى الدم في عروقي، وثقلت أنفاسي حتى بدت كأنفاس دب جائع. بالتأكيد كانت تتوسله أن يأخذها معه إلى أرض الأحلام، أحلامها هي بالطبع. 

أعرف فوزية، وأعرف عن مهنتها الثانية والأقل رواجاً من الأولى. مهنة حزينة تقدّم فيها خدمات جنسية متنوعة في حمامات المحطة. وكان صاحبنا هنا قواداً ثرياً يصطاد الشبقات ويقدمهم وجبة هانئة لأثرياء آخرين، وهكذا تسير الآلة متجددة للأبد، وقطع الغيار التي تتغير بها رخيصة للغاية ومتوفرة بكثرة. 

لم أحتج للكثير من التفكير حتى أدرك ما حدث. القواد كان يختبر _قدرات_ فوزية حتى يقرر إذا ما كان سيأخذها معه وسيعطيها وظيفة دائمة أم لا. بالطبع لمعت عينا فوزية، فالفرصة لا تأتي مرتين. لا بد من أنها حلمت بأنها تسبح في غرفة مليئة بالمال، أو تملك منزلاً به ثلاجة مليئة بأطايب الطعام. أحلام الفقراء بسيطة وغبية. 

تحقيقاً لأحلامها، أعطته العاهرة المسكينة أفضل ما تملك، فأعجبته حد الهيام، وفضّل ألا يرميها للآخرين حتى تظل متاحة له دائماً وفي أي وقت، ودون مقابل تقريباً. فلسفة الحفاظ على المكانة. إن أطعمت الطفل سيكبر وسيطلب من المزيد من الطعام في كل مرة، ثم في النهاية سيكبر ويتركك، البالغ الآن لم يعد يحتاجك. 

لا ألومه بكل حال، ففوزية خارقة الجمال. ذاك ما أعرفه. ورغم أني لم أجرب أي من خدماتها المثيرة، إلا أني ومن نظراتها أعرف لأي حد يمكن أن تكون شرسة. 

الذكريات بعيدة لكني أراها أمامي بوضوح. نافرة النهدين. بياض الحليب. وطراوة العجين. حزمة متكاملة لا تجدها في أعتى وأفضل العاهرات. جوهرة مختبئة في محطة قطارات…. 

استغرقني الأمر أسابيع حتى أعرف أنه يأتيها كل خميس في حدود السادسة مساءً، ويأخذها إلى وكره القذر، قبل ان يعيدها في اليوم التالي، وذلك كان الخيط الذي أمسكته منه، الخيط الذي فيما بعد سيصبح حبلاً سميكاً يقيده في حمامات المحطة. كانت ليلة رائعة حقاً!

في البدء انتويت تهديده فقط بأن يبتعد عن فوزية لأنه يطعمها أحلاماً زائفة، لكن الزنديق هددني بقتلي، وقد بدا لي أنه لا يفهم موقفه جيداً، لهذا قررت محاكمته أنا أولاً، وحكمت عليه بالإعدام.

إقرأ أيضا: مرايا الظلام – قصة قصيرة

أول الدم الذي رأيته من آخر قتلاي كان من قضيبه الذي قطعت، ولما انفجرت الدماء منه حتى أغرقت وجهي، تأففت في قرف وسط صراخاته المكتومة. في العادة كان ليدق قلبي بسرعة مهتاجاً، لكن الآن أصبح كل شيء مملاً. رحت أمسح وجهي بمنديل في ذات تلك اللحظة التي كان بطل جريمتي الأخيرة فيها يولول كالأطفال، وقد حشوت فمه بعضوه الدموي. 

بعدها بثوان، وعند نقطة ما، كنت قد مللت من نحيبه، فقررته إنهاء معاناته بطعنة غاضبة عشوائية مرت من عينه إلى مخه. قتلته في ذات المكان الذي أخبرتني الملائكة أنه ضاجع فيه فوزية. استبدلت أنين متعتها بأنين ألمه، وهياج حواسها بسكون جسده. آخر قطرة دماء في كأسي، وأسوأ قطرة تذوقتها على الإطلاق. غير أنه ليلتها نمت مرتاحاً وقد علمت أني أسديت للعالم خدمة رائعة بإزالة جرثومة مزعجة كانت تؤذيه. 

***

فوزية

سأكذب إذا قلت إن تلك الفترة لم تكن أفضل أيامي على الإطلاق. شعرت أن سامح هو هدية العالم لي. الروح الوحيدة التي قادتني حيث أريد. الرجل المناسب في المكان المناسب. ابتسامة وربما ضحكة من القدر الذي يقف في الزاوية ويقول لي وهو يغمز أنه لم ينسني أبداً. أغمز له بدوري وأشكره.

 كان الأمر بسيطاً. يمر علي كل خميس ليأخذني في سيارته الفارهة، إلى حيث أريد. ببساطة، يوم كامل أقرر فيه ما نفعله سوياً. 

أخبرني في تلك الأيام أنه كان يعمل قواداً، لكنه ترك المهنة منذ زمن بعد أن كوّن لنفسه ثروة لا بأس بها. وحاولت ألا أكون فضولية أكثر من اللازم معه، فلم أسأله الكثير. 

في آخر المرات، وقد كانت ربما المرة الثامنة أو التاسعة، قررت أننا سنذهب إلى شقته حيث يمكنني الاغتسال، وبعدها نخرج إلى السينما. وكنت أحاول مغازلته لشيء. أن أرى وجهه الآخر في السرير، ذلك أنه أبداً لم يلمسني بطريقة غير مهذبة. وتعجبت له لأني أعرف نفسي، وأعرف أنه من الصعب جداً لأي رجل طبيعي أن يكبح نفسه عني حينما نكون في مكان ما وحدنا. 

خرجت من الحمام مرتدية بُرنس لم أشهد أنعم منه قط، وقد أرخيته من ناحية الخصر والصدر قليلاً، وتوجهت إلى سامح حيث مجلسه المعتاد على الأريكة. كان يعبث بهاتفه الذكي حينما ألقيت نفسي عليه بخفة:

_ أحلى أيام حياتي. 

يبتسم بجانب فمه:

_ الحمد لله. كنت بدأت أحس أنك كارهة الموضوع. 

أقول باستنكار:

_ كارهة! بذمتك! 

يضحك:

_ مثلاً طمعتي في أكثر من اليوم الإسبوعي. 

_ يمكن.. لكن غالباً لا… شعور جميل على فكرة. 

_ الانتقال من القاع للسطح في ليلة. 

أهز رأسي إيجاباً وأنا أُمشط شعري. تمر فترة صمت قبل أن أقول فجأة:

_ احكِ لي. 

ينظر لي متسائلاً. فأنظر له رافعة حاجبي الأيمن محاولة إلقاء سحري عليه. تلك نظرة يحبها معظم الرجال. أكمل كلامي:

_ حكايتك. حربك وثمن كسبها. 

يصمت لبرهة، وقد أيقنت أنه بصمته هذا لا يريد الإجابة، غير أنه فاجئني:

_ كنت دائماً شايف الناس منفاقين.. منافقين حتى بدون ما يحسوا. نظرة عادية؟ممكن، لكنها نظرة ساعدتني في الخروج من عالم الأخلاقيات. البنات بالنسبة لي كانوا أدوات بدون مشاعر. وتوظيف الواحدة كان أسهل من شرب المياه عندي. لفترة كبيرة كنت مؤمناً بالمبدأ إياه. 

_ عايزة أخمن. عينك زاغت؟ الحب حرب مع غريب لا نعرفه؟

_ الموضوع يبان سخيف لما تقوليه بالطريقة ذي. 

_ طيب والمشكلة؟ 

_ كانت رافضة مقابلتنا غير بصفتها الرسمية. 

_ يعني؟

_ يعني من الآخر يا سي سامح عايزني أحبك أدفع.. ولما تدفع أحبك لليلة واحدة والثانية أنسى. 

أنظر له ببلاهة ولا أعرف ما أقول. أليس هذا ما يريده الرجال دائماً؟ حب للإيجار؟ ينتشلني صوته من أفكاري. 

_ سخافة ها؟

_ تقريباً. 

_ وطبعاً الموضوع أرقني، فبدأت أنبش وراءها. 

_ و؟

_ عائلة معدمة.. صفر.. أو تحت الصفر. 

_ عادي يعني.. كلهم أكيد نفس الحكاية. 

_ واحد من زبايني اسمه عمر الحسيني. رجل أعمال بميول سادية. 

_ بطل جديد في الحكاية؟

_ قتلها. 

اتسعت عيناي بدهشة، ونظرت له باستنكار. يكمل وكأنما لم يقل شيئاً:

_ عوّض أهلها بمبلغ مقبول في نظرهم، وتكتموا على الموضوع. أما أنا… نمت ليالي أفكر فيها. 

أمسكت بيده وضغطت عليها. 

_ ليلتها الأفكار خنقتني. ظهر ضميري. 

يبتسم بمرارة:

_ حسبته مات لكنه فاجئني. 

_ رغم أن الذنب… 

يقاطعني:

_ موتها ساعدني أحس بالفرق. في العادة لو أي واحدة غيرها ماتت، رد فعلي كان سيكون أبسط مما تتخيلين.. كلبة وراحت صح؟ لكن لما هي راحت سمعت الصوت. 

_ صوت؟

_ كل يوم وأنا نائم. الحب للعالم كله يا سامح! الأرواح للعالم كله يا سامح! سامح سامح سامح! 

يقول جملته الأخيرة ثم يغوص في الأريكة وكأنما يسألها ابتلاعه. أحاول مواساته:

_ طيب. أنت أكيد أقوى من الصوت. 

_ القوة لله وحده. عمله معه معاهدة. 

_ مع من؟

_ الصوت يا فوزية.. عملت معه معاهدة. 

_ فهمني أكثر. 

_ يخرس مقابل أن أنتشل البنات من الوكر القذر.. عكس وظيفتي تقريباً. 

_ بمعنى؟

_ بمعنى أن على مدار أيام الأسبوع، مخصص يوم لكل بنت. 

نظرت له ببرود. وأنا الذي رقصت على أنغام الشوق، وغنيت مع فيروز حتى بح صوتي. أحكمت إغلاق البُرنس ثم قلت:

_ وأملك؟ غرضك؟

ينظر لي باستغراب:

_ السعادة لبنات عايشين البؤس. الاتفاق من البداية. نسيتِ؟

إقرأ أيضا:سيمفونية فتاة يائسة

كانت تلك آخر ليلة أراه فيها، لأني في الليلة التالية مُنعت من دخول المحطة التي غمرها رجال الشرطة غمر الشمس للأرض. ولما سألت، قالوا إنها جريمة قتل بشعة. لم أهتم كثيراً حينها. كلب وراح على قول سامح. كان هذا قبل أن أدرك أن الكلب الذي راح، هو صاحب المقولة ذاتها. القدر وبضربة احترافية واحدة، قنصة قاتل مأجور مخضرم، لكمة قاضية لملاكم مرعب، يصرعني أرضاً. 

***

مسعود

عند مرحلة ما اعترفت لنفسي بالحقيقة. أنا أحب فوزية، أحبها وسألت نفس العديد من الأسئلة. هل هي لي؟ هل أنا لها؟ ندور في دائرة ونبكي على أنغام الشوق مثل المتحابين. زهرة في يدي وزهرة في يدها والقلب بيننا ينبض. أمطار في غابة حبنا تسقينا وتبكينا. 

أحلم وأحلم ثم أفيق على حقيقة رحيلها. عرفت أنها خائنة وكانت ربما تحب قوادها. ورأيت الحقيقة وانكشف عني البيان، ضحيتي الأخيرة لم تصرخ قط في وجه فوزية. وحكيت ذلك الكلام لواحد من ملائكتي الذين يطوفون حولي فقال لي إني مريض كثير الأوهام، وطلع صبح عليّ فوجدته جانبي يخبرني أني يجب أن أزور طبيباً نفسياً للشفاء، فتثاءبت وتركته ومضيت. 

تمر بعدها أعوام خمسة لم أذق فيها طعم الدم. وضعت الصخر على باب غرفة مسعود القاتل، وفتحت باب غرفة مسعود الموظف البسيط. في تلك الفترة ذهبت عني أصوات الملائكة، فلم أرهم ولم يروني. وكنت أشعر بالرعب كلما تذكرت ماضيّ المؤرق، وعلمت وقتها أن أصوات الملائكة كانت تهوّن عليّ كثيراً، وفكرت أكثر من مرة أنها هي التي دفعتي لأقترف ما اقترفت، حتى آمنت مع الوقت أني مأخوذ بالإثم، وأن لي مع الملائكة حساب وقصة عتاب، وظللت هكذا لا أعد أيامي فتمر شمس ويتبعها قمر وأنسى، وأسير مع السائرين وأشكو شظف العيش وغلو الضروريات المحييات، ويأتي لي رمضان فأصومه وأستغفر وأبكي في الصلاة، وألبس الجلباب كل جمعة وأتعطر بالعود والعنبر، ومرات أئم الناس وأخطب بهم، وأصرخ علو حنجرتي عما هو آت من هلاك، وأقول يا ناس التوبة التوبة. فعلت وقلت وذهبت وصعدت ونزلت. مسعود يتبدل. مسعود مغسول الأفعال والفكر والماضي. مسعود يتشيخ. مسعود والصلاح مشروع ناجح. هكذا قلت لنفسي وهكذا ظننت لفترة طويلة، وتعاظمت نفسي وصدقت الكذبة، ورحبت أيما ترحيب بمسعود الشيخ، وبنيت له بيتاً جانب بيت مسعود السفاح وأجزت له السكنى، فحلت عليّ نسائم الراحة والطمأنينة، حتى قابلت شيخاً محني الظهر أمام المسجد، وكنت خارجاً من صلاة العشاء لما وجدته يناظرني فيقول:

_ هل يُعد التائب تائباً إذا لما يتب بوازع الندم؟

سمعتها وكأنما البرق الذي سمعت فتسمرت مكاني، وطالعته يبتعد عني خطوتين أو ما يزيدهما بقليل، فرمشت مرتين وبين الرمشة والرمشة _وأقسم على هذا_ اختفى… تبخر أو تطاير كذرات التراب. صحت مندهشاً فأتى لي شاب طيب أعرفه، فقال:

_ ما لك؟

_ رجل هكذا محني الظهر… كان يكلمني حالاً.. اختفي! 

_ آه… تقصد الولي الشيخ. 

_ ومن ذا؟

_ كان من رواد المسجد قبلك. 

_ كان؟

_ لا يصلي حينما يراك إماماً، ولما انتظمت زياراتك للمسجد لم يعد يأتي. 

_ وماذا بيني وبينه أصلاً! 

_ هو من الأولياء.. مكشوف عنه.. غالباً اطمئن لك يا شيخنا، فآمن أن المسجد في يد أمينة، لهذا لم يعد يأتي. 

إقرأ أيضا: شياطين الفجر الأسود

 عدت يومها للبيت والغضب سيدي، فأقمت إعصاراً وحطمت ما حطمت وركلت وتعانفت مع كل جماد، حتى تعبت فنمت، وفي نومتي تلك حلمت أني طير يحلق بين السحاب ويناظر بروجاً عالية، فأختار برجاً منها وأهبط إليه، وإذ فعلت أجد امرأة غاية في الحسن تنتظرني، فتقول ويتردد صدى صوتها في العالم بين السماء والأرض:

_ أستحق… أنا أستحق. 

وأقوم بعدها قومة القائمين من الموت إذا قاموا، لا أرى إلا الضباب ولا أسمع إلا الطنين. صباحها ذهب إلى العمل بروح جديدة، وظننت أني أغادر بيتي وإذا بي أغادر بيت مسعود الشيخ، فظللت أفكر طوال طريقي في كلمات الولي، وسألت نفسي مئة سؤال وجاوبت مئات الإجابات المختلفة، وفي العمل لم أزد شيئاً لموظِّفي ولم أنقص شيئاً من تفكيري، فلا أراني استحققت راتب يومي ذاك، وعدت إلى بيتي مهموماً لا ألوي على شيء، حتى سمعت همساً خلف أذني اليسرى:

_ انظر هناك… خلفك باتجاه السابعة. 

فالتفتت وإذ بي أرى ما لم أقدر رؤيته أبداً. امرأة فاتنة لم أتعرفها في بادئ الأمر، حتي بانت ملامحها وإذ به الهول يضربني. هي فوزية لكن ليست أي فوزية، فوزية رفيعة المقام تلبس الطيب الساتر من الثياب، وتحمل من المحامل حقيبة كتف وأكياس بلاستيكية، وفي يدها طفل صغير تنهره بغلظة. وأعاد شريط ذاكرتي الصوتية جملة لن أنساها ما حييت:

_ أستحق.. أنا أستحق. 

وزدت أنا بصوتي عليها:

_ تستحقين.. أنتِ تستحقين الموت. 

***

فوزية

هكذا تطلب مني نفسي أن أنساه فأسألها كيف والشوق غلاب! تقول السماء فوقكِ ماطرة عاصفة والأرض أسفلك صحراء ممتدة، إما أن تتحركي وتمشي في صحراؤك تسعين غوثاً، وإما أن تقفي وتطالعي لسماؤكِ تنظرين غيثاً. فكان أن استمعت ومشيت، ونسيته ونسيت ما كان وعملت على نسيان الطريق، فإذا أتى لي زبون يستنظر الحرام صددته، وقلت تبتُ وألا يعود، ورميت مرساي في أرض الله، فإذا رمت لي امرأة مالاً أو وضعته في كفي أخبرتها أني مستعدة للكنس والمسح وأعمال المنزل، فتاجرت تجارة جديدة وأتقنتها حتى اشتريت هاتفاً ظل يرن الليل والنهار لرزق طيب مرضي عنه في الدنيا والدين، فصار يومي ينقسم بين ستة بيوت أو أكثر أو أقل، وجمعت مالاً فتحت به محل خضراً وفواكه، ونضجت ونما بدني من خير حلال، وتلك أمرأة تأتيني تسألني الصدقة فأعطيها ما أظنه أزيد من حاجتها، وذلك رجل عجوز كفيف أدفع إيجار غرفته وأذهب له كل صباح لأعني به وبحاجياته، وهذه أمسياتي أقضيها مع نفسي وحيدة أسائل ربي شيئاً لم أجربه لكن أحسه. دفء زوج وحب طفل ونور عائلة صغيرة. قلت يا رب تبت وأشكو الوحدة، ولي فيما لي من رغبات كثيرة سؤال أكبر من غيره، وإجابته البيت والسُكنى وظل رجل يعامد ضوء الشمس ويقيني نارها، وعرفت بالدرس والفطرة أن تلك سنة الحياة، لا تبعد كثيراً عن أنثى ورجل يعطيان لكل الأشياء لونها، ويعطيان لبعضهما البعض ما لا يقدر غيرهما أن يعطيه. 

هكذا عشت الأيام، وبين الحين والآخر يطل خاطب أو راغب أو عاشق، وأفحصه وأسأل عنه ولا أجد طريقه من طريقي ولا مرساه في بحري. وبين الليلة والليلة تتجدد دعوتي، وأنام وأنا على يقين أن لي مما أريده شيئاً لكنه لم يأت بعد، وأقول يا فوزية الصبر الصبر. 

إقرأ أيضا: العشق المظلوم – الجزء الأول

حتى أتى لي وجه جديد صبوح.. رجل خجول يعلم معنى الخُلُق ويفهم من الكتاب ما يقيمه بين الناس شيخاً وما كان بذلك لما أتاني. يطلب خضراً وفاكهة يوم الجمعة من كل أسبوع فأنتظره لأحادثه كلمتين أو ثلاث. وثبت الحال حتى تغير شيء بي وصرت ألبس الجلباب الضيق يوم الجمعة وأتزين وأخرج من شعر رأسي خصلة، ومن ثم أجده لا ينظر لي ولا يقيم لشهوة عينيه وزناً وأنا التي أعلم أن تأثيري وصل له كاملاً مكملاً، إنما تقوى الرجل من حديد وأنا سجينتها، فما زادني ذاك إلا إصراراً، حتى وجدته في خيالاتي يتفحش بي فأردته وزدت أسلحتي ضده سلاح الكلام، فصرت أسأله عنه وعن يومه وعن حاله ودنياه وأطيل السؤال، أما هو فيجاوب قدر ما يريد ويصمت عما لا يريد، فعلمت عنه ما يرضيني ويغمني، فقال أعزب أتى من الجنوب ليدرس في العاصمة ويستأجر سكناً، وفرحت بعزوبيته وحزنت لمغادرته بعد انتهاء دراسته، وسألته ذات جمعة بحزن متى تغادر فضحك ولم يجب، وتالي جمعة لم يأتِ فعلمت أنه رحل، وآملت شيئاً فانتظرته الجمعة التي تليها فلم يأت فضربت كفاً بكف وسلمت الأمر لله وعدت لارتداء الجلباب الواسع يوم الجمعة التالي، وفي السبت الذي يليه وجدته أمامي ومعه امرأة كبيرة في السن، وابتسمت لما رأتني وسلمت عليّ كأنها تعرفني، وبقي هو صامتاً يبتسم كلما ناظرته، وعلمت بعدها أن تلك أمه وأنه جاء بها تراني وإذا أعجبتها تخطبني له، وقد كان فأعجبت فخُطبت وزوجت بعدها بسنة. 

أيام وأيام. العيش جميل والبسمة لا تفارق الوجه. الصلاح في كلمة يتمثل في كينونته، في الذي صار زوجي. وتمر اللحظات مر الشهب، فأجد نفسي تارة حامل بوليدي الأول، وتارة بالثاني، وتارة بينهما أعلمهما معاني الأشياء، فأقول النبات أخضر والشاي شراب والخبز طعام والبيت بناء والحب؟ الحب أنا وأبوكما. 

وأغمض عيني وأفتحهما وإذ بهما كبرا حتى دخلا المدرسة، وأغمضهما مجددا فأفتحهما وأجد الدم بين يدي وعلى وجهي ورقبتي. شفق المغيب ليس نوراً في الآفاق، بل هو الدم والدمع في العين. 

***

مسعود

للمجد ذكرى فى خاطري، ومجدي بيني وبينه أمتار. امرأة أحبها وأكرهها. امرأة كنز وقمامة على جانب الطريق. الهمس لم يعد همساً، والملاك لم يعد ملاكاً. رأيته يتشكل جانبي، ما ظننته ملاك كان أنا! همساته وكلماته ونظراته أنا. الرسالة قدمتها لنفسي، والروح الطيبة التي كانت تحوم فوقي كانت أنا. قال لي:

_ أرأيت؟ أنت كل شيء! 

فقلت له منبهراً:

_ ألستَ الملاك! ألستَ منقذي وواضعي على هذا الطريق! ألم تهمس لي مراراً! 

_ أنا أنت، وأنت الملاك. أنت منقذك وواضعك على هذا الطريق. 

_ إذن من هي؟ من فوزية؟

_ نسمة هواء في الصيف. كلمة شجن في الليل. ثعبان تحبه وقرصك. شيطان يجب التخلص منه. ملاك وشيطان.. أترى؟ إنها حربك. الخير ينتظر في النهاية. 

_ أتقصد ينتصر؟

_ لا. لا منتصر حقيقي في حرب الخير والشر. من المنتصر في حرب تقوم منذ بدء الخليقة إلى نهايتها! أقول لك، الخير لا ينتصر، بل ينتظر شراً جديداً يقاتله. 

إقرأ أيضا: حكايتي مع هدى

أقول له وأنا أدفعه:

_ كفاك فلسفة، أتفهم! 

يضحك ثم يناولني سكيناً:

_ هدفك أمامك. 

يدفعني بعنف فأجد نفسي أمشي في الزقاق الفارغ. يقول ويتردد صدى صوته:

_ بالدم… لا تنس. سيأتون الآن. ارسم لوحتك الأخيرة! تذكر… بالدم! 

كان وقت غروب جميل. وقفت أطالع المشهد من بعيد. سكين يقطر دماً. ثلاث جثث وامرأة تجثم عليهم بينها وبين الجنون شعرة. نساء تصرخن. تجمع خائف على مدخلي الزقاق. محبوبتي لي وحدي ومن يمسها يُدمى. طفلان ورجل بالغ. الهوان والهلاك بين البداية والنهاية. هو النصر إذن. أبصق ثم أرحل. 

في الأيام التالية طالعت من أمرها شيئاً. راقبتها وهي تهوي من أعلى برج العقلانية. يظن المرء أن أموال زوجها المورثة ستكون رِفعة لها بين الأقوام، ويراها ويرى حالها ويدرك أنه واهم. فوزية جديدة. فوزية أرملة مقطوعة الجذور كما قابلتها لأول مرة. فوزية أدمنت أحلام المخدرات والعقارات المهلوسة. دونها لا تحتمل الألم.  ثروة زوجها التي ورثتها تتناقص لكنها صامدة، لن تختفي ولو بعد سنين. وظننت أن حالها لن يتغير وأنها ستعيش هكذا حية ميتة، غير أنها ماتت حقاً. ماتت مقتولة! انتفضت، بحثت كالمجذوب عما حدث. ثم كان أن علمت أن ثمة من غدر بها. أحد بائعي جنتها جلب رفاقاً فهزموها لحظة نشوة. مخدر يجري في عروقها واغتصاب يلم بجسدها. أشياء غريبة تحدث. ذبح لحظة جنون. تنكيل بالجثة ثم سرقة. تركوها جثة عارية مغتصبة مذبوحة، قالوا كانت تبتسم لما اكتشفوا جثتها. غضبت. غضبت جداً. ينكلون بجثة محبوبتي الأبدية! بحثت حتى طلعت عليّ أقمار وشموس لم أذق بين بعضها إلا ساعات نوم معدودة. 

أما اليوم والآن وصلت للغادر وعرفت مكانه، بائع المخدرات الذي اغتنى فجأة من أموالها. سننت أسلحتي. أنا الهلاك يمشي على قدمين. أنا موج الانتقام. أنا البسمة التي ارتسمت على شفتي فوزية آن موتها. أنا الشيء والقدر، الرسام على ضوء القمر، إني لمنتقم منتصر. 

النهاية. 

رابط مدونتي.. مدونة براء الشافعي هنا

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
46 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى