أدب الرعب والعام

قصص لا تنتهي..

كتابة وبيع القصص القصيرة للجرائد والمجلات هي مصدر دخلي الوحيد، لكن حياتي لم تعد كما كانت منذ أن نشرت آخر قصة لي بعنوان (…). على الرغم أنها جلبت لي شهرة وجماهيرية إلا أنها أصبحت حجرة عثرة في مسيرتي الأدبية. الناشرون أصبحوا يرفضون أي قصة أكتبها بحجة أن القراء لن يرضوا بقصة أقل من قصة (…).

أغلقت على نفسي في غرفتي لإيجاد حل للمشكلة ــ كعادة رجل الكهف حين يلوذ بكهفه إذا أعجزه شيء ــ قلت محدثا نفسي :

ــ اللعنة على تلك القصة، لو كنت أعلم أنها ستحطم مسيرتي الأدبية وأسرتي من بعدها لكنت أحرقتها و ارتحت منها.

غارقا في خواطري الكئيبة تناهى إلى سمعي طرق عنيف على الباب، لتقابلني زوجتي بوجه عابس وأعصاب ثائرة ــ بعد نقاش ليلي مشتعل ــ :

ــ أنا حقا عاشقة لقصصك يا تامر، وأقدر القيمة الأدبية كثيرا، لكن لديك أسرة تطعمها و هذا فوق كل اعتبار أدبي.

صمتت قليلا لترى تأثير كلامها علي ثم أردفت :

ــ سأذهب لبيت أهلي و أعود عندما تصبح قادرا على ملء الثلاجة.

ثم غادرت حاملة طفلتنا الوحيدة و صفقت الباب خلفها بقوة.

**

عازما على تأليف أروع قصة في تاريخي والتي سأنشرها حتما حتى و لو باسم مستعار، بدأت في تحضير الجو الملائم لذلك من إعداد كوب قهوة ساخن وإشعال عود بخور في الغرفة، ثم جلست أمام جهازي وبدأت أنقر بكل هدوء على لوحة المفاتيح. لست في مزاج يسمح بعمل إبداعي كهذا. بدأ الوقت يمضي ولم أجد منفذا إلى داخل القصة حتى يتحرر خيالي، لكني ألزمت نفسي بالكتابة حتى بدأت تتشكل بعض الكلمات و الجمل ذات المعنى..

إقرأ أيضا: يسمونها الأرض

“في إحدى الطرق الفرعية المنعزلة تقود ليزا سيارتها مخترقة ظلمة الليل وقد أحكمت إغلاق النوافذ لمنع تسرب البرد إليها في هذا الجو الجليدي. كل تركيزها كان منصبا على إيجاد ذلك النزل الذي حدد لها. فجأة لمحته على جانب الطريق، نزل مريب لو شئنا الدقة ط، ربما يصلح لسائقي الشاحنات و عصابات الدراجات النارية لكنه لا يصلح للقاء عمل مهم كلقائها.. لا يهم، تحسست حقيبتها لتتأكد مجددا أنها أحضرت ذلك الغرض معها و ترجلت من المركبة.

طرقت الغرفة التي حددها لها مسبقا فكان في استقبالها رجل أشقر عريض المنكبين مد يده قائلا :

ــ مرحبا بك، أنا الرفيق كراكوف.

لم تجد فائدة من تعريفه بنفسها فهي عند رجال الكي جي بي أشهر من نار على علم، و يكفي أنهم لقبوها بالعقرب. لم يسبق لها الفشل من قبل في أي مهمة.

بدأت كلامها مباشرة عن سوء المكان والتوقيت، لكنه كان ثابت الجنان مبتسما يحاول تهدئتها بعبارات لطيفة.. أخرجت له الوثائق من حقيبتها فأخذها وهو يرمقها بإعجاب و فخر ثم استأذنها في الذهاب إلى دورة المياه.

آه لو يعلم الرفقاء في موسكو كم تجشمت من عناء في سبيل إحضار ذلك الملف لهم.. وكم أغوت من عجوز منتفخ البطن حتى تمكنت من زرع شبكة ضخمة حول أهم المسؤولين في الولايات المتحدة.

تناهى إلى سمعها صوت مريب قادم من المرحاض، اقتربت من الباب و سمعت ذلك الرفيق يهمهم بعبارات غامضة. و بسرعة أدركت أن هذا فخ نصب لها من طرف رجال الاستخبارات.. لم تكذب خبرا و أسرعت إلى الباب للفرار لكنه كان أسرع منها و سد الطريق أمامها فالتحمت به، كانت معركة خاسرة فمضغت رقاقة السيانيد التي تضعها دائما في فمها و انتهى كل شيء … “

توقفت عن الكتابة و حذفت كل شيء.. لم يرق لي جو الستينات و الحرب الباردة المفتعل . ثم إن عشاق قصص الجاسوسية انقرضوا منذ سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي.

ارتشفت جرعة من كوب القهوة و بدأت من جديد.

**

إقرأ أيضا: سأزيل العصابة

“في إحدى الطرق الفرعية المنعزلة تقود ليزا سيارتها مخترقة ظلمة الليل و قد أحكمت إغلاق النوافذ لمنع تسرب البرد إليها في هذا الجو الجليدي، كل تركيزها كان منصبا على إيجاد ذلك النزل الذي حدد لها. فجأة لمحته على جانب الطريق.. نزل مريب لو شئنا الدقة ربما يصلح لسائقي الشاحنات و عصابات الدراجات النارية لكنه لا يصلح للقاء مهم كلقائها. لا يهم، تحسست حقيبتها لتتأكد مجددا أنها أحضرت ذلك الغرض معها وترجلت من المركبة.

طرقت الغرفة التي حددها لها مسبقا فكان في استقبالها بكل ترحاب و ود. لو يعلم ماذا تخبئ له لفر منها فراره من المجذوم.. تذكرت يوم التقت بها صدفة في مكان عملها و أول موعد لهما و بداية علاقة حب قوية.. العائق الوحيد أمامها هو زوجته. وعدها بإنهاء زواجه سريعا ولكن مضت الأيام و الأسابيع و الأشهر دون جديد و بدأ الانتفاخ في بطنها يظهر. لقد تلاعب بها مستغلا وسامته و أمواله و قدرته الرهيبة على الكذب. وبعد تحقيق أجرته اكتشفت أنه معتاد على هذا و لديه عدة ضحايا سبقوها لكنها قررت أنها ستكون الأخيرة .

تناهى إلى سمعها صوته من الحمام :

ــ الطعام في المطبخ يا عزيزتي، هل تحضرينه ؟

ــ نعم .. حاضر.

إقرأ أيضا: العتبة الملعونة

أحضرته سريعا وأصلحت من شكلها قليلا في المرآة، وفجأة تجمدت من الرعب وهي تعيد بعض التفاصيل في ذهنها. لمَ أصر على لقائها ليلا في نزل مريب على أطراف المدينة؟ لماذا غير لون شعره و حلق لحيته؟ لماذا حضر بسيارة عادية وهو الذي يعشق سيارته المرسيدس الفاخرة ؟ هل ينوي بها سوءا؟ لم تكذب خبرا حملت حقيبتها و جرت إلى الباب للهرب، لكنه كان أسرع منها، أمسكها بكل قوة وبدأ يضغط على عنقها. إنها تعلم يقينا أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة لكن عزائها الوحيد هو قارورة السم التي أفرغتها في طعام العشاء .. “

توقفت عن الكتابة و حذفت كل شيء، لم يعجبني جو الجريمة والشخصيتان السطحيتان.. ثم إن عشاق قصص الجريمة سريعو الملل وقلما تعجبهم قصة. ارتشفت جرعة من كوب القهوة وبدأت أكتب من جديد.

**

“في إحدى الطرق الفرعية المنعزلة تقود ليزا سيارتها مخترقة ظلمة الليل، وقد أحكمت إغلاق النوافذ لمنع تسرب البرد إليها في هذا الجو الجليدي كل تركيزها كان منصبا على إيجاد نزل لقضاء ليلتها. فجأة لمحته على جانب الطريق إشارة ضوئية ” نـــزل و استراحة (….) ” يبدو مريبا بعض الشيء ، قد يصلح لسائقي الشاحنات و عصابات الدراجات النارية لكن هل يصلح لفتاة رقيقة مثلها؟ لا يهم، فهي غير قادرة على القيادة ميلا آخر و تكاد تسقط من فرط التعب ثم ترجلت من المركبة.

كان في الاستقبال شاب أسمر طويل ابتسم لها :

ــ ماذا تفعل فتاة جميلة مثلك في مكان كهذا؟

لم ترد على مغازلته فهي ليست في مزاج يسمح لها، أعطته بطاقتها المزيفة فقام بإدخال بياناتها ــ المفبركة وناولها مفتاح الغرفة قائلا :

ــ هل تريدين شيئا آخرا ؟

سألت:

ــ هل يوجد هنا مكان لابتياع بعض الطعام ؟

ــ لا.. مع الأسف

ــ حسنا .. شكرا لك.

دخلت الغرفة و ألقت بنفسها فوق السرير لوهلة قصيرة حتى سمعت طرقا على الباب، توجست في نفسها لولا أن صاح الطارق :

ــ إليك بعض الطعام آنستي..

تنفست الصعداء و دعته إلى الداخل تعبيرا عن امتنانها لمعروفه، تجاذبت معه أطراف الحديث وهي تتناول طعامها. أخبرها أنه يعيش رفقة والدته ــ مالكة المكان ــ في بيت خلف النزل، إنها لا تغادر البيت بتاتا.. وأسر لها أنها شخصية متسلطة لا تكاد تجد من يحبها .ثم سألها عن حالها فابتسمت و قالت في نفسها: هل سيصدقني إن أخبرته أني أعمل سكرتيرة، وقد سرقت كل الأموال من صندوق مديري وأنوي الفرار خارج البلد؟ لاحظ شرودها فاستأذن و غادر.

إقرأ أيضا: لا أريد أن أكون هي

استلقت على سريها الوثير و هي تحلم بمستقبل مشرق، فبمبلغ كالذي سرقته ستحقق كل أحلامها حتما. انتفضت، صحيح.. المال لقد نسيته في السيارة! خرجت مسرعة إلى مركبتها، عادت الدماء إلى وجهها و هي تجده في مكانه. عادت أدراجها ممنية نفسها بنوم هنيء، لكن الباب لم يرض أن يفتح و المفتاح عالق بالداخل . ضربته ضربا خفيفا دون نتيجة، ما هذه الليلة الطويلة؟ قاعة الاستقبال مغلقة، هل ستنام في الخارج؟

لا .. اتجهت إلى البيت في الخلف لتطلب منه أن يحل مشكلتها و هي تشعر بخجل شديد . من بعيد كانت أضواء بيته منارة و لمحت من النافذة والدته، تبدو عجوزا قبيحة وغير مريحة. حركاتها هيستيرية كأنها تصرخ على شخص ما، لا بد أنها وابنها يتشاجران.. هل هي السبب في هذا الخلاف بينهما؟ ربما بطريقة ما علمت أنه زارها في غرفتها فظنت به السوء، من يدري ؟

طرقت الباب عدة مرات دون مجيب، ما ستفعل ؟

إنها تعلم و هي العاشقة لأفلام الرعب أن اقتحام بيوت الغرباء دائما ما ينتهي بكارثة، خاصة إذا كان المقتحم شابة شقراء مثلها.. لكن ما باليد حيلة قد يكون ذلك الفتى في حاجة إلى مساعدتها .. ولجت إلى الداخل، رائحة العطن تزكم الأنوف، ألا ينظفون هذا البيت أبدا ؟

بدأت تنادي عليه مرارا دون جواب. تجولت في الغرف، ربما حدث له مكروها ما، ليس له أثر بكل غرف البيت. فجأة لمحت أحد الأبواب الصغيرة مواربا في الركن، الباب يقود إلى القبو هل تنزل؟ تحاملت على نفسها ونزلت و هي تتحسس خطواتها، كانت صاحبة البيت في الأسفل تجلس على أريكة و تعطيها بظهرها. قالت بصوت مرتبك :

ــ سيدتي المعذرة أين ابنك ؟

لم ترد ..

ــ سيدتي هل أنت بخير ؟

لم ترد ..

أدارت الكرسي وسقطت صارخة من الفزع، لم تكن سيدة البيت هي الجالسة على الأريكة، لقد كان ذلك هيكلها العظمي حرفيا، ثم انقض عليها بسكين ضخمة يطعنها و هو يصرخ :

ــ دعي ولدي أيتها العاهرة..

إنه الشاب في الاستقبال، يرتدي ثياب والدته ويضع شعرا مستعارا و يقلد صوتها بطريقة بشعة.

توقفت عن الكتابة و حذفت كل شيء، لم أستعذب جو الرعب و الغموض. ثم إن النهاية الصادمة تبدو سيئة، كما إن عشاق قصص الرعب مرتابون.. وقصتي هذه ستبدو مألوفة لهم. ربما يكون أحدهم قد شاهد شيئا يشبهها في صغره .. فيلم قديم بالأبيض والأسود.

إقرأ أيضا: رائحة الفناء

تحاملت على نفسي رغم تعبي الشديد، سأكتب في النهاية قصتي العبقرية، لن أستسلم أبدا، لن أخذل أسرتي الصغيرة. رشفت آخر جرعة متبقية من كوب القهوة و بدأت من جديد.

**

بعد أسبوع عادت زوجة تامر إلى البيت، نادته طويلا دون أن يجيب. هل مازال في غرفة المكتب منشغلا بقصصه التي لا تنتهي؟ دلفت إلى الداخل .. المسكين كان نائما و رأسه على لوحة المفاتيح، حاولت أن توقظه، رفعت رأسه ثم صرخت بكل رعب.. عيناه مفتوحتان ووجهه أزرق شاحب. إنه ميت، ميت جدا لو شئنا الدقة. نظرت إلى الشاشة التي كانت لا تزال مضاءة .. لقد كان يكتب فقرة واحدة و يعيدها.. عشرات الصفحات ..

” في إحدى الطرق الفرعية المنعزلة تقود ليزا سيارتها مخترقة ظلمة الليل، و قد أحكمت إغلاق النوافذ لمنع تسرب البرد إليها في هذا الجو الجليدي، كل تركيزها كان منصبا على إيجاد …..”

تمت

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى