أدب الرعب والعام

سلسلة كاتب مختل (1) : عذاب أبدي

« الألم صديق القلوب، وحتى للأرواح قلوب يا عزيزتي، لربما قلوب الأرواح لا تنبض لتضخ دما لكنها تخفق محاولة التعلق بالحياة.»

نقطة البداية..

الحب غريب، لا يؤمن بالموت ولا ترهقه المسافات، لكنه حين يدخل للقلب يعيث فيه فسادا كالدودة التي تنخر التفاح الطازج. الحب داء لا دواء له، وهو دواء لكل داء.

لم تكن غيثة تؤمن بالحب، فهي مجرد فتاة قروية بسيطة، حلمها يوم تتساقط فيه الأمطار فوق أرضهم الجافة، ومستقبلها مرهون بيد عريس يختاره لها والدها، عريس تعينه على حرث أرضه بالقمح، وتنجب له صبيانا وبنات يعيشون معهما نفس الحياة الهادئة، بنفس الحلم ونفس المستقبل.

هكذا كانت حياة غيثة، وكادت تستمر على نفس الوتيرة المملة، المحببة لقلبها لولا القدر الذي قرر التدخل في حياتها وتلويث صفحتها البيضاء بلطخة حمراء واضحة؛ بالحب.

**

أخذت غيثة تصعد تلك العقبة العالية في الطريق المؤدي للقرية، تحثّ نفسها على الإسراع للخروج من هذه المنطقة الموحشة التي ترعب أقوى رجال قريتها، المقبرة!

هي الآن في طريق عودتها من زيارة لعمتها المريضة التي استغرقت منها النهار كله، وفي حين قررت أمها المبيت كان عليها هي العودة للمنزل كي تعد العشاء لأبيها وإخوتها وتهتم بشؤون المنزل، فهي الأخت الكبرى وهي سيدة المنزل في غياب والدتها.

لقاؤها مع صديقة قديمة بالصدفة أخرها عن العودة سريعا ولم تنتبه حتى مالت الشمس نحو المغيب.. فأسرعت تركض على الطريق الترابية ركضا، وكل ما تفكر به هو تلك المقبرة المخيفة التي عليها قطعها للوصول للمنزل.

خرجت أخيرا من غابة المقبرة لتقف لاهثة على الأرض الترابية، أرض واسعة صلبة تنتهي بجرف عال. كان بإمكانها من مكانها ذاك رؤية أضواء القرية التي تجاور قريتها. إن ركضت ستصل للمنزل في غضون ربع ساعة ولم يكن مشي الهوينى خيارا متاحا وسط هذه المقبرة الموحشة.

وقفت باعتدال رغم أنفاسها اللاهثة ونظرت برهبة للضريح الضخم الذي يرتفع عن الأرض بأوتاد خشبية، فيبدو للرائي كأنه معلق في الهواء. اتسعت عيناها وهي تتبين نعش الموتى الذي تركه الرجال قرب الباب، في العادة يدخلونه للغرفة الثانية في الضريح لكن لا بد أن جنازة كانت هنا من وقت قريب لذا ترك في مكانه. هي ليست مستعدة لمقابلة روح هائمة على وجهها قد مات جسدها منذ سويعات.

شدت على السلة الضخمة التي تمتلئ بالعنب الطازج، شدت عليها بيد شديدة القوة ثم ألقت نظرها أمامها محاولة تبين الطريق في الظلمة التي بدأت تسيطر على المكان. اتخذت وضعية الاستعداد وركضت غير مبالية بالقبور التي تظهر أمامها، خافقها يخفق بقوة وعرقها يتصبب تصببا، وكان آخر ما تريده أن تتعثر بجذور شجرة البلوط الضخمة لتقع على وجهها قرب قبر عمها المتوفى من خمس سنين.

الالتواء في قدمها سبب لها ألما لا يطاق، وسلّة العنب سقطت أرضا لتتبعثر العناقيد وتنتشر الحبات السوداء الصغيرة كالكرات.

زحفت باكية وهي تجمع حبات العنب الأسود، تبكي ألمها، تبكي خوفها، تبكي وحدتها..

«هل أنت بخير يا آنسة؟»

نظرت للظل الأسود الواقف قربها وصرخت بقوة ورعب.

زحفت مبتعدة وألصقت ظهرها بقبر عمها، تتمنى لو يخرج ذلك الرجل الطيب من قبره ليدافع عنها من هذا الشبح المجهول الهوية.

«أنا آسف، هل أخفتك؟ أرجوك لا تخافي مني، لن أؤذيك»

راقبته -بعين اعتادت الظلام- بينما يضع العناقيد الضخمة داخل سلتها ويوازن السلة على الأرض ثم يغلقها:

«قد تكون العناقيد قد اتسخت، عليك غسلها»

اقترب منها ببطء ولم تستطع تبين شيء سوى طوله الذي أشرف عليها.

«رأيتك تسقطين وأردت مساعدتك، هل تأذيت. أرجوك لا تخافي»

«ماذا تكون؟ شبح؟ روح؟ جن؟ هل أنت جني؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم»

ندت عنه ضحكة صغيرة وأمسك بكفها بيد باردة كالثلج:

«لربما أنا كذلك، لكني روح طيبة»

جذبها بقوة لتقف فصرخت متألمة بينما تقف على قدمها:

«هل تأذت قدمك؟ هناك بعض الدماء على ذراعك وجبينك. أين تسكنين؟»

سمحت لنفسها بالاتكاء عليه، مرحبة في داخلها بهذا الغريب الذي قطع فلم الرعب الذي كان يدور برأسها، مرحبة بالأمان الذي بعثه فيها.

إقرأ أيضا: بالرمادي

«أنت تسأل كثيرا بالنسبة لروح تعيش في مقبرة»

جذبها نحو الضريح ثم رفعها بخفة ليجلسها على مصطبته الخشبية وقال بمرح:

«إنك خفيفة جدا آنستي»

أحست به يقفز ورائها ثم فتح باب الضريح الذي أصدر صوت صرير وقف له شعر رأسها. نظرت له تحاول تبين شيء فيه غير طوله لكن الظلام لم يسعفها..

«تعالي، لندخل»

نظرت له بصدمة:

«ندخل إلى أين؟ الضريح؟ أنت مجنون! لن أدخل لأجلس أمام قبر مزين بالنقوش، وأراقب خفافيش معلقة في السقف»

أحست به يضع يده على وسطه وقال:

«نحتاج لمعالجة قدمك كي تعودي لمنزلك يا آنسة، يوجد شمع في الداخل سأشعله»

«أنا بخير هنا»

«لا تعاندي!»

كررت:

«أنا بخير هنا»

أحست به يختفي من خلفها ومضت برهة لم تسمع له بها حسا وكأنه لم يدخل للضريح، وكأن الضريح ابتلعه ولم تعد ترى شيئا سوى النعش الذي يقف قربها والظلام أمامها، وشعرت بالخوف يعتريها من جديد. نهضت مستندة على يدها وعرجت حتى وقفت أمام عتبة الباب:

«أيها الشاب! أين أنت؟»

لم يرد عليها سوى صدى اسمها، وخرج خفاش من الضريح فصرخت ووقعت أرضا لتلامس يدها النعش الخشبي فسحبته سريعا كم مسه تيار من الضوء، تساقطت دموعها وأجهشت بالبكاء..

«أيها الشاب، أيتها الروح العظيمة، أيا كنت، لا تتركني هنا وحدي»

أحست بشخص يظهر من خلف الباب وراقبت تلك الرأس التي تنظر لها مبتسمة بينما نور الشمعة موجه عليها:

«روح عظيمة! الخوف جاحد حقا!»

رفعت وجهها المبلل ناحيته، وراقبته يخرج باقي جسده من خلف الباب الضخمة الزرقاء. ساعدها لتجلس من جديد على المصطبة ووضع الفانوس الزجاجي بينهما بينما شعلة النار تتمايل داخله بهدوء.

جذب جرة فخارية مملوءة بالماء وصب بعضا منها في كوز فخاري وقربه منها قائلا:

«اشربي، سيجعلك الماء تهدئين قليلا»

كانت عيناها لا تزال مسمرة على وجهه القريب منها فدفع بالكوز نحو شفتيها المرتجفتين.

«مالأمر؟ هل هناك شيء غريب بوجهي!»

«عيناك»

«ما بهما؟»

«ليستا عينا شخص حي»

نظر لها مصعوقا فأسرعت تكمل:

«لا أقصد أنك ميت!»

ابتسم وهو يمرر يده المبللة على جرح جبينها بتمهل ليغسل الدماء عنها:

«إذا؟»

حدقت بخضرة عينيه الغامقة، خضرة تشبه العشب الندي. كانت عيناه جميلتان جدا، أجمل عينين قد رأتهما في حياتها، غير أن نظراته كانت خاوية تماما، كأنها أرض مهجورة، حديقة خضراء بدون ورود.

«عيناك تحمل ألما عميقا! هوة ابتلعت سعادتك. هل أنت سعيد؟»

ضحك بغتتة ساحبا يده عن وجهها وقال:

«بعد مقابلتي لفتاة غريبة الاطوار تمشي في المقابر وتقرأ عيون الأرواح، لا أخالني سأصبح سعيدا أكثر مما أنا عليه»

بلل يده ثم مررها على وجهها كله، وهمس ساخرا:

«إن كنت قد انتهيت من قراءة عيناي، والتغزل بهما فدعينا ننتقل للمهم. لا أخال أن منزلك خال من الرجال ولا شك أنهم سيهجمون على المقبرة واحدا تلو الآخر إن تأخرت على العودة أكثر»

ضغط على قدمها بقوة تزامنا مع نطقه لآخر كلمة فشدت على يديه تريد إبعاده عنها لكنها فوجئت بالألم يتلاشى من قدمها تلقائيا وحرّكتها متعجبة:

«ماذا فعلت؟»

«عظمك التوى، لذا أعدته لمكانه. لا تنظري لي هكذا، هذا شيء لا يخفى عن بال الأطفال»

عبست فابتسم ونهض واقفا معيدا الجرة لمكانها وقال

«لنذهب، سأرافقك حتى تقتربي من منزلك. بأي قرية تقطنين؟»

«ديار السيد»

«إنها أقرب واحدة، جيد جدا. لنذهب»

أمسك يدها يساعدها على النزول، فتعجبت من برودة يديه الشديدة لكنها لم تكن شجاعة بما يكفي لتستفسر عن السبب. قفزا عن الضريح واتجه نحو سلتها يحملها بينما ناولها الفانوس المضيء.

إقرأ أيضا: صحوة ضمير

«مهلا»

نظر لها متسائلا فأخذت السلة وفتحتها وبالاستعانة بنور الفانوس بحثت عن عنقود عنب لا يزال نظيفا.

«خذ»

نظر لها الشاب مبهوتا ثم ضحك:

«هل رأيتِ روحا تأكل عنبا من قبل؟»

نظرت له بعين ضيقة، لم تكن تصدق نكتته السخيفة تلك:

«لن تعرف ما لم تجرب، هي لن تسقط عبر جسدك على كل حال!»

ابتسم هازئا ثم تناول منها حبة طازجة، ودسها في فمه، راقبت تعابيره الباهتة وتنهد هو بعمق بينما يبتلع الحبة:

«طعمها لذيذ، لذيذ جدا»

وضعت بدورها بعض الحبات في فمها وطحنتها بأضراسها متمتعة بتلك الدغدغة العميقة التي سببتها الحلاوة الشديدة في حلقها.

«أرأيت، قلت لك»

حال اقترابهما من أضواء القرية، توقف فجأة وقال:

«لن أستطيع التقدم معك أكثر، خذي حذرك وأنت تمشين»

«لماذا؟»

أمسك حبة العنب الأخيرة التي كانت ملتصقة بالعنقود الضخم، وناولها السلة قائلا:

« لا أستطيع، خذي الفانوس معك. وداعا يا آنستي الجميلة»

أدار ظهره لها ومشى مبتعدا عنها حتى ابتلعته ظلمة الليل واختفى من أمام ناظريها، ولم تستطتع غيثة أن تركض وراءه رغم أنها أرادت ذلك بشدة، صرخت بيأس نحو الظلام:

«هل سأراك مجددا؟»

لكن لا مجيب، شدت على سلتها الثقيلة وتقدمت في الطريق مهتدية بنور الفانوس، وعميقا داخل قلبها ولدت نبضة جديدة.

**

نظر ضياء محزونا لحبة العنب التي بين يديه، كانت رأسه مستندة على النعش الخشبي، نفس النعش الذي احتضن جسده الميت قبل ساعات.

دفع بالحبة السوداء داخل فمه ومضغها ببطء، ومثل ما حدث سابقا لم يحس بأي مذاق، لم يحس بشيء إطلاقا.

احتضن ركبتيه إليه وشعر بغصة مريرة تخنقه، إنه ميت، مجرد روح بلا هدى. سيفقد حواسه، سيفقد مشاعره شيئا فشيئا ثم حين تنتهي الأربعون يوما التي وعد بها سيجبر على الدخول لذلك القبر البارد وملازمة جسده المتعفن، سيمنع من الخروج لعالم البشر من جديد. هذا العالم الذي عاش فيه خمسا وعشرين سنة من حياته.

إنه ممنوع من الخروج من حدود المقبرة، حيث تنتهي هذه الغابة الواسعة، تربط قدميه، لن يكون قادرا على زيارة بيته ورؤية عائلته كما يحلو له. وفي النهار يتلاشى عن هذا العالم فلن يقدر أحد على رؤيته. النور الشديد يبعثر خلاياه الشفافة وكأن روحه تأبى أن تظهر سوى في الظلام.

شعر بدموعه الباردة تسقط عبر خده، عليه أن يبكي، مادام قادرا حتى هذه اللحظة بالإحساس بكل هذه المشاعر، قريبا لن يحس بشيء على الإطلاق. قريبا سيُنسى كأنه لم يكن جزءا من هذا العالم.

ارتفعت شهقاته في هدوء الليل، وتحت ضوء النجوم كانت هناك روح تتمنى يوما جديدا لتعيشه، روح قتلت ظلما.

**

ظهيرة اليوم التالي، عادت غيثة للمقبرة وبيدها الفانوس الزجاجي. توقفت في منتصف الساحة الترابية الفارغة ونظرت يمينا وشمالا لعلها تلمح ذلك الشاب اللطيف الذي ساعدها، في الأخير هزت كتفيها محدثة نفسها:

«لعله في منزله مشغول بأعمال كثيرة»

قفزت بسهولة فوق الضريح وفتحت الباب متحاشية النظر للنعش الضخم عن يمينها. كان ضوء الشمس القوي قد تسلل للغرفة من خلال النوافذ. دخلت وهي تنظر للقبر الضخم المزين بملاءة حمراء مزخرفة؛ سيد الضريح.

لم تكن تشعر بالكثير من الخوف، رغم أن هيبة المكان لا تزال تسيطر عليها. وضعت الفانوس في إحدى طاقات الضريح ثم خرجت مغلقة الباب خلفها. دارت حول نفسها بعض الوقت، نظرت لجرة الماء الفخارية واتجهت نحوها حملتها بكلتا يديها ثم ضحكت ساخرة:

«لا بد أنه رجل قوي، استطاع حملها بيد واحدة»

تنهدت وهي ترتب الجرة الفخارية قرب أخواتها. كنست المكان قليلا قرب الباب ثم حين شعرت بالملل قفزت عن الضريح. وأقفلت عائدة للمنزل عبر نفس الطريق:

«أتمنى أن أراه مجددا»

لا تدري لما قدمت للبحث عنه، ولا لماذا اهتمت فجأة بغريب اعترف لها أنه روح تعيش في المقبرة!

**

لم تعرف غيثة قط أن ضياء كان يقف بجانبها طوال الوقت، يدور معها حول نفسها ويتبعها في كل خطوة.
كان هو أيضا يشعر بالملل الشديد، وبينما وجدت هي متعتها في تنظيف وترتيب المكان، وجد هو متعته بالدوران حولها.

تبعها حتى نهاية الغابة، حيث تركها البارحة وعندما أراد أن يخطو من جديد تجمدت قدماه، نظر بأسف لتلك السلاسل الحديدية الضخمة التي تكبل قدميه، سلاسل لا يقدر غيره على رؤيتها. راقب غيثة تبتعد عنه ثم نكس رأسه بحزن وعاد أدراجه نحو الضريح يجر سلاسله في قدميه.

كلاهما على نفس الطريق، كلاهما قريبان من بعض، لكن لا أحد قادر منهما على دخول عالم الثاني.

إقرأ أيضا: جاءتنا امرأة

**

بعد مرور خمسة أيام

كانت الساعة تشير للسابعة والنصف مساء، الظلام بدأ يشق طريقه مسيطرا على الأجواء وهدوء الليل أخذ يزحف بشكل مرعب.

وأعلى قمة الجبل، فوق الضريح تماما، كانت غيثة تصرخ بشكل هستيري غاضب، لقد تخلفت معزة عن القطيع هي وصغارها ومضى عليها وقت وهي تبحث حتى وقف شعرها من شدة الغضب، كانت أمها تصر على ألا يبقى أي حيوان لهم خارج المنزل، ففي بعض الأحيان تنزل الثعالب من أعلى الجبل لأكل صغار الدجاج، وبعض المرات قد ينزل ذئب، لذا بقاء هذه المعزة خارج المنزل يعني موتا حتميا.

«أنا أكره هذا، موتي من يهتم لأمرك؟ أنا عائدة للمنزل»

نزلت عن الجبل مسرعة الخطوات، عيناها الصافيتان تشتعلان غضبا والنمش حول خديها ازداد احمرارا.

انزلقت قدماها بسبب جريها، فاحتك جسدها مع الأرض الصلبة وانزلقت نحو الأسفل وهي تشتم كل الماعز الموجود في الدنيا.

نهضت بعد لحظات، نفضت التراب عن بيجامتها الزهرية بغضب وخلعت حذائها الجلدي تفرغه من التراب والحصى، لكنها في خضم غضبها رمت بها فطار حتى دخل في شجيرة بعيدة. نظرت لقدمها الحافية وللطريق الوعرة الممتلئة بالحجارة ثم جلست أرضا وأجهشت في البكاء.

لحظات حتى أحست بقدمها تسحب من تحتها فرفعت رأسها مرتعبة، وعلى ضوء المساء الباهت حدقت مشدوهة بتلك الرأس السوداء المنحنية عليها.

كانت جواربها متسخة جدا، وشعرت بالإحراج الشديد بينما يداه تدفع بالحذاء الجلدي داخل قدمها.

«ها هو حذائك الضائع يا أميرتي»

سحبت قدمها تحتها محمرة الوجه ونظرت له بعيون مبتلة، لم تنبس ببنت شفة بعدها فجلس قربها وقال:

«لماذا تبكين؟ وما الذي تفعلينه هنا في هذا الوقت؟»

« أليس عليك أن تسأل نفسك هذا السؤال؟»

ابتسم وقال بهدوء:

«أنا أعيش قريبا من هنا»

هزت رأسها:

«وأنا أيضا»

«أنا أتجول قليلا هنا، لكن ماذا تفعل فتاة مثلك في الغابة؟»

مسحت وجهها وقالت:

«أبحث عن معزتي»

«معزة؟»

هزت رأسها ودفنت وجهها في ركبتيها:

«أجل، معزة بنية لها جديان صغيران. لم تعد للمنزل فأرسلتني أمي للبحث عنها»

مد يده يبعد شعرها عن اذنها، لا شك أنها أسقطت مشبك شعرها، فهذا الشعر الأسود المنتفخ لن يروض سوى بعدة مشابك غليظة.

ربت على رأسها وقال:

«أنا أعرف غابة المقبرة جيدا، دعينا نبحث معها معا. ثم لا يليق بفتاة أن تبكي على ضياع معزة!»

«كنت غاضبة»

رفعت رأسها:

«هل سندخل المقبرة؟»

رمى بنظره نحو الناحية الأخرى من الجبل:

«بما أنك لم تجديها في الجهة الأخرى ستكون قد دخلت المقبرة، هيا انهضي ولنصلي أن نجدها سالمة مع صغيريها»

أمسك يدها وهو متعجب من نفسه، لا يدري لمَ يشعر بالراحة لملامستها رغم أنه لم يكن مهتما بالفتيات في حياته.

سحبها وراءه بحذر ثم توغل بها داخل غابة المقبرة.

كانت المقبرة تتفرع لغابتين، غابة فوق الضريح وغابة أسفله، وطوال الأيام الخمس الماضية لم يجد شيئا ليفعله سوى التجول من غابة لأخرى وترتيب شواهد القبور.

إقرأ أيضا: اعترافات أنثى – الجزء الأول

أحس بغيثة تشد على يده بقوة فجذبها لتقف بجانبه وقال مبتسما:

«لا تخافي»

«المكان مخيف جدا في الليل، كيف بإمكانك التجول ها هنا؟ ألا تخاف؟»

نظر لها بعيونه السوداء الصغيرة وقال:

«لقد نزع الخوف من قلبي»

كان يقصد المعنى حرفيا، لكنها ابتسمت له وتمتمت بانبهار:

«أنت شجاع»

بعد مدة قصيرة من النداء باسم المعزة تارة وتارة بتقليد صوتها لم يجد البحث شيئا، ثم ظهر أمامهما حائط الضريح الضخم. ووقفت غيثة متجمدة وهي ترى قبة من الأغصان الخضراء فوق بعضها البعض خلفه:

«ما هذا؟»

أدار ضياء رأسه ونظر إلى حيث أشارت، لمعت عيناه:

«إنه قبر»

بصعوبة كان قد حذف ياء التملك من الكلمة الأخيرة.

«لكنه كومة من الأغصان فقط!»

ابتسم بسخرية

«إنه قبر جديد يا آنستي، يقوم الرجال بتغطيته بالأغصان كي لا تستطيع الكلاب نهش الجسد ليلا»

«ومتى يبعدونها؟»

تنهد:

«بعد مرور الأربعين، يكون تراب القبر قد تماسك فيبعدون عنه الأغصان. لن تستطيع الكلاب عندئذ حفر التراب»

رفعت غيثة رأسها وقالت:

«فوقه شجرة توت!»

«أتريدين بعضا منه؟»

«لا! هل تريد مني تناول توت من شجرة دفنت عند جذورها جثة!»

قهقه بمرح:

«عيناك تقولان أنك تريدين فعل ذلك»

ترك يدها قبل أن تعانده من جديد وراقبته بعينين متسعتين بينما يقفز بلا مبالاة فوق كومة الأغصان ويمد يداه ليقطف الثمار الناضجة من الشجرة:

« ما الذي تفعله! انزل من فورك!»

«ما بك؟ ألا تريدين التوت؟»

ارتجف جسدها:

«أنت تقف فوق قبر! انزل، انزل، لا أريد شيئا»

تجاهلها واستمر في قطف التوت ثم قفز عن القبر وهو يتمتم بلا مبالاة:

«وكأنه سيحس بشيء! إنه جسد متعفن على كل حال»

مرت رعشة بكل جسدها:

«لا تتحدث وكأن القبر قبرك!»

لمعت عيناه من جديد وخرجت الكلمات منه بيسر وسهولة:

«إنه كذلك!»

سقط فك غيثة فلقمها ضياء حبة توت وقال ضاحكا

«أنا أمزح»

اغتصب ضحكة وأردف:

«ليس هنالك من قبر ها هنا يا آنستي، إنها مجرد أغصان تم قطعها لتشذيب الغابة»

نظرت له غيثة بعيون حادة فأمسك كتفيها وقال:

«لقد تأخرت جدا، دعينا نجد حيوانك الأليف ونعدك للمنزل»

بعد بحث قصير وجدا المعزاة نائمة على الأرض بجوار شجيرة صغيرة، بينما صغيرغها ينامان قربها.

«حمدا لله»

احتضنت غيثة أحد الصغيرين بين يديها، ودار ضياء حول الشجيرة يحاول تخليص حبل المعزة العالق، لكن ذلك كان صعبا لذا خلص الحبل من قدمي المعزاة وقال:

«لا أستطيع سحبه. أظنها تعرفك لذا ستتبعك للمنزل. دعينا نعود»

نظرت له غيثة ممتنة:

«شكرا لك»

ابتسم لها برقة وقال:

« من واجبي إنقاذ الأميرات»

هكذا دفعا المعزاة لتقف، وتركاها تمشي في الأمام بينما كلاهما يحملان الصغيرين بين يديهما.

«كنت قلقة جدا، أنا أحب هذين الصغيرين، وقد أطلقت عليهما اسما»

مرر ضياء يده على فرو الجدي الناعم وقال بفكاهة

«تسمين الحيوانات! ماذا أسميتهما؟»

أشارت على الذي في يدها وقالت:

«هذا نعمان، وذاك أويس»

قهقه ضياء ضاحكا:

«يا إلهي، هل تشاهدين الكثير من المسلسلات؟»

عبست وهي تشيح عنه ثم بعد لحظة قالت:

«أنا لم أعرف اسمك! رغم أنك ساعدتني مرتين بالفعل»

نظر لها بعيون ناعسة وهمس:

«ضياء، اسمي ضياء»

تمتمت بالاسم داخلها متذوقة جماله ثم ابتسمت بحماس:

«وأنا غيثة»

كانا قد وصلا للحدود التي يسمح له بالبقاء داخلها، تنهد مستسلما وأنزل الجدي الصغير على قدميه فركض ليختبئ بأمه، نظرت له غيثة متعجبة:

«هل ستتوقف هنا؟ مثل المرة الماضية»

من قال أنه يريد التوقف! إنه مجبر على ذلك.

«أنا آسف، لا يمكنني التقدم أكثر من هذا. كوني حذرة أثناء مشيك. إلى اللقاء»

نظرت له بعيون متسائلة:

«لا تستطيع، أم لا تريد؟»

«لا أستطيع»

نظرت لقدميه فجأة، فخشي أنها استطاعت رؤية السلاسل التي تكبله لذا ضمهما لبعض بشدة، استدار:

«إلى اللقاء يا غيث»

«إلى اللقاء»

إقرأ أيضا: ليلة لا تُنسى

**

طوال الأيام التالية تطوعت غيثة بصدر رحب لترعى الأغنام مساء، كان هذا يدفعها للتأخر حتى سقوط الظلام، وكانت دوما تجد ضياء أمامها، أحيانا يرافقها للبحث عن غنمة ضائعة، وأحيانا يجلسان معا ليتحاوران، تلك المقبرة المخيفة بأشجارها المتشابكة والباسقة أصبحت المكان المفضل لغيثة.

لقد استوعبت غيثة تماما أنها لا يمكنها مقابلته سوى بعد غروب الشمس، حين يظهر الشفق وتختفي الشمس من السماء.

سألته يوما بينما يقفان على الحدود:

«لماذا لا أستطيع رؤيتك نهارا؟ هل تكون مشغولا جدا؟ ولمَ لا أستطيع أن ألتقيك خارج المقبرة؟»

رفع يده وربت على شعرها المنتفخ:

«أنت تسألين كثيرا يا عزيزتي»

صمت قليلا ثم قال عابثا:

«إن ما يجمعنا هو الليل، والليل صديق المحبين»

نظرت لعمق عيناه وقالت:

«هل ما تزال مصرا على تلك النكتة الغبية! أنت لست جنيا لتعيش في المقبرة. أستطيع لمسك! أستطيع الشعور بك وأستطيع رؤيتك»

أخرسها ذلك اليوم بقبلة على يدها ثم استدار عائدا نحو المقبرة في صمت تام، تاركا سؤالها معلقا في الهواء، وتاركا قلبها يتخبط في جنون من أثر تلك لثمة شفتيه.

**

استند ضياء على شجرة ضخمة وأخذ يحدق في السماء، رفع ذراعه وأخذ ينظر إليها. لقد بدأ يفقد أحاسيسه، حزنه، غضبه، كل شيء اختفى من حياته. لقد أصبح مجرد روح بلا أحاسيس.

سمع نداء باسمه فدفع جسده بعيدا عن الشجرة، هذا الصوت يثير في داخله شيئا ما، لكنه كنقطة في بحر عميق لا يكاد يحس بها حتى تختفي. إنه فقط يعرف أن هذا الصوت ثمين جدا، وإن لم يحس به بشكل واضح لكنه ثمين جدا، على الأقل ما يزال قادرا على تذكر لهفته القديمة عند سماع هذا الصوت، وما يزال ابتسامته السخيفة كل نهار وهو يفكر في وجه غيثة المنمش!

مشى مبتعدا عن قبره، ترن في أذنيه رنة السلاسل؛ عشرة أيام، عشرة أيام هي ما تبقى له ويتخلص من كل هذا الملل.

خرج من الغابة نحو أرضية الجبل المنحدرة، رأى غيثة تحرك رأسها في كل الاتجاهات بينما تستمر في النداء باسمه:

«أنا هنا»

استدارت راكضة ووقفت بجواره متقطعة الأنفاس، اغتصب ابتسامة ينظر لعينيها الواسعتين، رفعت يدها بتردد وهي تحدق في وجهه وقالت فجأة:

«ما بك؟ منذ أيام وأنت تبدو لي شاردا على الدوام. هذه العيون إنها تزداد سوادا يا ضياء»

كانت تنظر مقطوعة الأنفاس للون عينيه الذي انمحت منه الخضرة تماما، كأن حديقته المهجورة قد أضرمت فيها النيران عن آخرها.

لامس خده على راحة يدها وركز محاولا استشعار تلك النقطة الصغيرة في قلبه، لكنها اختفت مجددا، لا جدوى.

«هل أخيفك؟»

« أنا لا أخاف منك، أنا أخاف عليك»

عيناه السوداء لمعت وقال:

«أنت مبكرة اليوم، أين قطيعك؟»

«أخذته أمي، لذا تعللت بجمع الأخشاب وأتيت»

أشارت إلى حبل طويل رصت عليه أغصانا يابسة جمعتها من أشجار الغابة:

«يبدو أنك لم تعودي تخافين من المقبرة»

مررت إصبعها على خده البارد وقالت على استحياء

«أنا أعرف أني سأجدك داخلها، لن أخاف مكانا أنت فيه»

أدار رأسه بملل، أراد الجلوس على عتبة الضريح وتأمل السماء، لكن قدميه تقودانه إليها كل ما سمع صوتها. طوال شهر من اللقاءات المتكررة أصبح واعيا لتغير نظرات غيثة نحوه، تخبره دوما أن عيناه منطفئتان وذابتلان، أما عيناها فتزادان اشتعالا.

«أين كنت البارحة؟»

شخر ساخرا:

«مربوطا بالسلاسل»

نظرت له بعيون متسعة، تحاول تفسير معنى كلماته، لكن عقلها لم يسعفها لقراءة ما خلف السطور.

حرك ضياء قدميه ولفهما حول بعض في حركة رشيقة تتعجب لها غيثة دوما، كان يربط قدميه ببعض وكأنه مكفن، ويقف بانتصاب دون أن يهتز أو يفقد توازنه، لن تنكر أن رؤيته مضموم اليدين والقدمين بذلك الشكل وبلباسه الأسود الذي لا يتغير يشعرها بالرعب.

مدت يدا مرتجفة وفكت ذراعيه عن بعضهما فنظر لها بتساؤل:

«هذا الشكل يخيفني يا ضياء»

رفع يده وربت على رأسها، نظر للسماء الباهتة ثم جذبها ونزل بها قائلا:

«هل سبق لك وزرت جبل الصلصال ليلا؟»

«جبل الصرصار؟ لا لم أفعل»

شعر أن الموقف مضحك جدا، لكن الضحك لم يرواده لذا اغتصب ضحكة قصيرة وقال:

«صرصار؟ إنه يدعى بجبل الصلصال يا غيث، الصلصال!»

«مهما يكن، كما أن اسمي غيثة»

«سمي بجبل الصلصال لأن حجارته حمراء اللون يا غيث، كما أن ترابه إذا ما ابتل أصبح عجينة كالصلصال. لذا حري لك أن تنطقي الاسم صحيحا»

لم يعجبها تجاهله لنطق اسمها سليما، لكنها حاولت ترك صوتها محايدا بينما تسترسل:

«زرت المكان عدة مرات، المنظر فيه جميل جدا، هو يطل على الوادي وعلى قرية الحداد، تلك القرية التي تسكن فيها عمتي ونصف عائلة أبي. بالمناسبة من أي قرية أنت؟»

إقرأ أيضا: تحت ظلال النسيان

رفع ضياء ذراعيه نحو رأسه محدقا بالنجوم القليلة التي بدأت تزين السماء:

«قرية أولاد علي، تلك التي فوق الجبل»

همهمت غيثة، ثم صرخت فجأة:

«أولاد علي! هل سمعت بذلك الشجار الضخم الذي حصل على الأراضي قبل أيام، سمعت أن مجزرة حصلت. ذهبت أمي قبل أيام لزيارتهم وقالت لي أن ابنا لهم قد توفي»

توقف ضياء عن المشي، أنزل يديه ببطء عن رأسه ونظر نحو وجه غيثة، اسودت عيناه حتى خيل لغيثة أن البياض قد اختفى منهما وأن النيران اللاتي أحرقتهما قد اشتعلت من جديد، جلجلت ضحكته الصاخبة في هدوء الليل وقال بجنون:

«أعلم! ألم تخبرك أمك أن ابنهم ذاك قد ذبح! »

أشار نحو عنقه وأردف مهسهسا:

«ذبح بدون شفقة حتى تمزقت رقبته وتأرجح رأسه على كتفيه. هل أخبرتك أمك أنه ذبح لأن والده رفض منح الأرض لإخوانه، تلك الأرض التي ماتت أخته مخلفة إياها خلفها، هل أخبرتك أمك أنه ذبح بسبب تلك الأرض الجرداء التي لم تزرع منذ سنتين!»

أمسك كتفيها بشدة و قال لاهثا بينما تفجر حقد غريب في كلماته:

«هل أخبرتك أمك أنه ذبح بينما كان يسقي تلك الأرض التافهة ليلا استعدادا لحرثها! هل أخبروك أن جسده ضرب وأشبع ضربا وهو يحتضر! ضربوه بينما دمائه تغرق الأرض، بينما يشخر مطالبا بخياطة حنجرته المقطوعة! ضربوه لأن ذبحه لم يكن كافيا ليشفي غليلهم، هل أخب..»

صرخت غيثة:

«ضياء! يكفي، يكفي أرجوك»

تفجرت الدموع من عينيها، وأخذت ترتجف فترك كتفيها وضمها لصدره:

«أعلم، أعلم أنهم لم يخبروك شيئا..هش، لا تبكي، لا تبكي.»

مرر يده على ظهرها صعودا ونزولا، لا يدري أيخفف عنها أم يخفف عن نفسه. امتص حضنها غضبه الفجائي، وتبخر حقده.

أمسك يدها وقال بلطف :

«هل أخبرك قصة خرافية؟»

مسحت دموع عينيها:

«هل هي مخيفة؟»

هز رأسه نافيا:

«لا، بل جميلة جدا»

قطعا أرض الضريح مرورا بالقبور التي تحيطه ثم اتخذا طريقا مستقيما، أمسك يدها بشدة يعينها على قطع الطريق الضيقة واسترسل في حكايته:

«سمعت هذه القصة من أمي وأنا صغير، كانت تقول لي دوما أن روح المظلوم لا تختفي من هذا العالم بسهولة، فهي تبقى عالقة فيه أربعين يوما حتى يتطهر قلبها من الحقد الذي فيه وتدخل لقبرها بسلام»

جذبها عبر منحدر صغير وأردف:

«في اليوم الأربعين، حين يزيل رجال العائلة الأغصان من فوق القبر تدخل الروح إليه لتمكث قرب جسدها وتنام في سبات طويل»

ابتسم بينما يساعدها لتسلق صخرة عالية حمراء اللون

«خلال ذلك الوقت، تبقى الروح في العالم، يمكن لها رؤية كل من يأتي لزيارتها والتكلم معهم في أحلامهم. لكنها تكبل بسلسلة طويلة تمنعها من مغادرة حدود الغابة كي لا تصبح روحا شريرة وتقتل قاتلها»

رفع سبابته في وجهها قائلا؛

«لكن! يمنع على هذه الروح التدخل في حياة البشر، وإلا فإنها ستلقى عقابا شديدا»

نظرت له غيثة بعينين مبتلتين

«أليس هذا قاسيا! تموت ظلما، وتكبل ثم تمنع من التحدث مع الناس!»

وضع يده خلف ظهرها يسندها بينما ينظران نحو أضواء قرية الحداد المتشعلة، وصل لهما هدير الوادي الضخم وزئيره المخيف:

« عالم البشر وعالم الأرواح الذي تبقى فيه الروح مختلفان يا عزيزتي. الروح ستدخل قبرها وتنسى كل شيء، بينما الحي سيتذكر للأبد.»

تنهد؛ لقد خرق هو هذا القانون من أول ليلة له، كان خائفا في البداية لكن لم تصله أي تحذيرات لذا ظن العقاب وما إلى ذلك سخافة. كما أن مرافقة غيثة كانت الشيء الوحيد الذي يبهجه في هذه الأيام الطويلة المملة. هو لم يؤذيها على أي حال، وهي لا تزال طفلة صغيرة ستنساه بكل تأكيد. أحيانا حين تستيقظ أحاسيسه مجددا يشعر بألم شديد كلما فكر في الاختفاء والابتعاد عنها، إنه يريد البقاء معها حتى آخر ثانية له في هذا العالم البائس.

«المنظر من هنا جميل جدا»

«صحيح، رؤيته هكذا كل يوم تبهج قلبي وتنسيني كل ألم عانيته»

سخرت وهي تساير نكتته:

«وهل تتألم الأرواح»

ابتسم بهدوء

« الألم صديق القلوب، وحتى للأرواح قلوب يا عزيزتي. لربما قلوب الأرواح لا تنبض لتضخ دما لكنها تخفق محاولة التعلق بالحياة.»

انخفضت غيثة وجلست مقرفصة على الصخرة فحذا حذوها، نظرت له بعد برهة وابتسمت باتساع:

«أتذكر يوم التقيتك، كنت خائفة جدا وكانت الهواجس تلعب بي، ثم أتيت أنت لتضيء لي ليلتي وتمسح عن قلبي كل الخوف»

صمتت وأردفت على استحياء:

«اسمك ضياء، وأشعر أنك حقا ضوء أنار لي حياتي»

أدار رأسه نحوها مبتسما:

«إذا أنت الغيث الذي جاء كي ينبت زهور قلبي من جديد»

ارتفعت الحرارة لوجنتيها فأطرقت خجلة ولم تنبس ببنت شفة.

إقرأ أيضا: لغة الأرواح

هبت نسمة قوية حركت شعريهما، ومدت غيثة يدها تسحب الشال الخفيف الذي يغطي شعرها، نظرت بطرف عينيها لشعر ضياء الناعم، سحبت خصلة من شعرها وأخذت تتأمله متأسفة، ليتها تملك شعرا ناعما كضياء، رأسها يبدو كفرو خروف بهذا الشعر اللولبي المنتفخ.

وقف ضياء على حين غرة، نظر حوله ثم استدار بجسد كليا نحو الضريح وأصغى السمع.

«ما الأمر؟»

عقد حاجبيه بحدة ثم مد يدا وجذبها بقوة لتقف:

«من الأفضل أن نعود، تأخر الوقت»

«ما الأمر؟»

أبعد عيناه عن الغابة وقال:

«ليس لدي وقت للتفسير، يجب أن نعود الآ…»

اتسعت عينا غيثة حين انزلق ضياء عن الصخرة وبقي متمسكا فقط بيده اليمنى بينما جسده معلق في الهواء، تأرجح عدة مرات محاولا الصعود من جديد لكن ذلك كان صعبا.

اقتربت منه غيثة في قلق وانحنت في نية واضحة لسحبه لكنه صرخ بها:

«ابتعدي، لا تقتربي يا غيث، إياك»

صمت للحظات، نظر لقدمه ضاغطا على شفتيه بقوة ثم صاح بها مرة أخرى:

«عودي للمنزل، عودي يا غيثة. الآن»

نظرت له متوترة، ترتجف بردا وقلقا:

«أعود وأتركك هكذا؟ لا يمكن…»

رفع عيناه السوداء إليها وهسهس بحنق بالغ، وتعجبت غيثة من كل ذلك الخوف والغضب الممتزج بعينيه، كان مرعوبا لكن غضبه منها فاق خوفه:

«غيثة! اقفزي عن الصخرة. فورا!»

تحت ضغط نظراته القاسية، تقدمت غيثة من طرف الصخرة لتنزل عنها لكنها تجمدت في مكانها حين سقط جسد ضياء أرضا، ولم يكن هذا ما أرعبها بل جسده الذي سحب سحبا فوق الصخور الضخمة ثم مرورا بالطريق نحو الضريح، سحب بسرعة رهيبة حتى إنها لم تستطع تبين كلماته المحذرة لها.

جمدها الخوف بعد تلاشي صوت ضياء، لم تعرف هل عليها أن تتقدم راكضة خلفه أم تبقى في مكانها متجنبة الشر الذي حذرها منه.

عصفت بها رياح قوية باردة كالزمهرير، فضمت ذراعيها لجسدها ترتجف خوفا وبردا.

البدر المكتمل سطع فوقها بضوء قوي كضوء الفجر، وتبينت غيثة إثره أشجار الغابة التي أخذت تتمايل جراء الرياح الباردة، الضياء الأزرق أضفى للمكان بعدا خاصا، وصمت المقبرة المخيف إلا من الصراصير أرسل قشعريرة على طول جسدها المتيبس.

تمتمت بصوت مختنق:

«ضياء، ضياء، أين أنت؟ أرجوك لا تمزح معي هكذا، تعرف جيدا كم أخاف»

هذه ليست بمزحة؛ هي أكثر من يعلم ذلك، لكن الخوف جمدها فلم تعد تدري ما تفعل. نظرت نحو الطريق الخاوي، ومرت بعقلها صورة كاملة وشاملة للطريق الواسع الذي ينتظرها، ثم الضريح والقبور التي تحيط به.

صوت نباح كلاب قوي ارتفع في مكان ما من غابة المقبرة السفلى، ثم سمعت صوت ركض قوي وحشائش تكسر قبل أن يخرج كلبان ويقفا تحت الصخرة التي تقف عليها، نبحا عليها بشكل هيستري دفع بها للبكاء، هي خائفة جدا وليست بحاجة للمزيد من الأكشن.

نزلت عن الصخرة بحذر ثم وقفت على الأرض الترابية الحمراء تنظر حولها بتوجس، شدت شالها الخفيف على رأسها وركضت وعيناها مثبتتان بالأرض وقاعدة واحدة تدور في رأسها؛ اركضي، مهما سمعت، اركضي مهما رأيتِ، اركضي ولا تتوقفي.

الطريق الذي قطعته مع ضياء في دقائق تحول إلى آلاف الكيلومترات، والضريح الذي تخطت خوفها منه أصبح مركز رعب حقيقي، منزل يطفو، منزل تحفه القبور، منزل ينيره البدر الأزرق؛ ذاك هو الرعب بعينه.

الدموع في عينيها، والخفقات تصم أذنيها، و لهاثها يكاد يمزق رئتيها، ركضت غيثة وركضت حتى وصلت لأول منزل من منازل القرية وهناك تركت نفسها ترتخي بين أول يدين التقطتها.

**

«إذا أنت الغيث الذي جاء كي ينبت زهور قلبي»

ردد ضياء الجملة داخله بشيء من السخرية، واعيا تماما لاحمرار خدي غيثة وارتباكها قربه. كيف يخبر هذه البشرية الصغيرة أنه يهتف بالكلمات دون أدنى إحساس يخالج قلبه، حتى ذلك الاحساس بالراحة قربها تبخر، ولم يعد يعتبرها الآن سوى وسيلة لتمضية أيامه السخيفة فوق هذه الأرض. فكرة النوم للأبد داخل قبر مغلق كانت مغرية جدا وتمنى أن تنقضي الأيام بسرعة ليغفوا للأبد. أن تعيش بدون أحاسيس ليس عيشا على الإطلاق.

إقرأ أيضا: الظلمات الباهرة

« العقاب آت، آت، آت»

نهض مشدوها، يبحث عن هذا الصوت الغليظ الذي دوى في أذنه، غيثة كانت ساكنة جدا ولم يبد أنها سمعت شيئا. المشاعر التي اختفت من حياته عادت لتتفجر بقوة داخله، أخذ على حين غرة بكل تلك الأمواج التي ضربت جسده. نظر نحو غيثة وشعر بالخطر يتهددها، تذكر لتوه كم هي غالية، كم هي ثمينة عليه. جذبها في سرعة يحثها على العودة للمنزل لكنه لم يكد ينهي كلماته حتى شعر بقدميه تسحبانه ليقع من فوق الصخرة، الرعب، جمد جسده بينما يحاول تحليل الوضع؛ سلاسله تخرج من قبره ولا أحد غيره قادر على رؤيتها، هذا الذي جذبه لتوه نفس الشيء الذي كبله قبل يومين.

نظر نحو غيثة صارخا بها عدة مرات كي تعود، حاول بكل قوته أن يصعد على الصخرة كي يحملها ويركض بها، لكن لم يملك الوقت لفعل ذلك. سُحبت قدماه بقوة فوقع أرضا واستمر ذلك الشيء يسحله سحلا على الأرض حتى ارتطم جسده بجذع شجرة التوت التي تطل على قبره. ارتفعت السلاسل الخارجة من قبره كافاع سامة وهوت على جسده فكبلته من أخمص قدميه حتى عنقه. السلاسل كانت حارة جدا، بل كأنها جمرات مشتعلة، أخذت تحرق جسده الشفاف وتشويه، تفجر الألم داخله وصرخ عدة مرات، صرخ وصرخ مستغيثا دون مغيث.

سمع صوت خطوات راكضة تقترب فارتفعت سلسلة ودخلت في فمه مخرسة صرخاته، رأى بطرف عينيه جسد غيثة الصغير وهو يركض قربه عينيه. أراد أن يستغيث بها لكن لم تخرج منه سوى همهمات لا تكاد تسمع.

رفع رأسه للسماء محدقا بالقمر الأزرق وسقطت دمعة باردة من عينه. حين ابتعدت غيثة خارج حدود الغابة خرجت السلسلة من فمه فشهق بقوة.

ارتخت باقي السلاسل عن جسده تباعا وسحبت حتى اختفت داخل تراب القبر، تهاوى فوق كومة الأغصان اليابسة، فخرجت أصفاد من بينيها كبلت يديه وأصبح مرميا فوق قبره، مكبل اليدين والقدمين.

لقد تم تقييده لمرتين طوال الأيام الماضية، لكنه ظن ذلك مجرد شكليات تافهة لأنه روح تهيم على وجهها في المقبرة، تخدش تارة القبور وتارة ترتب الشواهد. لم يعلم قط أن ذينك كان تحذيرين كي يبتعد عن غيثة.
فات الأوان لكي يكفر عن ذنبه؛ مات مظلوما وسيعذب في موته لأنه أحب!

هكذا قضى ضياء العشرة الأيام التالية، مقيدا فوق قبره ينتظر يومه الأخير، ينتظر عقابه كي ينزل به لخرقه قانون الضريح. بينما غيثة سقطت محمومة في فراشها من هول ما رأت.

**

ظهيرة اليوم العاشر.

فتح ضياء عينيه على صوت خطوات تقترب من قبره، رفعته السلاسل وقيدته بجذع الشجرة، فابتسم ساخرا لهذا الكرم المبالغ فيه.

إقرأ أيضا: القمر الدموي

تقدم رجلان من قبره يمشيان الهوينى، نظر لهما متسع العينين بينما يقتربان من قبره. كان والده وأخوه الأكبر. أخوه الذي ذبلت عيناه وأبوه بجسده الضخم لم يتغير وكأن موت أصغر ابنائه مقتولا بسبب تمسكه بأرض لعينة لم يحرك فيه شعرة!

قضم أخوه شفتيه بقوة وهو ينظر للقبر، كان ضياء معتادا على زيارة أخيه الأكبر كل خميس طوال الأربعين يوما الماضية، بينما زارت والدته وأخته قبره لمرتين فقط. أما والده فلم يره أبدا. ولول العرف الذي ينص على إزالة الأغصان عن قبر الإبن من طرف والده لما كان رآه قط؛ هل هو سعيد لموته مقتولا؟!

بدأ يزيلان الأغصان عن القبر شيئا فشيئا ثم أضرما فيها النار. فتح أبوه قنينة الماء ورش بها على تراب القبر اليابس ثم جلس قربه يقرأ بعض القرآن قبل أن ينهض مغادرا.

«فؤاد، ألن تأتي؟»

«سأبقى قليلا ثم أعود للمنزل»

نظر له والده بصرامة:

«لا تتأخر، عليك مساعدتي لاستكمال حرث الأرض اليوم»

طار عقل فؤاد:

«أي أرض لعينة تلك! مات أخي بسببها ولا تزال مصرا على حرثها! أتمنى أن يرسل الله عليها نارا تحرقها عن بكرة أبيها…»

هدر فيه والده بصوت عال:

«هل تشتم والدك يا قليل التربية؟»

نكس فؤاد رأسه فأردف والده بصوت لا جدال فيه

«نصف ساعة وأجدك عند الباب تنتظرني»

«حاضر»

راقب فؤاد جسد والده يبتعد ثم أسند جبهته على تراب القبر المبلول وانخرط في نشيج حار لا يليق برجل قوي العضلات مثله.

انخفضت السلاسل عن يدي ضياء فمد يده واحتضن رأس أخيه بصمت.

«لا تبكي يا فؤاد، قد أكون ميتا في أعينهم لكني حاضر في قلبك دوما، لا تبكي يا أخي»

سحب فؤاد نفسا عميقا وصرخ بجملته المعتادة:

«يا ليتني مت مكانك، ضياء. يا ليتني مت مكانك»
رفع رأسه فجلس ضياء قربه يتمنى لو أن الليل يحل كي يستطيع أخوه لرؤيته للمرة الأخيرة، لكنها مجرد أمنية، والأماني لا تتحقق.

«أنا أكره هذه العائلة. ضياء لقد قررت السفر لطنجة، لن أبقى ثانية واحدة لأعيش مع عائلة قتلتك، وأب سامح في دمك. وافق خالي سليمان على أخذي معه وأخبرني أنه سيتكفل بإقناع أبي، حتى إن لم يقتنع فإني لن أبقى سأهرب لأي مكان في هذا العالم»

سحب نفسا عميقا ثم أعاد وجهه فوق التراب:

« قد أكون أنانيا جدا يا أخي، أعلم جيدا أني الأخ الأكبر وأن علي حماية باقي إخوتي من بطش هذه العائلة، سأترك أمي وأخواتي جميعهم لأهرب. سأتركك ولن أزورك مجددا. لكني لن أتحمل، أرجوك سامحني. لكني لا أستطيع، لن أستطيع إطلاقا العيش ها هنا بدونك»

سحب نفسا عميقا ثم لم يقدر على تمالك نفسه فانفجر باكيا بينما الكلمات تتشتت منه:

«ظننتني قويا، قويا بما فيه الكفاية لأستمر من بعدك. لكني ضعيف جدا، أنا لا شيء بدونك يا ضياء، مجرد قطعة بالية مرمية على الطريق، أنا بدونك مجرد جرذ صغير. تافه، لم أكن يوما القوي بيننا، لم أكن الأخ الجبار الأكبر، كنت دوما جرذا يختبئ خلف شجاعتك وبسالتك. لكن أنت ذهبت والغطاء الذي كنت أتغطى به سقط. ضياء…ضياء..أخي أخي أخي»

إقرأ أيضا: الأيام العشرة (قصة أعمى)

رفع رأسه بعد ما هدأ نشيجه، حفر بأظافره داخل القبر، ثم أخرج كيس بذور من جيبه ورمى بها داخل الحفرة ثم أعاد ردمها:

«أعدك أني سأعود يوما لآخذهم معي، وسأعود كي أزورك. أنا لن أنساك قط، إلى اللقاء الآن. أرجوك كن بخير أينما أنت»

نهض واقفا على قدمه ونظر للقبر نظرة أخيرة ثم ولى ابتعد مسرعا وكأنه يخشى العودة.

**

مسح ضياء بيده على الحفرة المليئة بالبذور يسقيها بدموعه؛ إن عاد فؤاد من جديد سيكون هو غارقا في سبات عميق ولن يسمعه بعد الآن، أو لربما يكون معلقا بسلاسله في مكان بعيد يعاقب لأنه كان شجاعا حد التهور وهو حي وكذا ميت. تمرد على أبيه في حياته، تتمرد على قوانين المقبرة وهو ميت.

كان حيا فدافع ببسالة عن أخواته وإخوانه، تقبل كل شيء بصدر رحب وأخرج مخالبه دوما في وجه أبيه ليلقى حتفه بسبب ذلك. أما الآن، وحتى بعد موته فلازال طبعه متمردا، وها هو ينتظر عقابا آخر.

كل شيء في هذا العالم كان ضده، عاش مع عائلة شاغلها الأوحد جمع القطع الأرضية، ومع أب يعتبر ابنائه آلات للزرع، وبناته آلات للمصاهرة وامرأته آلة للضرب.

عاش في كيد شديد لا يقوّي عزيمته سوى أخوه فؤاد ونظرات إخواته البنات وأمه. ليس هنالك من نعمة في حياته قد تعوض فؤاد له. والآن هناك غيثة أيضا، غيثة التي لم يتوقف فؤاده الميت عن النطق باسمها طوال الأيام المنصرمة.

تنهد زافرا أنفاسه وبقي طوال اليوم مرميا على قبره لا يريد التحرك، يربت على حفرة البذور وينتظر الليل ليحمل له عقابه. ولم يفكر للحظة السؤال الأهم؛ لماذا هو قادر على الإحساس؟

**

شبح يركض على الطريق، شعر متلولب وثياب منزلية. بأقدام حافية وشعر عار ركضت غيثة على طول الطريق حتى وصلت للمقبرة؛ الكابوس نفسه يراودها منذ أغمي عليها عند باب القرية. لكن داخل هذا الكابوس كانت هناك حقيقة واحدة؛ ضياء ميت، ضياء سيختفي هذه الليلة ولن تراه بعدها ابدا.

متمسكة بأمل رؤيته للمرة الأخيرة ركضت غيثة وركضت. وصلت للضريح ونادته عدة مرات بصوتها المبحوح الضعيف.

دارت حول نفسها في حيرة واضحة حين لم يصلها أي جواب منه، ثم على ضوء المغيب الباهت ركضت لتقف خلف الضريح وهناك رأته.

مكبل اليدين والقدمين ومعلقا بشجرة التوت. كانت عيناه مغمضتان لكنها حين اقتربت منه فتحهما.

«ما الذي تفعلينه هنا؟»

صوته لم يحمل شوقا، لم يحمل حنينا يل خوفا ولوما شديدا، اقتربت منه متجنبة الدوس على القبر:

«جئت لأراك…»

صمتت للحظة ونظرت للشاهد المثبت على طرف القبر وقرأت الاسم:

«ضياء عبد القادر؛ 1998/ 2023»

ضغطت على شفتيها بقوة ورفعت عينيها إليه:

«إذا هذا صحيح، أنت ميت!»

ابتسم متهكما يكافح رغبته في إحناء رأسه إليها:

«ألم أخبرك من أول لقاء لنا أني روح!»

سقطت دموعها على وجنتيها وتقدمت منه تحضن جذعه بقوة:

«أرجوك قل هذه مزحة، أرجوك لا تذهب»

ارتفعت شهقاتها بقوة وهي تكرر:

«هذه مزحة، هذه مزحة»

رفع ضياء نظره نحو السماء الملبدة بالغيوم وترك لها الحرية الكاملة لتبكي وتصرخ، لتنكر ثم تصدق، لا يمكنه مواساتها بيد مقيدة على أية حال.

بعد مدة هدأ شهيقها فسألته ببطء:

«متى ستختفي؟»

ابتسم بهدوء بينما ينظر للأفق ويقاوم رغبته في سحب يديه من هذه السلاسل الحارقة ليضمها لجسده الواهب بشدة، ليمتص كل جزء منها داخل خلاياه الشفافة.

«منتصف الليل»

أرادت أن تسأله الكثير، أرادت أن تحضنه أكثر، أرادت أن تبقى معه للأبد وتنام معه بداخل قبر واحد، لكنها لم تقل أي شيء، جنحت للصمت تحدق في شاهد قبره وتحضن جذعه بذراعيها ودموعها تسيل بهدوء، بينما بقي هو محدقا في السماء الواسعة. الصمت أبلغ من الكلام حين يكون المتحدثان قلبان.

«عودي للمنزل»

رفعت رأسها إليه ثم أخفضتها:

«لا أريد»

صرخ بها بقوة وعيناه على تلك السلاسل التي تقف خلف ظهرها مستعدة لتنقض على كليهما:

«قلت عودي!»

حركت رأسها نافية. تحركت السلاسل مخترقة ظهرها كالشبح وانقضت على جسده الشفاف تكويه بنيرانها.

صرخ ضياء بعلو صوته فنظرت له مرعوبة، تراه معلقا، تراه يتلوى ويصرخ لكنها لا تعرف أي بلاء أصابه!

رأت عباءة بيضاء تخرج من القبر وتلف جسده بأكمله وهو معلق مكانه. دق قلبها مرعوبا ثم سقط الجسد المكفن عند قدميها بلا حراك.

مدت يدها نحوه بتردد لكنها ابتعدت صارخة حين تلوث الكفن بالدماء الحمراء. سقطت جالسة على الأرض وهي تنظر لذلك الجسد يرفع في الهواء بينما الدماء تقطر من رأسه الملفوف. لم تكن تسمع لصوت ضياء حسا، ضمت يديها لجسدها وهي تبكي خوفا وقلبها يتمزق رغبة في لمسه ورغبة في الهرب منه.

بعد برهة سمعت صوت سلاسل تجر من مكان ما وأحست بكيان يقف خلفها لكنها لم تكد تدير رأسها حتى داخت ولم تستفق من لوثتها إلا وهي عند حدود المقبرة، ومهما حاولت الركض والعودة كانت تجد نفسها عند الحدود، لذا جلست في مكانها مستسلمة تنوح حبها الذي ضاع، لم يسمع أحدا صرخاتها الولعة ولم يحس أحد بتلك النيران التي أضرمت في أحشائها وهي تنظر لطريق المقبرة الخاوي، صرخت بقوة لعل الرياح تحمل صوتها له:

«ضياء، أنا أحبك، أحبك… أحبك.. أحب… أرجوك…»

إقرأ أيضا: حكايتي مع هدى

**

«العقاب أتى، أتى، أتى»

مختنق الأنفاس، مكمم الفم تبادرت هذه الكلمات لأذن ضياء، ابتسم ساخرا رغم كل ما هو فيه؛ من صاحب الكلمات المبتذلة هذه؟ العقاب آت، العقاب أتى!

رُفع الكفن عن رأسه فرأى سوادا لا ملامح له يقف أمامه وبيده سلسلة غليظة جدا، رفعها ووقع بها على جسده في ضربة قوية فصرخ حتى أحس بعروق حنجرته تتقطع، بكى، توسل، غضب وشتم ثم عاد يتوسل ويتذلل، لكن تلك الضربات الحارقة لم تتوقف ولو لثانية واحدة، تلسعه السلسلة الضخمة ثم حين ترتفع وتهوي مجددا تلتحم اللسعات مع بعضها البعض لتحرق جسده كأنها نيران قادمة من الجحيم. استمر عذابه بدون انقطاع حتى انتصف الليل، لأربع ساعات وهو يُضرب بدون توقف ولو للحظة واحدة. هل يعاقب بكل هذه القسوة لأنه كلم بشرا! لأنه أحب؟

في نهاية الأمر اختفى المارد مع سلسلته وفُتح القبر ببطء حتى ظهر لضياء جسده المفصول الرأس، ارتجف وهو ينظر لنفسه؛ هل عليه البقاء مع هذا الجسد الذي بدأ يتعفن؟ لا يريد، لا يريد، لا يريد.

«غيثة، غيثة، فؤاد. أمي، أبي، أحدكم، أرجوكم أريد أن أعيش، أريد أن أحيا، أرجوكم»

دُفع داخل قبره دفعا، ورمي به فوق جسده المتعفن، أُغلق القبر فوقه فأخذ يدق على التراب لعل أحدا ينقذه:

«أخرجوني، لن أكلم بشرا، لن أكلم حيوانا. أخرجوني»

دوى الصوت المخيف داخل قبره:

«ستعيش للأبد، واعيا، تسمع ولا ترى، تحس ولا تتكلم. هذا عقابك، هذا عقابك»

توقفت يداه وتصدع قلبه:

«أسمع، ولا أرى، أحس ولا أتكلم! هل هذا يعني أني سأكون حيا داخل هذا القبر؟ لا، أريد أن أنام. لا أريد أن أسمع شيئا. أخرجوني، أرجوكم، لا أريد العيش داخل قبر»

دق ودق ودق، لكن لا مجيب.

سيعيش ضياء داخل قبره يسمع كل ما يدور على الأرض، يحس بكل شيء ويتألم، لكنه لن يخرج أبدا من عذابه هذا. سيعيش في وحدة موحشة للأبد يجتر ذكرياته وآلامه ويسمع صوت المقابر فوقه، هذا هو عقابه.

[انتهى]

نظرتُ للقطرات الشفافة التي تعلقت بيداي؛ لماذا أنا أبكي؟ يا لي من سخيف! أأبكي على روح قتلتها بيداي! على روح ظللت خمسة أيام وأنا أتلذذ بالتخطيط لتعذيبها.

نظرت للكلمة التي خطتها يداي ببؤس (انتهى) متى تحين النهاية لي؟ متى تقف الحياة عندي أيضا؟ أريد أيضا نهاية لحياتي.

ما لفت نظري هو المربع الصغير الذي رسمته على الهامش وكتبت فيه بخطي المرتعش (العنوان) ماذا أسميها؟ حب في مقبرة؟ حب محرم؟ حب!

قهقت ضاحكا وخططت على الورقة بحروف منقمة:

“عذاب أبدي”

راقبت العنوان بتلذذ ثم نهضت ممسكا حزمة الأوراق بين يداي، وقفت أمام المدفأة المشتعلة وألقيت بها دفعة واحدة أراقب النيران تأكلها بنهم. هكذا سأنساها للأبد وستظل تلك الشخصيات التي اختلقها عقلي ذات يوم ممطر تتعذب للأبد، عذابا لن ينقذه منها أحد.

أغمضت عيناي متعبا ثم تقدمت من جديد نحو مقعد كرسي الوثير، متجاهلا تماما السرير الأبيض الواسع الذي كان مرتبا وينتظرني لأستلقي عليه.

أمسكت قلمي الشفاف بين يدي ودسست داخله قرطاسة جديدة من الحبر الأزرق.

سحبت علبة الأوراق وفوجئت بها فارغة تماما، شعرت بالدوار في تلك اللحظة وبأني تائه وخائف جدا. فتحت أدراج مكتبي فلم أجد غير دفتر قديم له أوراق مسطرة، رميت بالدفتر سريعا في المدفأة فأخطأت التصويب.

تقدمت نحوه غاضبا ودفعته بقدمي نحو النيران ثم خطوت نحو الرف الواسع الذي يحتل حائط غرفتي بأكمله. لم يكن ممتلئا بشيء سوى الكتب وعلب لا متناهية من الأوراق والأقلام والحبر.

جذبت علبة رمادية اللون وتقدمت بها نحو مكتبي، فتحتها بحركة سريعا ممزقا الغلاف ثم جذبت ورقة بيضاء منها واعتدلت في جلستي وأنا أمسك القلم بتركيز بين يداي، ثم ابتسمت كاتبا بشغف:

«نقطة البداية»

يتبع في قصة جديدة بإذن الله..

رنا رشاد

المغرب
guest
27 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى