أدب الرعب والعام

نبوءة الذئب (1)

لم يكن هاني الشهير بهاني “فتلة” من المؤمنين بحرية الرأي واختلاف وجهات النظر، لما أخبرته ابنته الجامعية أنها تريد الخروج في رحلة لجبل كاترين مع زميلاتها وزملائها ضحك ولم يرد عليها، وتالي يوم كان يمشي في الشارع بملفها المسحوب من الجامعة، وحين بكت أخبرها أنها لبيتها وزوجها فقط وأنه ملعون العلم وطالب العلم.

يوم ولادته ماتت أمه وكان ذلك أول خدش له من أظافر الدنيا. ميكانيكي سيارات نحيل أصلع. يبصق كثيراً ويشرب الشاي بمعدل خمس أكواب يومياً. يزاوج شوقية حب عمره القديم الذي لم يتحول للعنة كما يحدث دائماً. عاشا قدراً جميلاً من الحب في شبابهما، ثم ها هي ذي حرارة الأيام تذيب ما بينهما وكأنما لم يكن يوماً. يدركان بعد أول طفل أنه لم هناك مكان للحب. ينظران فوقهما فيجدان الثقيل من الأحمال ينتظرهما ليرفعاه. أفواه تنتظر الطعام وعقول تنتظر العلام. الحب مع كل ذلك يبدو رفاهية أو أنانية. هكذا يتبدل الحال بينهما. من حب وشبق إلى احترام متبادل. هو يراها عامود البيت وهي تراه سقف البيت. يعطيها مكانتها وتعطيه مكانته. ويتفقان على شيء بسيط. لا مكان للقبلات بين العامود والسقف.

هاني فتلة راضٍ عن حياته. يملك ورشة سيارات منذ ما يزيد على العقدين ولديه بين أقرانه هيبة وصيت. امرأة وطعام ونسل وراحة بال. لا يطلب المزيد أبداً من موزع الأرزاق.

يسأله زميله سيد ليلة شرب نبتة الحشيش، أو الليلة الخضراء كما يسميانها:

_ نواعم؟ نواعم الدلال والدلع. أتذكر؟ سيدة الحارة!
تلمع عينا هاني تحت ضوء القمر المتسلل إليهما عبر نافذة صغيرة مفتوحة علتهما. وكانا حينئذ في غرفة المخزن التي يتخذانها وكراً لمغامراتهما الدخانية الآثمة. يقول:

_ لا أملك غير الذكرى عنها.

_ وما حصل لها.. أتذكر؟

_ طبعاً، اسمه الحب يا سيد.

_ حب ماذا؟ قل خيانة. أتعلم أنها كانت متزوجة لأعز أصدقائه؟ وبمجرد أن مات تسارع لتتزوجه، أقصد علاء محروس. اسمع مني، بينهما أشياء وأشياء يا محترم!

_ وأنت أتعلم أن هذا اسمه قذف محصنات؟

يستغرب سيد:

_ وما قذف المحصنات هذا؟

_ أن تتهم شخصاً بالفاحشة.. ترميه بها.

يضحك سيد بشدة حتى يسعل وينزل الدمع من عينيه:

_ حشيش ونواعم وتقول لي محصنات!

_ أحاول أن أكون عادلاً في حقها، ثم ماذا؟ شرب الحشيش يمنعني من أي فعل صالح؟

يقول سيد ضاحكاً المزيد:

_ أبداً يا شيخنا. جارنا الصوفي كان يشربه ويقول أن يتجلى ويرتقى لكي يصل لله.

يرد هاني بعصبية:

_ قصره!

_ جدياً، ألا تسأل نفسك، كيف أحبته هو من وسط كل أشجار الغابة!

_ هات المقصد.. لماذا تذكرتها الآن؟

_ صحيح صحيح، كدت أن أنسى. يبدو أنها عادت لشقتها القديمة.

_ فعلاً؟

_ عتمان بنفسه حلف لي، لم أصدقه حتى رأيتها بنفسي.

ويمسك بركبة سيد فيعتصرها قائلاً بلوعة المشتاقين:

_ آه يا فتلة!

ثم ينطلق ليدندن:

_ وأنا كلما أقول التوبة يا…

إقرأ أيضا: تحت قناديل الشارع

يضرب هاني يد سيد فيبعدها ويدوي صدى صوت اللسعة في الفضاء شبه الأسود حولهما. ينير يسيرا من الظلمة بأنفاسه لسيجارة المزاج، قبل أن يرخي ظهره إلى الحائط الخرساني خلفه، ويرجع رأسه حتى لامست مؤخرتها الحائط فيشخص بصره إلى سقف المخزن البعيد. يقول:

_ عشرة أعوام؟

_ ماذا أخبرك أنا! جمالها لم يقل ولو للحظة. اسمع.. النية معقودة، ابتعد عنها.

يلوح هاني بيده في لا مبالاة:

_ عندي أم العيال وأربعة من الحمير، وتظنني ألهث
وراء امرأة في الأربعين.

فضحك سيد:

_ لا تغير رأيك لما تراها.

_ غنِ وتكلم. قل يا سيدي.

_ تكورت أكثر.

_ غيره، مللنا من اللحم.

_ طالت.

_ ليس مبرراً.

_ ابتسامتها.

يهمهم هاني ويغيب بذاكرته أيام هبطت عليهم نواعم في الحارة كما تهبط أشعة الشمس على خربة باردة. راح يراقبها كما راقبها كل ذكور المنطقة آنذك، ورأي فيها ما رأى ورسم لها صورة ونحت لها تمثالاً في خياله. رآها من النظرة مشاكسة، ومن المشية تريد شيئاً، ومن الكلمة ساحرة والبسمة خبيثة. حارة الدماء كما حتّم تخمينه. بدت لهم كأجنبية تاهت في حارة المرزوقي. لم يستبعد أنها قد تستوقف أحدهم بحمرتها الطاغية وقبعتها الوردية الكبيرة، وتقول له بلهجة أجنبية عربية:

_ عذراً يا مستر. فقدت دليلي. كيف أعود إلى أمستردام؟ بعيدة؟ إذن إلى زيورخ من فضلك؟ بعيدة أيضاً؟ أين أنا؟ أريد العودة لأوروبا.

كانو يطالعونها من الأسفل ويهيء لهم أنها تناظرهم من الأعلى. ملابس مختلفة. ذوق راق. ثقافة أخرى. قام بينهم وبينها برزخ عجيب. علامة استفهام كبيرة تسبق سؤالاً عن الأحوال التي قادتها إلى مكانها كهذا. ثم علموا أنها جاءت تسكن شقة اشتراها لها السباك علاء محروس. الجسر بين ضفتي بداية ونهاية العالم، الحبل الذي ينزل من الطابق المائة للطابق الثالث، هو رجل ثلاثيني معدم كريه الرائحة.

في البدء لم يصدقوا. الإشاعات تجيء وتذهب في حارة المرزوقي. لكن هاني بنفسه رأى الفتاة تتأبطه ذات ليلة، وسمع آنذاك صفيراً من مكان ما يصاحبه جملة “ابن الجنية!” وعلم أن الصوت يعود لصبي عامل في ورشة سيارات مجاورة. يجاهد لتذكر المزيد. كان تلك أيام ما بعد ولادة ابنه عماد. يعتصر عقله. يحاول الوصول لأي تفاصيل أخرى تسبق الشعور غير المريح الذي انتابه لدى رؤيتهما. تفصيلة تبرر ذلك الشعور أو حتى تنفيه. تفصيلة تخبره أنه واهم. لا شيء. فأسه في أرض بور. الإجابة بيضاء.

_ تتزوج رجل الخراء وتغادر الحارة معه. كم صلاة صلى حتى يحدث معه كل ذلك!

يصرخ بها سيد في نوع من التراجيديا المسرحية.

يتجاهله هاني ويأخذ نفساً جديداً فيشعر أنه يطفو في المكان. يفكر، رجل الخراء.. الناس رأو أنه محظوظ، رأوه في الجنة، لكنه ليلتها رأى شيئاً مختلفاً

. علاء محروس السباك يرافق نواعم. وكان حينها نحيلاً لتوه قد خرج من المشفى، وهو لغز آخر. في العادة لا تفقد الجميلات عقولهن على حديثي الخروج من المشفى.. كانا يمشيان هكذا دونما كلمة. جميع من يراهما ينظر لها لأنها تخطف كل الأضواء بطبيعة الحال. أما هو فكان الوحيد الذي نظر لعلاء محروس. متجهم الوجه كأنه مقبل على نهايته الحتمية، وتلك بالضبط كانت نهاية القصة. بعدها رحلا وترك علاء محروس أمه العجوز وحدها آخذاً رقماً مرتفعاً في قائمة الأنذال كما رأى هاني بعدها. شتمه في سره مرات عديدة، وكلما رأى العجوز تمشي وحدها في الطرقات تتسند جداراً وتلهث وتسعل بضعف، سارع إليها يساعدها وهو يشتم علاء محروس في سره.

إقرأ أيضا: أيام بلا ألوان

سألها ذات مرة كان يوصلها فيها إلى مسكنها العتيق:

_ ماذا ترين فيه يا أم علاء؟

وكان يحاول حينئذ حثها على الكلام عن علاء ابنها، إذ لاحظ أنها لا تتحدث عنه أبداً. ردت المسكينة:

_ رب في السماء يرزقه. أدعو له.

_ ألستِ حزينة يا أماه؟

_ حزينة؟ مم؟

ينظر لها بعين الشفقة:

_ لا شيء يا أماه.. لا شيء.

يمشيان هوناً حتى يصلان للباب. تقول إذ يهم بتركها والعودة للورشة:

_ أعلم أن ما حدث ليس بيده.

يتوقف ويلتفت لها:

_ ما حدث؟

_ مغادرته.

_ لكنه غادر بإرادته.

_ ذاك ولدي أعرفه. لم يغادر معها بإرادته.

_ ألم يكن يحبها؟

_ كرهها… خافها.

_ لا أفهم. كيف تجبره على الرحيل معها؟ وكيف يخافها؟ هل كانت تبتزه مثلاً؟

تقول وهي تفتح الباب بوهن:

_ لا أعلم لكنه كان يكرهها. اشتكى لي ذات مرة.. قال إنها ساحرة.

_ ساحرة؟

_ ليس مجازياً.

يبتسم هاني:

_ ماذا تعنين؟ تركب مكنستها وتقتل القطط؟

تضحك بوهن وببطء ثم تقول:

_ هذا ما فهمته يا بني.

يهمهم ويطرق مفكراً. تقول حينئذ:

_ تعال اشرب الشاي.

يقول قبل أن يكمل طريقه:

_ البركة فيكِ يا أم علاء. يجب أن اعود للورشة.

وكانت تلك آخر مرة يراها فيها. ماتت بعدها وحيدة على سريرها في ظلمة مخيفة. لم ينتبه أحد لموتها إلا بعد أن فاحت رائحة جثتها من شباكها. وقد قضى هاني ما قضاه من ليال يطالع السقف ويسأل شخصاً لا يسمعه… علاء محروس… لماذا تركت أمك يا وغد!

_ يقولون أنه مات.

يعود هاني لواقعه. يسمع سيد وهو يكمل:

_ مات لهذا عادت نواعم.

_ ظننت أنه كان حلقة وصلها مع الحارة.

_ دعني أكون أنا حلقة الوصل الجديدة.

يقوم هاني من مكانه متنهداً:

_ شيء فيها لا يريحني.

_ بل هي الراحة نفسها.

كان سيد أعزبا ثلاثينيا يجري وراء الجميلات كقط يموء طلباً للتزاوج، وهو ما يجعله مثالياً ليكون ضحية جديدة لنواعم. هكذا أدرك هاني وهو يطالع وجه سيد البائس الحالم.

**

رمش مرة ومرتين حين رآها تتمايل في مشيتها، وفغر فاهه وفتح عينيه عن آخرهما. يسائل نفسه كيف أن الزمن لم يلعب لعبته مع تلك الامرأة. ظن أن سيد يبالغ حينما قال أنها صارت أجمل. كان يجلس على كرسيه أمام ورشته. من خلفه صبية يعملون معه يجيئون ويذهبون. وفي الورشة الواسعة تترامى ثلاث سيارات تستقبل صيانتها بسكون. ارتبك حينما رآها تقترب منه. حاول أن يشم ملابسه فوجدها مشبعة برائحة الزيت والشحوم، فانقبضت نفسه واكفهر وجهه. ثم هي تقترب منه فتبث في نفسه شيئاً من الرهبة بابتسامتها. تقول إذ اقتربت بمسافة كافية:

_ أستاذ هاني.

يستجمع شتاته ويقول بنبرة جافة:

_ ماذا تريدين؟

لم يبد أنها اندهشت لجفاء كلماته. تقول جادة:

_ أريدك في خدمة شخصية. خدمة بثمن طبعاً.

_ ثمن؟

_ مال. الكثير من المال إذا وافقت.

_ الحمد لله لدي ما يكفيني، ولا أريد التعامل معكِ.

تبتسم:

_ على الأقل اسمعني ثم قرر.

_ لا أريد، شكراً.

_ ستفعلها لأجلي لا لأجل المال، أنا أطلب مساعدتك. امرأة.. لا بل أرملة تطلب العون. بالتأكيد لن تردها خائبة.

_ بل سأفعل. إني متزوج وأخاف الله.

_ رجاءً. هذا طلب.

_ يقف غير هادئ:

_ قلت لا!

تتسع ابتسامتها:

_ لدي خبر لك، غداً أو ربما اليوم، سينكسر مرفاع كوريك قديم وستهبط سيارة على ذلك الولد هناك، ستقتله.

ثم تشير ليوسف الذي كان يراقبهما من بعيد.. ينظر حيث تشير ليجد مقصدها، وكان يوسف مراهقاً من أحد صبيته الذين يعملون معه. يقول مستنكراً وهو يرجع نظره لها عن يوسف:

_ ينكسر ها؟

_ لم أكن أنوي تحذيرك كنوع من الانتقام لرفضك، لكن هذا ليس أنا. وللعلم، أنا لا أعرض خدماتي مجاناً. غيرك كان ليدفع لي أموالاً طائلة ليعرف معلومة مثل هذه.

_ خدمات؟

_ أرى المستقبل.. عرافة كما تقولون، لكن عرافة الأثرياء.

_ لا أعلم ديانتك.. لكننا نقول كذب المنجمون ولو صدقوا.

تلتفت مبتعدة بدون كلمة أخرى، ويراقبها هو في مشيتها المغرضة حتى تختفي عن ناظريه. بعدها ينادي يوسف فيحضر غامزاً بل ولاكزاً لو استطاع، يقول:

_ نعم يا معلمي.. لماذا لم تنادني أبكر من هذا حتى ينالنا من نواعم شيئاً.

_ اخرس. اسمع، هات لي الكوريك.

_ القديم؟

_ الذي تعمل به.

تعلو الحيرة وجه الصبي الذي يذهب متباطئاً ليلبي الأمر. يزعق فيه هاني بعصبية:

_ بسرعة يا ابن ال….

فيهرع الأخير مسرعاً.. بعد ثوان غاب فيها هاني داخل بحره من الأفكار والأسئلة، يعود الصبي جاراً معه الرافعة العتيقة الكبيرة بأصواتها المعدنية التي تصدر من اهتززاها واحتكاكها بالأرض المتعرجة ذات النتؤات، يقوم هاني ويضرب الصبي بخفة على رأسه:

_ سنتين حتى تأتي بها.

يقول الصبي:

_ ما لها يا معلمي؟

إقرأ أيضا: اعترافات أنثى – الجزء الأول

في تلك اللحظة ينحني هاني ويتفحص الرافعة من عدة جوانب، حتى وجد قطعة معدنية من الرافعة انحنت في موضعها إثر ضغط عمودي. أخبره ذاك بشكل مباشر أن الرافعة بالفعل غير صالحة للاستخدام كونها عرضة القطعة للانكسار المباغت. كان يعرف أن البعض يستبعدون حدوث ذلك ويستمرون في استخدمها رغم الخطر. ينتصب ويقول:

_ أرجعها المخزن وأعطها لحاتم كي يصلحها، وخذ اليوم وغداً إجازة.

تنفرج أسارير الصبي ويصيح:

_ فعلاً!

يركله هاني على مؤخرته:

_ بسرعة قبل أن أغير رأيي.

يسحب الصبي الآلة المعدنية بفرح، يتابعه هاني في ابتعاده وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم.

**

تسأله شوقية زوجته:

_ وأعطيته إجازة؟

يتناول كوب الشاي ويرشف منه ناظراً إليها دون جواب. كان يعلم أن ذاك لا يرضيها، ولما استشفت هي منه ذلك أسرعت لتقول:

_ عهدتك مؤمناً بالله يا رجل. تصدق واحدة لا تسوى شيئاً!

يصمت لوهلة وكأنه يرتب ما سيقوله، ثم يتحدث:

_ لا أحب المجازفة.

_ أي مجازفة؟

_ أن يحدث له شيء.. كيف لها أن تعرف أن الرافعة معطوبة!

تكمل زوجته قطف أوراق الملوخية ولا ترد وقد بدا أنها تكتم داخلها شيئاً. يصمت لصمتها ويكمل مشاهدة التلفاز الذي كان يعرض فيلماً قديماً من أفلامه المفضلة. لحظات صمت تمر عليهما يقطعها هو برشفه للشاي ويقطعها صوت الفيلم، تقول فجأة وقد بدا أنها وصلت لحدها:

_ يعني أعطيته إجازة لأنك خائف!

يضع الكوب على منضدة جانبه بعنف فيقول بعصبية:

_ تظنين أني خائف على الولد! أنا خائف من أن يحدث له شيء داخل ورشتي. ما أدراني! ربما تكيد له شيئاً لتوقع به كي تتحقق نبوئتها! شوقية… لا تعلميني كيف أدير ورشتي!

هذه المرة تصمت تماماً وهي تسترق له النظر بين الحين والحين كاتمة ابتسامة تريد أن تهرب منها. هي تحبه، تحبه وتعلم أنه يكذب. هو يخاف على الولد لكن لا بد له من الظهور أمامها بمظهر الرجل الذي لا يخاف ولا يتصرف مدفوعاً بمشاعره مثله مثل النساء، وكان ذلك يقوم عندها مقاماً حسناً، ذاك لمعرفتها بأنه يملك ضميراً رغم قسوته وجلده. شيء كان يشعرها باستحالة ظلمه لها يوماً من الأيام بفعل كبير أو صغير، تنسى دائماً أنها لهذا أحبته وتزوجته في المقام الأول.

_ سأقابلها في الورشة مساء الغد، قالت تريد أن تطلب مني شيئاً.

_ تقابلها؟ لكنك لم تقل شيئاً عن مقابلات!

_ أنا لا أسألكِ مقابلتها، أنا أخبركِ أني سأقابلها.

_ لكن…

_ في الورشة أمام خلق الله كلهم، هذا آخر ما سأقوله في هذا الموضوع، سأقوم لأنام.

يقوم بعدها بخفة ليجتازها إذ كانت تقعد أرضاً تتنهد وهي تكمل ما كانت تفعله. رغم عدم رضاها لكنها كان سعيدة قليلاً بإعلامه لها، هو هاني بالضبط كما تعرفه. لا يتغير أبداً.

**

يراها من بعيد قادمة بمشيتها الناعمة الغريبة، فكانت تهز ردفيها أكثر مما تحرك قدميها. تلبس بنطالاً أبيض اللون ضيق المقاس، وقميصاً واسعاً ينزل إلى ما تحت خصرها بقليل، ولم تنس بالطبع ارتداء الكعب العالي الذي أصبحت فرقعاته محفوظة قي الحارة. ينقبض قلبه لدى رؤياها، لكنه يتماسك وينتظر حتى تصل إليه، وكان يجلس إلى طاولة أمام ورشته كما اعتاد، فكان أن جلب كرسياً إضافياً بانتظارها، وتلحظ هي ذلك فتجلس دونما سلام أو ود. تقول جامدة الوجه خبيثة الكلمات:

_ أصدقت أم لا يزال لديك شك؟

_ هذا لا يثبت شيئاً.

_ وما الذي يثبته؟

_ اسمعي يا بنت الناس، أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا، وافقت على مقابلتك لسبب واحد.

_ وهو؟

_ علاء محروس، ما الذي حدث له؟

شعر أن سؤاله أعاد تشغيلها. وكأنها حاسوب. تتجمد قليلاً، تعالج شيئاً داخل عقلها، ثم تبتسم:

_ علاء؟

ينظر لها متفحصاً:

_ هل أنتِ بخير؟

_ نعم.. بالطبع أنا بخير، لكن الذي ليس بخير، هو علاء.

_ لماذا؟ ما الذي حدث له؟

_ مات. أكلته الذئاب.

_ ها؟

_ ذئاب.. في الصحراء تحت ضوء القمر. صرخ كثيراً لعلمك.

اشتدت أعصابه فسيطر عليها. يقول وهو يحاول أن يبدو هادئاً:

_ علمنا أنه تزوجك، سأسأل مجدداً، ما الذي حدث لعلاء محروس؟

_ أخبرتك.. الذئاب أكلته.

_ ليس لدي شك أنه يستحق هذا المصير، لكن دعينا والترهات، أين هو الآن وماذا يفعل؟

_ هل أنت أطرش؟

هنا يُكسر سده، ينفجر فيقوم ضارباً الطاولة بقبضته:

_ ألعابكِ على الصغار وليس عليّ!

تتجه كل الأنظار نحوه. لا يسمعون ما قال لكنهم جذبهم الصوت العالي. تقف ثم تقول وهي تمد يدها نحوه فتلمس جبهته:

_ اهدأ.

ينتفض وكأن كهرباء مسته، ومن حوله تختفي كل الأشياء.

إقرأ أيضا: بعد منتصف الليل – ليالي سوداء

**

همس حوله لا يدري مصدره، ظلام ودقات طبول. هو عار، الرياح التي تهب على جسده تخبره بذلك، عارٍ تماماً. يستشعر الرمل بين أصابع قدمه، رمل بارد وهواء كثيف. يسائل عقله الباطن.. هل أنا في الصحراء؟ أين القمر إذن؟ يسمع صراخاً ويرى ناراً اتقدت فجأة، وضوء يأتي من السماء. القمر قد استيقظ. بعيداً على الرمال، وبالأبيض القمري، والأصفر الناري يرى اللوحة. مشهد غريب. امرأة غجرية، أو هكذا تبدو في الملبس والهيئة، فيراها شعثاء الشعر بتنورة مزركشة مرتقة، تكشف عن ساق ناعم مرمري يغلب ابيضاضه لون النيران وكل الألوان. ترقص بحيوية أثارت شيئاً داخله، أمامها قطيع من الذئاب ورجل مقيد. القطيع هادئ، ينظرون لها وكأنهم ينتظرون منها شيئاً، يقترب أكثر. لا يبدو أن الذئاب تراه، أخيراً يرى الرجل، إنه وليس إلا هو. علاء محروس، كما هو في ذاكرته بالضبط.. أكلته الذئاب! لم تكن تكذب! يجري وهو يصرخ لعله ينقذه، لكن المسافة لا تنقص أبداً، يجري في مكانه، يتوقف لعدم الجدوى ويتابع برعب. يراها تتوقف عن الرقص، يرى الذئاب تتحفز ويعوي بعضها، يراها تشير له ويسمعه يتوسل، ثم أخيراً يرى القطيع قد تكوموا عليه حتى سكن بدنه واختفى صوته، ومن كل ذلك كانت هي تراقبهم في صمت. كان قلبه يخفق بقوة لما يرى، وعندما نظرت له من بعيد وهو الذي كان يظن أنه لا يُرى ولا يُسمع، زاد الخفقان وظن أنه هالك مثل علاء محروس. ثم هو يراها تبتسم له ويقشعر بدنه. إن تلك ليست بشراً!

**

_ أعتقد أنه ضغط العمل.

_ هل متأكد أنه بخير يا دكتور؟

_ علاماته الحيوية ممتازة. القياسات طبيعية وكل شيء على ما يرام.

تنظر شوقية لزوجها المسجي على سريره بعطف المخلصات. نهشها قلق هائل حينما جلبوه حملاً إلى المنزل مع دكتور حسن، طبيب مقيم في الحارة. تسأله ذاك الأخير:

_ هل تعتقد حقاً أنه عرض نفسي؟

يقول الدكتور حسن وقد كان يلبس بيجامة تتنافى تماماً مع طريقته المنمقة في الكلام:

_ قالوا جلس على طاولة وظل يحادث نفسه طويلاً حتى فقد وعيه. هذا ليس شيئاً في الجسد، بل في العقل.

_ يا ستار يا رب.

_ الراحة مطلوبة، لا تدعيه ينزل للورشة، لو استمرت هذه الهلاوس أرشح أخذه لطبيب نفسية.

تكاد تنفجر بكاءً لكنها تتماسك، تشير لأكبر أبنائها والذي كان يقبع في ركن الغرفة أن يقود الطبيب للخارج فيحدث. يعود بعدها قلقاً يطالع والده، تقول شوقية بعد أن لاحظت قلقه:

_ هل سنخاف عليه وهو الذي كان يخيفنا كل يوم! لا تقلق يا عمر.. والدك أسد.. أسد أقول لك!

وكان ابنهما ذاك في السادسة عشر، يليه عماد في العاشرة، وعزة في الثامنة، أما عايدة فكانت أكبرهم في التاسعة عشر. حضر منهم كلهم عمر فقط، بينما نام البقية لا يدرون شيئاً عما جرى. تسمر الفتى مكانه وبدت الحيرة على ملامحه، قد بدا لمن يتمعن بملامحه يريد الكلام، وإنما أيادٍ خفية تكممه تماماً.

قضيا بقية الليلة قريباً من هاني حتى استيقظ على صوت آذان الفجر عطشاً متثائباً وكأن الذي صار لم يكن. وفوجئ حينئذ بشبح يرقد على الأرض وظن أنها شوقية، وفكر لنفسه، فإذا كانت تلك زوجتي، فمن ذا الذي يرقد جانبي؟ وإذ به يرفع الغطاء عمن يجانبه فإذا بها شوقية تستيقظ إثر ذاك، وبدا كأنها رأت الضياء المنتظر بعد غياب، فاستقامت قاعدة وقالت واللهفة تغلب على كلامها:

_ آستيقظت يا سيد الرجال؟

تتغير ملامحه فيسأل:

_ ماذا هناك؟ من ذاك؟

ويشير للأرض.. تقول:

_ ذاك عمر.

_ وما الذي يفعله عمر بغرفتنا؟

_ كي يطمئن عليك إذا أردت شيئاً.

يقول بشيء من العصبية:

_ ما الذي يجري يا امرأة؟ هل مت وأنا لا أعلم!

_ بعد الشر يا سيدهم….

_ انطقي!

_ أصابتك إغماءة وجلبوك هنا.

يتهاوى الحاجز الذي كان يمنعه من التذكر، الذئاب وضوء القمر والنيران ونواعم. أكان حلماً؟ وإن كان فماذا عن مقابلته لنواعم في الورشة؟ يقول وقد بذل جهداً جباراً في إخفاء أي تأثر:

_ كنت أجلس معها.. تلك الملعونة نواعم، بعدها لا أذكر ما حدث.

تقول مرتبكة:

_ نعم… حصل… المهم أنك بخير الآن.

يتنهد وهو ينهض:

_ لله الأمر من قبل ومن بعد.

تحاول منعه لكنها تراه سليماً معافى فتتركه، في طريقه لخارج الغرفة يركل عمراً:

_ قم يا عجل.. صلاة الفجر.

يثب الأخير في الظلام مبتسماً، قد عاد الذي يعرفه أخيراً.

**

_ لا يريدون لنا الخير يا سيد.

يبتسم الأخير وهو يأكل طبقاً من الكشري الحار. يكمل هاني:

_ تراهم يبتسمون لك هنا وهناك لكنك تعرف الحقيقة، يريدوننا أن نخرج من هنا.

يمسح سيد وجهه وأنفه بكمه فيقول:

_ هل يمكنك أن تلومهم؟

يرد هاني وهو يضع يده على صلعته:

_ لا أبداً، ما ذنبهم ليسمعوا سباباً وهرجاً ومرجاً في الحارة طيلة الوقت! لكن ما ذنب أي أحد في أي شيء في هذه الحياة؟ إننا نأكل العيش هنا.

_ عليك نور يا عم ناتشا.

_ ناتشا؟

_ الفيلسوف إياه الذي درسنا عنه في الكلية.

_ اخرس وكل يا سيد.

إقرأ أيضا: آسوم حفيدة الجن

يضحك سيد بفم ممتلئ ويوجه هاني نظره لآخر الحارة. كانت الحارة معروفة بكثرة ورش السيارات، وسبب هذا امتعاضاً لبعضاً من سكانها بسبب ما يترتب على ذلك من آثار. وكان سيد يملك الورشة المجاورة لهاني، فحسنت معرفتهما وتصاحبا، فصارا يقضيان معظم أوقاتهما سوياً أثناء العمل، وكان سيد في مظهره قبيحاً بمعايير هاني، لكنه داخله طيب مثله، وأدرك هذا لما رأى منه في تعامله مع الزبائن صدقاً وأمانة، ولمواقف أخرى بينهما وحولهما أبانت له طينة سيد وأصوله. يتجشأ الأخير بصوت عال وبدون سبب كما اعتاد، فيتنهد ويقول:

_ الحمد لله. أيامنا فل مع رجوعك يا هاني.

_ لم أغب غير ليلة البارحة. أين كنت بالمناسبة؟

_ تكتم السر؟

يقول هاني ساخراً:

_ كنتَ على القمر أم ماذا!

يقول سيد بميوعة لا تناسب سنه أو شكله:

_ يا ليت! البارحة كنت أزور القمر نفسه.

ينظر هاني لزميله الذي يواصل:

_ ليتك رأيتها وهي تفتح لنا الباب فتقابلنا بالبيجامة يا فتلة!

_ بالتأكيد تقصد شخصاً غيرها.

_ بل هي بشحمها ولحمها.

_ جيدة لكن العب غيرها.

_ لماذا؟

_ لأنها كانت تجلس معي هنا أثناء مقابلتك لها المزعومة.

_ نواعم؟ نواعم كانت في بيتها، استقبلتني أنا وعمتي، طلبت يدها.

_ أي هراء…

_ وقالت ستفكر.

_ فيك!

_ تزوجت علاء خرية، ما الذي يمنعها من الزواج بي!

_ وهل علمت الذي حدث له؟

_ ولماذا قد أهتم؟

_ لأنك قد تلقى مصيره.

_ أتمنى! لقد لمس تلك الجوهرة.

_ لقد مات، أكلته الذئاب.

يضحك سيد ويربت على كتف هاني:

_ أواعٍ أنت لنفسك!

_ لقد رأيتها بنفسي تأكله.

_ قل الكلاب البلدي، وأكبر ما ستفعل عضه من مؤخرته.

يقولها ضاحكاً فيرد هاني بعصبية:

_ جدياً.. هل قابلتها فعلاً؟

يرد سيد وآثار البسمة لازالت حاضرة على محياه:

_ لماذا الشك؟

_ متى؟

_ بعد المغرب بقليل.

_ مستحيل!

_ لماذا؟

_ لأنها كانت تجلس مكانك في ذلك الوقت.

يرخي سيد ظهره إلى الكرسي ويقول بجدية:

_ أتعلم ما قاله لي عتمان الذي شهد على الموقف بأكمله؟

_ ماذا؟
_ قال إنك جلست تحادث نفسك ثم فقدت وعيك.

_ نواعم كانت معي، الجميع رأوها.

_ اسأل الجميع.

ينادي هاني أحد صبيته، فيهرع الأخير إليه.

_ البارحة بعد المغرب، ماذا حدث؟

يتردد الصبي في البداية، قبل أن يقول:

_ فقدت الوعي يا معلم.

يضربه هاني بخفة على رأسه:

_أعلم أني فقدت الوعي، قبلها.. ماذا حدث؟

_ كنت تصرخ على أحدهم.

ينظر هاني لسيد مغرضاً:

_ أرأيت؟

يقول سيد:

_ أكمل يا طاطا.

فيكمل الصبي طاطا:

_ نظرت ووجدت أن لا أحد مع المعلم.

يبهت هاني في صمت وبعد ثوان يشير للصبي أن يذهب فيفعل، يقول سيد:

_ المغرب غريب، أصليته البارحة قبل أن تقابلها؟

_ نعم.

_ ما رأيك إذن أن تأخذ قسطاً من الراحة هذا الأسبوع؟

يكاد هاني يرد لكنه يسمع صوتاً ناعماً يعرفه:

_ يوم على الأقل.

ينتفض هاني وينظر لمصدر الصوت ليجد أنها نواعم نفسها تجالسه مكان سيد. يقف مذعوراً متسع العينين فيجدها تسارع لتسنده على الوقوف.. يحاول إبعادها ليجد أنه يبعد سيد نفسه. يقول الأخير بخوف:

_ هل أنت بخير؟

ينظر هاني حوله باحثاً عنها لكنه لا يجدها. عاصفة تدور في رأسه، وسؤالاً لنفسه يغلبها، هل جننت؟

إقرأ أيضا: الوردة السوداء

**

كانت حسب علمه في التسعين من العمر. ولم يرها كثيراً في حياته قياساً على عمرها الطويل، وعلى علمه لسكنها الشارع قبل أن يولد هو. منحنية القامة كثيرة اللهاث، تضع غطاء رأس بال، وترتكز على عصاها بوهن. كان يمكنه تخمين قدراً من جمال شبابها، وسمع من زوجته شوقية أنها لم تتزوج قط. قالت، المسكينة فقدت حبيبها وخطيبها في حرب العدوان، وكان بينهما الذي لا يوجد بين أي متحابين، فأوفت له بعد الممات حتى عزف عنها الرجال لسنها. رآها جزء منه امرأة أخلصت لقضيتها، وجزء آخر يراها امرأة دمرت حياتها وأوقاتها السعيدة. ولم يدر أيلومها أم يشعر تجاهها بالشفقة. رجفت إذ تقول:

_ لا أذكر يا ولدي.

_ امرأة فارعة يا أمي، خبيثة قليلاً جمالها يغوي، جاءتكِ مع رجل قذر الرائحة قبل عدة أعوام ليشتروا الشقة. اسمه علاء.

ترجع رأسها المرتجف إلى الوراء قائلة:

_ تقصد نواعم؟ لماذا لم تقل نواعم! نعم أعرفها بالطبع، هذه لا تُنسى.

يقول هاني متلهفاً:

_ أريد معرفة أي معلومات عنها!

_ لماذا؟ اسمع يا هاني يا ولدي. ابتعد عنها. نواعم ليست امرأة للمعاشرة.

_ أعرف أعرف… أريد أن أعلم عنها أي شيء.. رجاءً!

_ أعرف أنها جاءت من الشمال… أهل البدو… قالت لي هذا يوم تقابلنا.

_ هل تحادثتما كثيراً؟

_ لا أبداً… كلام عام.

_ وماذا قالت أيضاً؟

_ ليس الكثير عن نفسها… ما قلتهُ فقط. ذاك ما أذكره.

ينظر هاني حوله مهمهماً، وقد كانا يجلسان في شرفة منزل العجوز، فتصلهما أصوات الحارة من ضجيج بشر وسيارات وأبواقها. وحولهما انتشرت أصيصات نباتات وزهور تعنى بها مضيفته. هب عليه نسيم جميل حمل عبق المزروعات فزال تعكر مزاجه بعضاً. يقول عائداً إليها:

_ كيف كانت؟

_ فاتنة طبعاً.. جميلة ولحمها طري.

يضحك هاني أخف الضحك فيقول متهكماً:

_ وهل ستقولين لي!

ويمد يده ليداعب إحدى النباتات سائلاً:

_ لكن كيف عرفتِ أني يجب أن أبتعد عنها؟

تصمت العجوز قليلا قبل أن تقول:

_ كنت أملك قطاً. سباعي، شيء هكذا، يحببني أكثر في الحياة. رأته نواعم وعلاء لما جاءا إليّ ليشتريان شقتي الأخرى قبل سنوات. نظرت إليه مطولاً قبل أن تقول لي هامسة أنه سيموت قريباً، ظننتها تمزح فضحكت، لكنها كررت همسها مؤكدة أنها جادة.

يصغي هاني باهتمام بينما توقفت العجوز لتمسح دمعة فرت منها. يقول:

_ لا تقولي أن…

_ مات سباعي بعدها بأسبوع فعلاً.

يجمد وجه هاني إذ لا يدري ما يجب قوله للعجوز المتأثرة أمامه:

_ آسف لسماع هذا.

_ بل آسفة أنا لتأثري. اسمع يا بني.. هذه المرأة ساحرة.

_ تقصدين جميلة؟

_ لا بل ساحرة حقيقية.

ينكمش وجه هاني وفي أذنه يسمع صوت عجوز أخرى أخبرته بذات الكلام قبل سنوات.

**

كان يمشي من المخزن إلى ورشته في تثاقل حينما سمع صوت سيد من ورائه:

_ فتلة يا خبيث.

يلتفت له مواصلاً المشي:

_ ماذا تريد منه الآن يا سيد.

يسرع الأخير حتى يصل لهاني، فيقول وهو يضع ذراعه
حول كتف هاني:

_ لم تقل لي أنك قابلتها.

يقف هاني فجأة، وكان بيده شيء فيرميه على الأرض محدثاً ضجة. يقول بانفعال:

_ اسمع يا سيد، لا أريد أن تذكر لي سيرة هذه المرأة نهائياً! أمامي اعتبرها لم تأتِ لحارتنا.

يقول سيد وقد خاف بعض الشيء من تعامل هاني معه:

_ لكنها قالت أنك ستذهب لها بنفسك.

_ قالت ذلك؟

_ نعم. قالت سيحدث شيء وستعود لها، لأنك تعلم أنها تعلم. شيء كهذا.

يستعيذ هاني من الشيطان ويمضي حاملاً ما أسقط.

يتبعه سيد:

_ لم أكن أعلم أن بينكما تواصل.

_ ليس بيننا تواصل.

_ لا تكذب.

_ قلتم أني كنت أكلم نفسي.

_ غير تلك المرة.

يشتمه هاني فيقول:

_ اتركني لحالي.

إقرأ أيضا: ميس إيجيبت ” لعنة الجمال”

حينئذ يرن هاتفه فيخرجه بيد واحدة ويرد حين يرى أن المتصل زوجته، لا يسمع شيئاً سوى نواحها غير المفهوم. يعرف أن شيئاً قد حدث فيجري مهرولاً إلى البيت ويتبعه سيد بعد إدراكه هو الآخر بحدوث أمر جلل. كان البيت قريباً مما استغرقهما عدة دقائق للوصول، وإذ حدث ودخلا، يجدان شوقية في الصالة تمسك بعزة، أصغر بناتها وهاني، وكانت مسجية على الأرض فاقدة وعيها. يهرع هاني فيمسك بالصغيرة ويسأل عما حدث، تجيب شوقية بين المخاط والدموع بكلام اختفى بعضه وغدا البعض الآخر غير مفهوماً:

_ ترسم.. تضحك… ظننتها تحادث… ارتطام… مغمى عليها.

يقوم هاني فيدخل لغرفته كي يجلب مالاً وبطاقته الشخصية، ويعود إلى الصالة ليجد سيدأ قد حمل عزة وخرج بها، وقد قدر أنهما سيذهبان بسيارة هاني إلى مستشفى أو طبيب فرأى ألا يضيع وقتاً ويسبقه إلى السيارة. تقول شوقية وهي تتشبث بهاني:

_ خذني معك!

يدفعها برقة ويقول بحزم:

_ ابقي مع العيال.

يزداد نحيبها فيسأل:

_ ماذا حدث؟

تقول وقد هدأت نفسها برؤيته فاتضحت نبرتها:

_ كانت ترسم وتضحك. سمعت صوتها فظننتها تحادث أحداً، بعدها سمعت صوت ارتطام أو صوت ضربة، خرجت مسرعة من المطبخ فأجدها في الصالة مغشي عليها.

_ ترسم؟ ومنذ متى وهي ترسم!

_ هذا ما رأيته بعيني!

يمشي هاني بعدها مسرعاً ليلتقط الورقة التي كانت مرمية على أرض الصالة التي من المفترض أنها رسمة عزة ابنته، يضعها في جيبه ويخرج ليجد سيد ينتظره أمام سيارته.

**

جلسا جانب بعضهما. كلاهما يشعر بالخجل من الملابس المتشحمة السوداء في رحاب المستشفى الأبيض الناصع، وكلاهما يستأنس بوجود الآخر، أن كل واحد منهما ليس وحده متسخ الملابس. أما الأكثر امتناناً فكان هاني لسيد، ذاك أن الأخير رفض إلا أن يبقى معه، يقف أينما يقف ويجلس أينما جلس. يسمع هاني صوت شخيره. مغمض العينين ينادي:

_ سيد… سيد.

يغمغم سيد بشيء على سبيل الرد. يقول هاني:

_ عد لبيتك الآن. لم تقصر يا صديقي.

يتكلم سيد وقد صدرت كلماته ناعسة بطيئة:

_ العب غيرها. رجلي على رجلك.

_ على الأقل نم في سريرك وعد صباحاً.

_ عد أنت لو تريد.

يستسلم هاني أمام سيد النائم ويفتح عينيه ليطالع الردهة شبه الفارغة. ثمة بشر على الجانبين، وثمة نوم يحوم في المكان. ينظر أعلاه بملل فيرى لافتة مكتوب عليها قاعة الزوار. يسمع صوت سعال يتردد صداها في الأرجاء ولا يتعب نفسه في البحث عن مصدر الصوت. غالبا هو أحد الزوار النيام، يتذكر الورقة التي أخذها من صالة منزله قبل ساعات، أخبرته شوقية أن عزة ابنتهما كانت ترسم شيئاً قبل أن يغشى عليها، فأخذ الورقة بعد أن خمن أن ذاك حتماً ما رسمته. وفي المشفى أخبروه أنها حمى شديدة ولم يوضحوا الأسباب إنما وضحوا حاجة عزة للحجز والعناية الفورية.

يفك طوية الورقة ليرى ما بها. كانت رسمة رديئة بالأقلام الملونة، رجل صُور بنقطة للرأس وخمسة خطوط للجذع والذارعين والساقين، حوله سبعة من الكلاب كما رأى. بعيون حمراء وأنياب طويلة. رُسموا كما رُسم الرجل، بطريقة بدائية، قريباً من الكلاب ومن الرجل تقف امرأة، ليست في دائرة الموت تلك لكنها تجانبها، وتقف أمام شيء برتقالي ذو تعرجات حادة كثيرة خمن هاني أنها نيران. الأرضي كلها صفراء، وثمة لون أحمر متناثر بندرة على الأصفر. وهناك أيضاً كلمة صغيرة مكتوب فوق رأس الرجل، يحاول قراءتها لكن نظره لا يسعفه، يحتاج لنظارة القراءة، عقلة متورم، صداع قلة النوم يكاد يفتك به. المشهد ليس غريباً عليه. شعر رقبته يقف بدون سبب واضح. ينزل يده بالورقة ويفرك عينيه باليد الأخرى.

إقرأ أيضا: قلم الساحرات

_ ما هذا؟

ينتفض ذاهلاً فإذ به سيد. يلكزه في كتفه بعنف:

_ يا بني آدم!

يضحك سيد وهو يتناول الورقة من يد هاني:

_ لا مؤاخذة. أرني هذا.

يرفعها أمام عينيه متفحصاً بدقة، تاركاً هاني يزفر بضيق وهو يمرر يده على صلعته بانفعال، يفكر في شوقية، في حتمية بكائها الآن بعد اتصاله بها قبل ساعتين تقريباً وإخبارها باضطرارهم لحجزها. يتخيلها وهي تولول في مكانها، يتخيلها ونار تأكل بصدرها. تقول لإن حجزوها فثمة شيء.. والله ثمة شيء!

_ بابا.

ينظر هاني لسيد:

_ ماذا؟

يشير سيد للرسمة:

_ بابا.. مكتوبة فوق رأس الرجل.

يزاحمه هاني فيما يريان فيأخذها منه، يقرب الورقة لعينيه حتى يختفى الظل الذي يجعل الكلمة مشوشة، وحينئذ يري الحروف بخط طفل لكنها مقروءة.. بابا. يسأل نفسه متعجباً. البنت ترسمني؟ وهو حينذاك يتذكر الحلم. نواعم وعلاء محروس، الذئاب. أكانوا سبعة؟ أكلاب في الرسمة أصلاً! ليسوا كلاباً بل ذئاب! يقول سيد:

_ اسمع. هذه المرأة خطيرة جداً. إني أفهم الآن.

_ تفهم ماذا؟

_ أفهم لماذا فعلت ما فعلته. هاتفت علاء محروس بعد اختفائه. أردت أن أخبره بموت أمه.

_ وماذا في ذلك؟

_ أخبرني ببعض الأشياء. لم أصدقه.

_ مثل ماذا؟

_ هي تريد الأطفال يا هاني. تريد الأطفال!

_ أي…..

يقاطعهما صوت هاتف:

_ عزة هاني… عزة هاني يا جماعة.

ينظران لمصدر الصوت فإذ به طبيب مقيم.. يقول هاني هرعاً ناهضاً:

_ نعم.. أنا والدها.

يطالعه الطبيب بشيء من الاشمئزاز، قبل أن يقول وهو يلتفت ليمشي في الردهة:

_ تعال.

يمتثل هاني لما قيل وكذا يفعل سيد. يقول الطبيب بنبرة معاتبة عنيفة:

_ كيف تتركان الفتاة كل ذلك الوقت!

_ أحضرناها فوراً إلى هنا.

_ العضة لها أيام وربما أسابيع يا محترم!

يسأل هاني بدهشة:

_ أي عضة؟

_ ابنتك معضوضة، مع التحاليل اكتشفنا أنه داء الكلب.

_ كيف!

_ في بطنها، العلامات واضحة.

_ استحالة. أقول لك استحالة!

_ لا تستبعد شيئاً.

_ لكنها لم تقل شيئاً ولم نلحظ عليها أي علامات!

_ لست مهتماً بذلك، الذي أهتم له أن ثمة حالة مريضة أمامي تستوجب العلاج. بأي حال الأخصائي سيمر غداً، وسأعرض حالتها عليه.

_ وعليّ الطلاق ما غابت عنا دقيقة!

_ أصدقك.

_ هاه؟

_ العضة غريبة.. ليست عضة كلب أصلاً.

_ كيف؟

_ رأيت حالات عض مختلفة لأن حالات عض الكلاب شائعة في المناطق المجاورة، هذه ليست عضة كلب.

_ وهل مرض الكلب هذا يمكن أن يأتي من حيوان آخر غير الكلاب؟

_ طبعاً.. حيوانات عديدة، الذئاب مثلا..

يتبع …

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى